رجلٌ أمام دبابة وخندقٌ يصد طائرةً! ليست كل المعارك عسكرية، أو اقتصادية، أو سياسية... فحسب، بل ثمة معارك ذهنية أيضاً بين الصور النمطية التي ينسجها كل فريق من المتصارعين للآخر. يسهم في صنعها التاريخ والثقافة والإعلام والتكرار. وقد تتهاوى إذا ما تغير الواقع الذي ينتجها والظروف التي أنشأتها. وخطورة الصور النمطية أنها سلاح فتاك في المعارك، تؤثر في المحاربين. هل يحارب الجندي شبحاً أمامه، أسطورة، وهما، رجلا خارقا للعادة... إلى آخر ما صورته السينما الأميركية مع رامبو، طرازان، الإنسان الآلي، حرب الكواكب... أم يحارب شخصاً مثله، جندياً عادياً قد ينتصر وقد ينهزم طبقاً لقدرته على حمل السلاح وتخطيط قيادته؟ من ضمن الصور الذهنية بيننا وبين العدو الصهيوني، الكم والكيف. فنحن كم بلا كيف وهم كيف دون كم. العرب ثلاثمائة وخمسون مليون نسمة، الإسرائيليون خمسة ملايين في فلسطين المحتلة. والمسلمون مليار وربع، واليهود على مستوى العالم أربعة عشر مليوناً، معظمهم في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة نيويورك. ومع ذلك يغلب الكيف الكم، والقليل الكثير. وهو ما لاحظه جمال الدين الأفغاني من قبل، حين صرخ في المسلمين: والله لو كنتم ذباباً أو جراداً وحططتم على الجزيرة البريطانية لأغرقتموها. وقد تجلى ذلك في ذريعة العدوان الصهيوني على ما تبقى من فلسطين في قطاع غزة والضفة الغربية بأسر جندي إسرائيلي بعد عملية فدائية نوعية داخل الكيان الصهيوني، وتبرير العدوان الصهيوني على لبنان بذريعة أسر المقاومة اللبنانية لجنديين في معركة عسكرية بين جنود وليس خطف كما يفعل قطاع الطريق. ويرفض الكيان الصهيوني تبادل الأسرى كما هو متبع في كل الحروب. ففلسطين والكيان الصهيوني في حالة حرب منذ عام 1948. وفلسطين كلها محتلة. وأعيد احتلال القطاع بعد الانسحاب منه. ومزارع شبعا محتلة في لبنان. وفي سجون إسرائيل أكثر من عشرة آلاف أسير عربي، قبض عليهم في منازلهم اختطافاً، كما حدث في سجن أريحا. فإسرائيل لا تريد تبادل الأسرى بحوالي ألفين من الأطفال والنساء العرب، طبقاً للمواثيق الدولية ومعاهدات جنيف. تريد إسرائيل الجندي حياً وكأن الآلاف من الفلسطينيين السجناء ليسوا أحياء. وتريد الأسرى جثثا فبدونها لا يكون له إعلام ورثة، ولا اعترافا بموت، ولا تصريحا بدفن طبقا للشريعة اليهودية. أسير إسرائيلي بألف فلسطيني أو بعشرة آلاف، كيفٌ في مقابل كمٍ. أحياء إسرائيليون في أيدي المقاومة، مقابل أحياء أموات عرب في السجون الإسرائيلية. وقد خلقت هذه الصورة النمطية على مدى الحروب العربية الإسرائيلية منذ عام 1948 وحتى الآن. ففي عام 1948 هزمت العصابات الصهيونية الجيوش العربية مجتمعة، بما في ذلك جيوش مصر وسوريا والأردن ولبنان من دول المواجهة، والسعودية والعراق من دول الجوار. واستمرت الصورة في هزيمة 1956 واحتلال سيناء وعدد القتلى الإسرائيليين بالمئات، في مقابل عدد الشهداء المصريين بالآلاف. واستمر نفس الأمر في هزيمة يونيو 1967 عندما كان قتلى الإسرائيليين بالمئات أيضاً، والشهداء المصريون بالآلاف، وصورة حزن الكنيست على قتلاهم، وصورة رقص أحد أعضاء مجلس الشعب المصري في المجلس فرحاً بعد تراجع الرئيس عن الاستقالة. وتغير الأمر في نصر أكتوبر 1973 عندما زاد عدد قتلى العدو الصهيوني، وقل شهداؤنا. الصور النمطية القديمة في حاجة إلى وقت حتى تنقشع أمام الوقائع الجديدة وتتكون صور نمطية أخرى. لا تكفي واقعة واحدة بل عدة وقائع حتى يحدث التراكم النفسي والذهني الضروري لنشأة صورة ذهنية جديدة. والآن تنقلب الآية. وينشأ واقع جديد على الأرض. فتتغير الصور النمطية القديمة، الكم العربي في مقابل الكيف الإسرائيلي إلى صور جديدة، الكيف العربي في مقابل الكم الإسرائيلي، المقاومة الشعبية في مواجهة جيش منظم، حزب في مواجهة دولة، رجل أمام