مـستـويـات الـلـغـة الإرهابـيـة يأبى الغلو والتطرف، وما ينتج عنهما من إرهاب، إلا أن يأخذ دورته الكاملة، في رحلته البائسة، التي تبدأ من مجرد إقصاء للفكرة والسلوك إلى إقصاء للإنسان بوصفه متضمناً لمعنى "معتقد" قد تم إقصاؤه من قبل، لهذا السبب أو ذاك، حتى يصل إلى أقصى مداه، في تعمد القضاء على الحياة في كافة تجلياتها، حتى الرمزي منها. وهذه الدورة التي تتشظى خلالها الفكرة، يتشظى خلالها الموقف من الإنسان، بحيث تتساقط الأوراق الأنوية تباعاً، حتى تصبح هذه الأوراق - في نهاية الدورة الإرهابية - في دائرة الآخر المقصى، بعد ان كانت في دائرة الأنا. وربما لا يبقى في رأس الحربة الإرهابية - في بعض صورها - إلا الأنا الفردية، بعد إقصائها لكل ما سواها. إن هذا التشظي الذي تتسم به الظاهرة الإرهابية، يمكن ان تراه متعيناً في انشطار الحركة الخارجية "صورة الإرهاب الأولى في التاريخ الإسلامي" خلال مسيرتها التاريخية. فمنذ أن رفعوا أصواتهم بـ "لا حكم إلا لله" وإلى خفوت معالمهم الأولى "مع بقاء الفكرة وتشظياتها مرجعية يمتاح منها الفكر المتطرف المعاصر" في العصور المتأخرة؛ نتيجة التشظي الذي أدى إليه الإرهاب بالضرورة، وهم في رحلة انشطارية لا نهاية لها. وإذا كان هذا التشظي يسم الغلو والتطرف أياً كان، فهو ليس مقصوراً على الظاهرة الخارجية فحسب، وإنما هو منطق يحكم الغلو والتطرف أياً كان ميدانه، سواء كان ذلك في الفكر السلفي الغالي، أو الخارجي المارق، أو القرمطي الباطني، أو ... الخ، فكل منها مسيرة انفصال وتشرذم، لا مسيرة ائتلاف وبناء؛ لأنها - بالدرجة الأولى - فعل في الإقصاء والنفي. ولعل أظهر دليل على هذا التشظي عند الغلاة، أن حيزاً كبيراً في الفكر الإسلامي لديهم - قديماً وحديثاً - تشغله محاور في الاختلاف والتباين والتمايز، لا محاور في الاتفاق والائتلاف. وبهذا فالغلو والتطرف الفكري لديهم مسيرة هدم في الفكر في الواقع، مع انه في الظاهر بناء معرفي؛ لكثرة "التعليق والتحشية والتهميش!" عليه. ولهذا تكثر الانقسامات الداخلية في الفكر الغالي؛ كنتيجة طبيعية لاطراد الفكرة الغالية من جهة، وحرص بعض الأفراد على التوافق مع شروط الصراع ميدانياً وتأبي النظرية عليه من جهة أخرى. إن هذه الحلقة التي يدور فيها المتطرف في الواقع، فيزداد تطرفا وغلوا وإرهابا - مخلفا وراءه مجموعة من العلامات القابلة للقراءة - ما هي إلا لغة عنف آخذة في التصعيد؛ لأنها ليست إلا انعكاسا لحلقة كانت تمارس إرهابها قبل ذلك، على مستوى اللغة في مظهرها المكتوب أو المنطوق "إذ اللغة بنية فكر تتشكل في الوعي قبل أن تظهر على نحو محسوس كتابة ونطقا" ولم يحدث إلا ان هذه اللغة انتقلت إلى مستوى آخر، أي إلى لغة الفعل. إذن، فقد كان الإرهاب حاضرا كلغة في خطابنا، ولكنه لم يرتق إلى مستوى لغة الفعل. وإذا كانت اللغة بطبيعتها تبحث عن مستوى يتجاوز مستوى وجودها الفيزيائي المبدئي - خاصة في بعده اللاجمالي - فإن الفعل المتعين