الحوار.. في زمن الاتهام!! في ذاكرة الإنسان العربي تتكرر الأسئلة وهو يعيشُ ملامح الوجود والوجوه, يتساءل عن إرهاصات الغد القادم بتسارع عجيب تختلط فيه الرؤى وتتقابل المقولات وتتعانق الأفكار أو تتعارض وتتكرر الحوارات ويستمر النقاش كأنما هذا العالم العربي يعيش عصر ولادة جديدة حتى لو لم تكن في بعض الأحيان هي أفضل الموجود. ويقولون وما أكثر ما يقولون.. يقولون بأن على العالم العربي أن يعيش عصراً تتسارع فيه العلوم وتنتشر الأفكار وتتعدد منجزات التقنية الرهيبة في العلوم والاقتصاد وفي الخدمات البشرية ومشاريع السوق وثقافة العولمة, كأنما العالم العربي اليوم لم يعد ذلكم العالم المحاط بالأسرار والخصوصية والهالات التاريخية لقد تغيرت الدنيا وعليه أن يتغير معها قليلاً أو كثيراً بل هو في طريق المزيد من المتغيرات بعد أن أصبح جزءاً من سكان الكوكب المأهول بملايين البشر وملايين الأفكار. ولو عاد هذا المواطن العربي اليوم بالذاكرة إلى الوراء يتأمل مسارب أبنائه وأجداده الذين أراحوا واستراحوا عندما عاشوا حياة الفطرة وأزمنة الصفاء فكانوا يتأملون جمال الكون حتى في القمر والنجوم في الحركة والسكون. لم تكن حياتهم مُعقدة. لم تكن أزمنتهم مرهقة. تحملوا شظف العيش وذل الحاجة, لكنهم مغمورون بالإيمان والاحتساب والحب. كان منهم من يموت جوعاً أو مرضاً دون أن يدري به أحد. وتبدلت الأحوال وتغيرت الملامح ليصبح اليوم أحفاد الأمس ربما يموتون من التخمة وتعدد الألوان وأشكال الترف والسرف. هذا العالم اليوم يعيش زمناً آخر وفكراً آخر وإمكانات أخرى, لكنه يعيش رحلة قلق وصلف, وقد يضيق بالزمان والمكان. إنه زمن الغربة التي تزحف على العديد من مألوفاته وعاداته وأساليب عيشه. لقد تبدلت الأفكار وتغيرت الأحوال ليصبح حفيد الإنسان البسيط مغموراً بعصرٍ بالغ التعقيد, كأنما تتهيب شرائح من العالم العربي دخول التجربة وخوض الصراع العصري الذي يقوم على إعلام لاهبٍ راكض متدفقٍ بالإغراء والافتراء. ومع هذا وبعد هذا فهو مطالبٌ -في زحمة المزادات الإعلامية التي تشتعل بالمعارك- أن يخوض غمارها لكي يعيش تجربة العصر ليُدافع عن وجوده وعن ثقافته وعن قيمه وعن تاريخه وعن استمرار أجياله, كأنما واجب الإنسان العربي المعاصر المحاط باللاءات والمحظورات أن يترفع عن الكلمات المخطوفة والأفكار المدسوسة وأن يرفض الإعلام المعتم ليواجه التغيير بالانضباط والمعرفة.ومن ثم لابد من الحوار القائم على دعائم مؤسسية تحتكم إلى الرؤية الغالبة والمشورة الناجحة. واجب هذا الإنسان العربي القادر على المشاركة أن يواجه الزيف بالحوار المتحضر. واجبه أن يرفض التحجيم والتزوير وادعاء الوصاية على وجوده وفكره وغدِ أجياله واستمرار قناعاته. ونحسب أن العالم العربي في ظل الاختيار الأمثل في أمس الحاجة إلى ثقافة الإعلام المعرفي القائم على المنهج. فكما كانت المعرفة هي الطريق إلى الحقيقة وإلى القناعات لدى الآخر, كانت القراءة النفسية الهادئة الطريق إلى المعرفة وإلى التأثير الإيجابي في الآخر. والإعلام الذي يحترم المعرفة يتمكن من توظيف العلاقة بين الإنسان والحقائق, بين الإنسان والمعلومة الصحيحة. ولعل عقدة الإنسان العربي في تاريخه المعاصر هي تغييب الحقيقة ونقص المعلومة. وإذا كان ثمة علاقة بين الإعلام وطرح المشكلات الإنسانية فإن هناك علاقة أكيدة بين الإعلام والتعليم. فعندما يصبح الإعلام إشهاراً للمعرفة يبقى التعليم هو التوطين للمعرفة أولاً في أذهان الأجيال, وكلاهما يفتقران إلى القيمة الأخلاقية في الإبلاغ والتبليغ, وإذا كان ثمة مواجهات بين الإنسان العربي اليوم وبين المخاضات المتلاحقة من حوله فإن أقرب الطرق إلى الصواب أن يعترف الإنسان بالخطأ أولاً وطريقنا إلى الإقناع هو الإعلام الهادئ وليس الإعلام الهادر, الإعلام الذي لا يُؤلّه أحداً ولا يدّعي العصمة لأحد, لكنه يفتح نوافذ الضوء على إشكالات العصر وقضايا الإنسان لكي يُواجه الحرب النفسية التي يدفع بها الإعلام الغربي والشرقي على حدٍ سواء, بالاعتدال والهدوء وطرح الحقائق الإنسانية ومواجهة الإعلام الظالم الذي يجعل من الأبرياء متهمين ومن المعتدين مناضلين. وفي لحظات الاحتباس والخوف وتغير الأساليب واللهجات الإعلامية نفتقر دائماً إلى الهدوء وإلى مراجعة المواقف للخروج من معارك الاتهام والأفكار المخيفة. لابد أن نتبنى فكراً إعلامياً يعتمد المعرفة القائمة على المنهج من أجل أن نواجه المعارك القائمة والقادمة. لابد أن نقرأ جيداً ما يقولون وما ينشرون وما يبشرون وما يخططون. والله المستعان. |