دبابة، صاروخ يطلق على مدينة، خندق يصد قذائف طائرة، مقاوم في مواجهة فرقة، مقاوم يتحصن في المقابر، ويقاتل بمفرده من يحاصرونه من جنود العدو الصهيوني واستدعاء أمه لإقناعه بالتسليم وهو يقاوم. "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". ومن يصبر أكثر هو الغالب، واحد باثنين "إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألفاً يغلبوا ألفين"، وواحد بعشرة "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين"، "وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا". والكثرة لا تنتصر بالضرورة، "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم". فجيوش اثنتين وعشرين دولة عربية في مواجهة جيش واحد للعدو الصهيوني لا تعني النصر بالضرورة، ولا حتى كم السلاح بل نوعيته. إنما المهم هو أين المعركة، في العراق أم في فلسطين؟ ومن العدو، أميركا التي تابعناها، أم إسرائيل التي صالحناها وعقدنا معها المعاهدات وطبَّعنا معها، أم أميركا التي تعتدي علينا وتحتل العراق وأفغانستان وتهدد سوريا والسودان وإيران، من أجل تأسيس الإمبراطورية الجديدة بنداء إلهي، أم إسرائيل التي احتلت كل فلسطين وتدمر لبنان، وتهدد سوريا وإيران، وتقتل الجنود المصريين على الحدود من أجل إنشاء إسرائيل الكبرى باختيار إلهي؟ هل الأعداء من الماضي، الشيوعية في روسيا والتي تنكر الدين وتقول بالعنف والصراع الطبقي، وقد انتهى عصر الاستقطاب؟ هل العدو هو أوروبا التقليدية؛ فرنسا وإنجلترا وهولندا والبرتغال وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا، الدول الاستعمارية التقليدية الكبرى وقد انتهت بفضل حركات التحرر الوطني، وتوحدت دولها ويجمعها حلف شمال الأطلنطي للهيمنة عن بعد؟ أم أن العدو هو شبح قادم من الإسلاميين، شيعة كانوا أم سنة، داخل الوطن العربي وخارجه للقضاء على أنظمة الحكم الحالية لصالح "الحاكمية" أو "ولاية الفقيه"؟ وما قيمة التكديس العربي للسلاح وهو يتقادم جيلاً وراء جيل ويتقدم في الكيف وليس فقط في الكم؟ وما قيمة المليارات التي تصرف فيه مادام لا يستعمل ضد العدو الفعلي، ليس بالضرورة جيشا في مواجهة جيش بل تدعيما للمقاومة الشعبية ضد الجيوش الغازية؟ إن العدل قوة حتى ولو كان المظلومون ضعفاء. والظلم ضعف حتى ولو كان الظالمون أقوياء. وقوة المقاومة في رفع الظلم، وضعف الكيان الصهيوني في ممارسة العدوان. شجاعة المقاومة بالرغم من قلة حجمها أقوى من جبن العدو الصهيوني رغم كثرة عتاده ورجاله. وشرعية الحق أقوى من شرعية الباطل. تدمير فلسطين ولبنان، والاعتداء على المدنيين وشاحنات الغذاء والدواء وقصف المنازل وهدم البيوت... هروب من مواجهة المقاومة على الأرض. ولا فرق بين الإفراط في استعمال القوة واستعمال القوة، وكأن الجلاد مطالب فقط بالرفق بالضحية في ذبحها. إن تأسيس شرعية الكيان الصهيوني على القوة والعدوان في الماضي والحاضر لا يعني استمرار ذلك في المستقبل. فما أسس على باطل يبقى باطلا إلى آخر الزمان. فالميزان هو الأساس الذي قامت عليه السماوات والأرض. وهو رمز العدل في حياة البشر. وكما هُجّر الفلسطينيون بالملايين في نكبة 1948 ثم في نكسة 1967 فإنهم عائدون. وكما أن شعب إسرائيل من المهاجرين القادمين 1948 وبعده، فإلى بلادهم الأصلية سيعودون. مليونان مستوطن مهجّرون من شمال فلسطين هرباً من صواريخ المقاومة، وآلاف من المهاجرين الروس إلى إسرائيل، يعودون إلى بلادهم أو يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأميركية، احتماء بالنفوذ الصهيوني على الإدارة الأميركية التي تسيطر عليها المسيحية الصهيونية. إن التاريخ يعيد نفسه. فكما صرخت امرأة اغتصبها الروم في الشام "وامعتصماه"، تصرخ امرأة في لبنان أيضا "وا..."، لكنها لا تدري من تنادي؟ * نقلا عن صحيفة " الاتحاد" الاماراتية |