ظفــار .. في ذاكرة التاريخ (ج 1-2) · إب المدينية التاريخية وحاضرة اللواء الموقع: تقع وسط اللواء الأخضر وهي مقر المحافظة وتضم العديد من المديريات والنواحي وكثير من القضاءات (جمع قضاء). وتتموضع عند أقدام جبل بعدان بين سهل السحول شديد الخصوبة وذي جبلة (مدينة جبلة) واتسعت المدينة في الأربعة العقود الأخيرة متصلة بالسحول، وميتم وبعدان وجبلة. وقد كانت قديما مدينة محدودة تسمى (الثجة) تتبع إداريا مخلاف ذي جبلة، أما اليوم فقد غدت مخلافاً مستقلاً وجبلة جزءاً منه. ونلاحظ أن للتسمية دلالات متعلقة ببيئة المنطقة كلها التي كانت ولا زالت مليئة بالأنهار والعيون المتدفقة طوال العام. إذ يقول ياقوت الحموي: ثجة بضم الحاء المعجمة ثم الفتح من مخاليف اليمن بينه وبين الجند ثمانية فراسخ وكذلك بينه وبين السحول نفس المسافة، فيقال ثُجَّ الماء إذا دفق بمعنى أنها اشتقت اسمها من طبيعتها غزيرة المياه المتدفقة صيفاً وشتاءً. ومعرض حديثه عن أودية اليمن. قال الهمداني في صفة جزيرة العرب * (الثجة) * من ذي جبلة وكانت عبارة عن خرائب آنذاك ويحدد الوديان (وادي رسياف فاتية الجند من شرقيه وشمالي جبل صبر ومن حدود القلاع الثجة من يمانيها) الهمداني. وهذا يدل دلالة واضحة أنها كانت مدينة قديمة ثانوية انتهت في مراحل سابقة ويذكر ذلك أن الهمداني في ذلك الوقت يحكي أنها تهدمت ودمرت وازدهرت مدن جديدة على حسابها تبعاً للأوضاع السياسية. مثال ذلك المذيخرة وجبلة، والثالثة (إب) الحالية التي يعتقد أنها مدينة إسلامية اختطها الصليحيون في نهاية القرن الخامس الهجري عند تحويلهم العاصمة من صنعاء الى جبلة المدينة الجميلة الزاخرة بآثار الدولة الصليحية وأهمها مسجد الملكة أروى بنت احمد. ولا يجوز أن نذكر مواقع كثيرة في اللواء الأخضر ونهمل وادي السحول زوَّادة الجائعين في سنوات القحط والظلم الإمامي. هذا الوادي المبارك يجاور مخلاف بعدان وينخفض عن إب والمخادر ومعروف بخصوبته (كثيرة الخيرات وفيرة العطاء) إذ أن المثل الشعبي يؤكد هذه الحقيقة قائلاً: ياهارب من الموت ما من الموت ناجي ياهارب من الجوع اسرح سحول بن ناجي ولا تعرف من هذا (ناجي) الذي ينسب الوادي إليه، لكن تسمية السحول كما تذكر كتب التاريخ أنه منسوب إلى سودة بن عمرو بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل حتى ينتهي إلى حمير، وقد اشتهرت بالثياب السحولية التي كانت تصنع من القطن الأبيض في الجاهلية وصدر الإسلام. وقد تغنى بها الشعراء. ومنهم طرفه بن العبد. لهند بنجران الشريف طلول تلوح وادٍ من عهدهن نحيل وبالسفح آيات كأن رسومها يمان وشته "ريدة" و "سحول"، وتذكر كتب السيرة النبوية أنه لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّن بثوب سحولي. فهنيئاً لهذا الوادي عطاءه السخي وقد وارى جسد أشرف المرسلين فأنعِمْ به من واد مبارك سابق بالخيرات. * ظفار في ذاكرة التاريخ معلوم أن الشرق القديم هو أرض الحضارات الإنسانية الموغلة بالقدم وشبه الجزيرة العربية جزء هام من هذا المسرح الحضاري القديم و ( اليمن) يحتل موقعاً جغرافياً هاماً كونه يتموضع في الزاوية القصية لشبه الجزيرة العربية وتحديداً في الجنوب الغربي منها إذْ كانت تنطلق منه القوافل التجارية التي تحمل البخور والطِّيب الذي كانت أشجاره تغطي اليمن من أقصاه إلى أقصاه. وهذا يدل دلالة واضحة أن اليمن قد شارك مشاركة فاعلة في انتاج الحضارة الإنسانية القديمة التي أسست المداميك الراسخة للحضارة الإنسانية برمتها إلى اليوم وذلك من خلال الممالك التي تنافست على أرض اليمن وتبلورت شيئا فشيئا حتى توحدت حيناً وافترقت حيناً رغم واحدية نسيجها الحضاري والثقافي. لهذا نستطيع أن نتخيل حضارات الشرق القديم كمربع كانت قاعدته في هذا الجزء الهام (اليمن) وضلعه الثاني في وادي النيل وضلعه الثالث في وادي الرافدين والرابع بلاد الشام والأناضول. واليمن حباها الله مميزات تتفرد بها عن سائر البلاد العربية بشكل عام وبلدان الجزيرة بشكل خاص، رغم وقوعها ضمن الإقليم المداري الحار جداً لكن طبيعتها البركانية جعلتها تمتاز بتنوع مناخي لا يوجد في غيرها نتيجة المرتفعات الجبلية الموجودة فيه أو الممتدة ضمن مساحتها الجغرافية الطبيعية التي تمتد من مضيق باب المندب (جنوب غرب) على البحر الأحمر وحتى خليج العقبة شمالاً والذي لولاه لفقدت اليمن أهميتها في الفترات التاريخية المتأخرة عندما تحولت طرق التجارة البرية إلى البحر، وأهم السلاسل الجبلية فيها ما يسمى اليوم بالهضبة الغربية وتعرف لدى الجغرافيين (سلسلة جبال (السروات) والممتدة من منطقة المعافر في أقصى الجنوب الغربي بارتفاع يتزايد حتى يصل إلى أعلى ارتفاع لها في المناطق الجنوبية للمملكة السعودية وهي هضبة انكسارية شديدة الوعورة في بعض مناطقها مثل صعدة ونتيجة ارتفاعها الشديد فهي من أكثر المناطق غزارة بالأمطار نتيجة اصطدام الرياح الموسمية المثقلة بالسحب المطيرة بها مما ينتج عنه هطول أمطار غزيرة عليها تصب سيولها في سهل تهامة. والبعض الآخر يصب في البحر العربي، ونقصد به سيول الأمطار الهاطلة على الهضبة الوسطى (إب) لهذا فإن هذه الهضبة كانت على مر التاريخ من أكثر المناطق ازدحاماً بالسكان وتعاقب الاستيطان البشري عليها بسبب توافر المقومات الأساسية لقيام المدن الحضارية والممالك. وفي هذه المنطقة الجميلة توقف التاريخ يوماً ما أثناء رحلته الطويلة بصحبة الإنسان منذ وجد على الأرض ليروي لنا قصته الطويلة والشيقة المليئة بالمتناقضات (المشقة، والراحة والفاقة، والرفأ والتيه والهداية) وإذا ما حاول أيٌّ منا أن يجول بخاطره يتذكر المدن التاريخية والأوابد التي شاركت هذا التاريخ حركته وعنفوانه لا بد أن تستوقفه ظفار تلك المدينة الخالدة في أسفار التاريخ التي لا تبلى. إذ أنها تتموضع على جبل تحف به الخضرة الدائمة من كل جانب شأنها في ذلك شأن محافظة إب نفسها التي تبدو كناسك متبتل يرتل آيات الجمال، تتنزل الغيث لتتساقط أمزانه سكينة وطمأنينية وخيراً يعم الأرض كلها.. كما تلفها السحب الكثيفة معظم شهور العام فتبدو جميلة خجولة كالعروس في زفافها. فما أن يمر بها المرء