على أرض الواقع مطمح طبيعي تسعى إليه في مسيرة تحولاتها، ومن ثم، فإن كل تطرف في المنطوق أو المكتوب "وهما انعكاس لبنية الوعي، وفي الوقت نفسه، تعميم لهذه البنية، كي تتشكل لدى الآخر" سيأخذ - حتماً - طريقة إلى الواقع الفعلي، ولن يتردد في ذلك، إلا تحت هيمنة الشروط الموضوعية التي تفرضها جدلية الفكر والواقع. وإذا كان الخطاب الإسلامي في بعض صوره متسامحا مع نفسه ومع الآخر، فإن الصورة التي راجت لدينا، واصبحت تطبع مظاهر إسلاميتا لم تكن ذات لغة متسامحة، لا مع الداخل الإسلامي ولا مع الخارج اللاإسلامي. ولقد مارسنا كإسلاميين الإرهاب اللغوي في مستويات عديدة، ابتداء من إقصاء الآخر اللامسلم، مرورا بإقصاء الآخر الإسلامي المختلف مذهبيا أو إقليميا إلى إقصاء الآخر الإسلامي المحلي.. بل تطورت لغة النفي والإقصاء حتى أقصى الصحوي التقليدي الصحوي المستنير، إلى آخر تشظيات الإقصاء في الخطاب الإسلامي المعاصر. لقد كانت لغة الاقصاء "الإرهاب" واضحة في الخطاب الاسلامي المحلي خاصة، سواء كان سلفيا أو صحويا أو ارجائيا... إلخ. وإذا كانت الصحوية أكثر انفعالا بالوقائع المتعينة، فإنها بذلك أكثر موضعة للغة، وأشدها حماسا لذلك، ومن ثم فهي الأكثر فاعلية في تحويل اللغة من مستواها القولي إلى مستواها الفعلي، مما يعني انه وسيط مرن لنقل الفكرة - سواء كانت متشددة أو العكس - إلى الواقع. لهذا، كان انتقال الغلو السلفي إلى الفعل الواقعي انتقالا غير مباشر في أكثر الأحيان؛ لقصور السلفي عن الفعل في الواقع؛ نتيجة جهله بآليات الحراك الواقعي، وتجافيه عنه. ولهذا وجدنا هذا الغلو والتطرف يتم عبر الوسيط الصحوي، بوصفه حركيا بشكل أو بآخر، ومن ثم فهو الأقدر على أدلجة المفردات السلفية الغالية التي كانت ملقاة في الطريق تنتظر من يؤدلجها. ان هذه المهمة التي اضطلع بها الصحوي بوصفه مفعلاً للفكرة السلفية ومفرداتها الحادة في الواقع، جعلت الغلو والتعصب المتعين في الواقع "الإرهاب" حيثيات اتهام، سيحاول الصحوي تبرئة نفسه منها في كل مناسبة ارهابية. ولا شك ان هذا الاتهام - وهو اتهام على مستوى الجدل الفكري الدائر في الوقت الراهن على الأقل - يرتبط به مستقبل الحركة الصحوية ورموزها؛ لكون الارهاب بدأ يمس المجتمع ككل، ولم يعد الهدف مقتصراً على الآخر الغربي الذي استطاع الصحوي - بغباء - ان يجعله مكروهاً في اتباعه. إذن، فهذا الارهاب بدأ يمس الشريحة التي تسعى هذه الحركة لتجييشها، وهذا ما يتعارض مع الهدف "الدعوي - الدعائي" ولذا جاء الاستنكار والشجب واضحا الآن، بعد ان كان جمجمة لا تكاد تبين. لقد بدأ الارهاب قديماً، ولكنه كان مجرد لغة، بمفردات النفي والاقصاء، عبر تفعيل مفاهيم الولاء والبراء على نحو خاص، بحيث تعمم بواسطته الكراهية ضد اللاإسلامي أيا كان موقفه من الإسلامي، إذ يكفي كونه مخالفاً حتى يوضع تحت مشارط هذه المفاهيم التي تتم بواسطتها عملية تفصيل أجزاء الجسد الإنساني، ولن تلبث طويلاً حتى يتم بها تفصيل