قصائد مسورة بتاريخ صنعاء - بين القصيدة والمدينة.. آصرة بقاء ورحيل - هنالك مدن ارتبطت بأسماء شعراء وكتاب مثل الاسكندرية التي ارتبطت باسم (كافافيس) و(غرناطة) باسم (لوركا) و(دبلن) باسم (جيمس جويس) التي جعلها مسرحا لروايته ذائعة الصيت (عوليس) حتي قيل لو هدم زلزال هذه المدينة لاستطاع المهندسون والبناءون اعادتها وفق الخريطة التي رسمها لها (جويس) في روايته. لذلك اصبحت المدينة تحتفل كل عام باليوم الذي تدور فيه احداث الرواية و(البصرة) باسم محمد خضير صاحب كتاب (بصر ياثا) اما صنعاء فقد ارتبطت باسم شاعرها عبدالعزيز المقالح ليس كحضور جغرافي ووجداني اذ انه لم يغادرها منذ اكثر من عشرين سنة بل كحضور ابداعي، فقارئ شعر (المقالح) يلاحظ كثرة استخداماته لرموز صنعانية كنقم وقصر غمدان وباب اليمن وعيبان وما الي ذلك من اسماء شوارع وجبال ووديان فكل زاوية في صنعاء تنبض بالتاريخ والشعر ويكفي ان اسم مقبرة خزيمة دخل العديد من النصوص الشعرية ومن زار صنعاء وذهب الي باب اليمن سيشاهد بالتأكيد جمل معصرة الزيت الذي يدور منذ سنوات بعيدة هذا الجمل ذكر في العديد من النصوص الشعرية والكتابات القصصية والصحفية. ويأتي كتاب صنعاء الصادر عن دار رياض الريس بيروت للشاعر عبدالعزيز المقالح ليقدم قراءة شعرية لكل تفاصيل هذه المدينة العريقة لامسا احجارها ونقوشها وترابها ورائحة التاريخ التي تفوح من زواياها واحزانها وجراحات حيطانها ومنذ الكلمة الاولي يدخلنا في جو اسطوري من خلق الشاعر ليوهمنا بأن صنعاء: كانت امرأة هبطت في ثياب الندي ثم صارت مدينة وتتكرر هذه الابيات في خاتمة الكتاب لتكتمل دورة الاسطورة وما بين فاتحة الكتاب وخاتمته تدور مخيلة الشاعر في فلك اسطوري يمتزج فيه التاريخ والجغرافيا: ذات حلم هبطت علي سلم من اساطير محفورة في ضمير الزمان فصنعاء بالنسبة للشاعر اكثر من مدينة تحتوي علي أزقة ودروب واسواق وحارات وفتيات جميلات يوكل اليهن اعداد بنت الصحن اكثر من بائعة الملوج في سوق القاع التي تعرض للبيع رائحة الخبز الصنعاني وحفلا من العسل (الدوعني) والقهوة اليمنية والزبيب في سوق الزبيب انها حلم الشاعر المبهم: هي واضحة مثل كف صغير لطفل ومبهمة كالأساطير لذلك يبحر الشاعر عبر الأزمنة متجاوزا لحظته الحاضرة مستشرقا آفاق الغد فاتحا خزائن ذاكرته باحثا عن ايامه في شتاء الطفولة وهناك يعثر علي وجه (مريم) الطفلة التي تعلق بها قلب الشاعر عندما كان صغيرا لكن (التيفوئيد) أخذها منه فبقي اسمها محفورا في وجدانه ليلفه حزن عميق فيقف مبكراً امام حقيقة الموت: هل تستطيع ذاكرة المقابر الواقفة عند تخوم المدن ان تقول لنا شيئا عنهم؟ هل يتذكرنا الموتي كما نتذكرهم وهل تطاردهم مثلنا أظافر الكهولة وأنياب الشيخوخة؟ هل ظهرت التجاعيد علي وجه (مريم)؟ وكتاب صنعاء كتاب مديح يبلله عشق صنعاء وهو كتاب تاريخ وجغرافيا واساطير وفنون وعلوم لذلك اطلق الشاعر علي مؤلفه اسم كتاب ولم يسمه (ديوانا) لان تسميه كتاب شاملة تتجاوز الحدود الضيقة للديوان الذي تقتصر علي الشعر وكذلك اراد ان يعطي عمله نوعا من الفخامة التي تجد صداها في وجدان المتلقي لها لهذه التسمية من وقع مقدس علي مسامعنا ولكي يعطي الشاعر صفات الكتاب علي مؤلفه وضع له مقدمة وعرضا وخاتمة وعمد الي حذف اسماء القصائد ليستعيض عنها بالارقام كتابة وبذلك تتجانس كتابة الارقام واسم الكتاب الذي جاء علي شكل قصيدة طويلة مبوبة الي قصائد قصيرة مرقمة وتلي كل قصيدة مقطوعة نثرية وفي ذلك كسر لما اعتاد الشعراء عليه بتقديم قصائدهم ببضعة سطور نثرية فالمقالح في هذا الكتاب يقدم الشعر علي النثر لمكانته السامية في وجدان القارئ العربي فالشعر ارقي من النثر كما وصف النقاد القدماء وتمييزا لها عن الشعر جعل طباعتها بحرف اسود بارز وهي لاتشرح ما سبقها من شعر موزون بل تعمق الافكار وتوسع من ابعاد معانيها عبر تساؤلات تنقلنا الي جو مليء بالتأملات الصوفية: أهي طعنات التاريخ في حاضرة الجبل ام عيون الكبرياء منحوتة في جوف صخر لا يتألم؟ في هذه الجيوب الصخرية تخبئ الجبال مفاتيح المدينة وتطوي اسرار القرون وكأنه اراد بوضع هذه المقطوعات النثرية نقل خطابه الشعري الي مستوي تعبيري اخر للتنقيب في طاقة اللغة عن المخبوء من اسرارها الكامنة وعبر هذا التنويع في الاداء يحاول الشاعر الاحاطة بتفاصيل غائصة في اعماق هذه المدينة التي هي عاصمة الروح. ابوابها سبعة والفراديس ابوابها سبعة كل باب يحقق امنية للغريب وهي ذاكرة تتحرك وهي سيدة الضوء وهي في عمر سام بن نوح وهي لي ولكم وهي صنعاء لا تعرف الليل وهي سمسرة للنحاس وللفن وهي واضحة مثل كف صغير لطفل وهي مؤمنة يتدفق ايمانها كالنوافير وهكذا يفتتح الشاعر العديد من قصائده بضمير الغائب المؤنث هي تذكيرا للقارئ بمفتتح الكتاب الذي وضعه ليسرد حكاية امرأة هبطت في ثياب الندي ثم صارت مدينة فضمير الغائب هي يعود علي تلك المرأة التي اصبحت مدينة ويعمد الي تكرار الضمير هي في مفتتح بعض القصائد تأكيداً لغياب احاط بالشاعر من كل صوب غياب حبيبة.. اصدقاء.. دروب قديمة وهذا الغياب الممزوج بغيبوبة الشاعر المغرم بعشق هذه المرأة والمدينة التي يلفها الغموض: يالصنعاء سيدة لا تبيح السفور وترفض ان تقرأ الشمس ان يقرأ الليل اوراقها او يلامس سر الطلاسم في اللوحة الغامضة اما (هو) فيصف نفسه بقوله هو مجذوب صنعاء يمشي علي قلبه ويسافر فوق بساط من الشطحات الجميلة لا اصدقاء له غير توت البيوت يناوش اطفالها وعجائزها بالاساطير لذا فكتاب صنعاء كتاب عشق امراة تحولت الي أحجار وبوابات قديمة تطل علي الماضي الموصول بخيط خفي ينفتح علي المستقبل حيث يري الشاعر بوابات هذه المدينة المسورة بالتاريخ تنفتح علي شمس تفخر حجارتها لتعيد تشكيل المدينة الي امرأة ترتدي ثياب الندي وقد كتبه المقالح ليؤكد لنا ان الشعر العربي ما يزال بخير وان تجربته الشعرية تحقق قفزات عريضة في أفق الحداثة الشعرية العربية. نقلاً عن صحيفة الزمان |