أجزاء الجسد الإسلامي. لكن هذا الوقوف عند حدود الاقصاء اللغوي المباشر كان في البداية؛ لأنه لم يكن من المنطقي ان تتحول اللغة من المستوى اللفظي الموجود لدى السلفي، إلى المستوى الفعلي الواقعي "الارهاب" المتماهي مع الخطاب الصحوي في خطوة واحدة، ولا في زمن قصير. كما لم يكن من المنطقي ان تتحول اللغة من مجرد بغض لـ "الكافر" إلى قتل للمسلم دون أن تمر بقتل ذلك الـ "الكافر" المعاهد، وبغض ذلك المسلم وتكفيره، الرسمي بداية ثم المدني نهاية. وبما ان الحدث الارهابي الأخير كان موجهاً بشكل واضح إلى محيط مدني مسلم مسالم، وان قصد به ابتداء غير ذلك، فقد خرج بعض من كان صامتاً عن صمته "سبق الكلام عن المكفراتي الصامت على نحو مفصل في مقال سابق" وشجب الحدث من لم يشجب أمثاله من قبل، وهذا يدل على ان الشجب والاستنكار من قبل هؤلاء الذين شجبوا واستنكروا أخيرا، إنما هو مقصور على هذا المستوى الذي وصلت إليه لغة الإرهاب في هذا الحدث "قتل المسلم المدني!"، بينما الموقف من الارهاب، بمستوياته الأولى - حتاى في صوره التفجيرية - هو الموقف السابق نفسه، تحفظ، وإدانة - إن وجدت - بألفاظ عامة، ولحن من القول يحمل تبريراً أكثر مما يحمل من إدانة صريحة. إذن، فالإرهاب كلغة تصاعدية لم يتم نقده ككل، في كافة مستوياته، من قبل الإسلامي، بوصفه المعني الأول بالبراءة من الظاهرة الإرهابية؛ لأن الارهابي يتكىء - بحق أو بباطل - على مقولات الاسلامي المتطرف فكراً، وإنما تم نقده في أعلى مستوياته، وهو المستوى الذي يصنف جريمة في مفهوم التطرف "قتل المسلم المدني". اما ما قبله من أحداث، فقد تم السكوت عليها؛ لأنها - وفق منطقه - لم يستهدف فيها المدني المسلم، وإن كان من ضحاياها. وهذا السكوت ليس في الماضي فحسب، وانما يجري ذلك في سياق إدانة الحدث الأخير ايضاً. إذ لا تتم فيه ادانة الأحداث السابقة، من قبل من تراجع عن صمته السابق فأدان الحدث الأخير.. ومن ثم فهو - في حقيقة الأمر - ليس تراجعاً عن موقف سابق بوصفه خطأ في معاينة الظاهرة، بل موقفه إنما هو من هذه الدرجة من التصعيد في لغة الإرهاب فحسب. وبهذا فالمفردات الإرهابية التي تموضعت على أرض الواقع أشلاء ممزقة في الأحداث الأخيرة، ما زالت بمنأى عن الإدانة والتجريم، ومازالت الذوات المروجة لها تتطلع لتفعيلها - بدعاوى طويلة، ومسميات موهمة - في الواقع الاجتماعي، ما أمكنها ذلك. وإذا كان المستوى العالي من الاقصاء "الإرهاب" اللغوي المجرد لا يمكن التصريح به الآن، إبان هذا الظرف الارهابي الدامي، فإن اللغة الأولى للنفي والاقصاء لا يتم التنبه لها في الغالب، لخفوتها من جهة، ولتلبسها بالمفردة الشرعية التي تطمئن إليها النفس من جهة أخرى. ولا شك ان بقاء الإرهاب على مستوى اللغة المجردة بقاء للإرهاب، أو على الأقل بقاء للقابلية للإرهاب، وسيبقى الإرهاب ما بقيت لغته، ومن ثم، فالمعركة معركة مع اللغة المجردة للإرهاب التي لا يمكن أن يزول خطر الإرهاب إلا بزوالها. |