حتى يحس بانتعاشة الروح قبل النفس، كيف لا وقد جمعت كل الخصال: الماء، والخضرة، والوجه الحسن، والتاريخ العريق. ولكي نتحدث لا بد أن نبدأ بظفار حاضرة الحميريين وعاصمتهم المنيعة التي أورد ذكرها علامة اليمن الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب وفي كتابه الإكليل ج الثامن: على لسان معلمه (أبو النصر اليهري) متحدثا عن مجدها وقصورها الملكية العامرة وأهمها قصر ريدان الذي يقول فيه علقمة: ومصنعة بذي ريدان أُسَّتي بأعلافها متلفة حلوق وكذلك قال التبع اليماني: ضفرنا بمنزلنا من ظفار وما زال ساكنها يظفر كذلك يذكر علقمة قصراً آخر اسمه شوحطان يقابل ريدان من الشمال. قائلاً في عجز البيت الشعري الذي فُقد مطلعه. (ومثالك شوحطان له قريم) ويقصد بالقريم صفوف حجرية تعلو القصر مختلفة الأشكال تشبه (المقرمة) التي لا زالت تستخدم المرأة اليمنية في الريف، وكانت ظفار تطل على وادي (قتاب) ويعرف اليوم بالايفوع الأعلى من العدين، وكان لظفار تسعة أبواب. باب وِلَاْ لم يكن معروفاً أيام الهمداني، وباب (الأسلاف، وباب خرفة، وباب مآبه، وباب هدوان، وباب خبان وباب حورة، وباب صيد وباب الحقل). وقيل أن ماءه (ظفار) كان يتم الحصول عليه من حفائر للماء تتخذ في الجبل والجيوب كانت تسمى بالأقلبة وقت ذاك ويبدو أنها حورت فيما بعد إلى تسمية (المقلد) الذي يحفظ ماء المطر في الجبال. ويشرب منه الرعاة إلى يوم الناس هذا. وكان لكل باب من هذه الأبواب حجاب أو حراس يعرفون بالأوهاز وأما باب ظفار الرئيسي الذي يُفضي إلى قصر الملك هو باب الحقل كما تذكر كتب التاريخ. وكان الحميريون يجدون في كتبهم أن المدينة تخرب من قبل من يدخلها من باب الحقل ولهذا السبب يعزى اتخاذ الحميريين للحراس في الأبواب الرئيسية للمدينة. وكانت المسافة بين بابها الرئيسي وباب القصر الملكي مسافة ميل. ولهذا نجد كثيراً من اليمانيين القدامى والمؤرخين يقولون إن أصل حجاب الملك أخذت عن ملوك حمير. وقد كانت مملكة حمير عظيمة الشأن حيث توحد اليمن تحت رايتها وكان يطلق على ملكها ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمانه وأعرابهم في الطود والتهائم. وقد اشتهرت ظفار (بالجزْع) وهو نوع من الأحجار الكريمة كانت تصنع منه عقود تلبسها النساء للزينة وكان له صيت واسع إذ قال (المرقش): يحلين ياقوتاً ونذراً وضيعة وجزعاً ظفاريًّا ودوراً توائما كذلك الفرزدق تغنى بالجزع الظفاري قائلاً: وعندي من المعزى قلاد كأنها ظفارية الجزْع الذي في الترائب وتذكر كتب التاريخ - على لسان السيدة عائشة رضي الله عنها (في حادثة الإفك) قولها فأنقطع عقد لي من جزع ظفار فحُبس الناس يبحثون عنه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى انتشار هذه السلع التي تاجرت بها ظفار وغدت مملكة ذات ثراء واسع - في المقدمة لمدينة (ظفار) الأثرية والتاريخية التي كانت حاضرة حمير التبابعة (التبع الأكبر) أبى كرب أسعد، ثم تلاه ابنه التبع الأصغر يسأل السائل لماذا بدأنا بهذه المدينة قبل مدينة إب (الثجة) التي أصبحت اليوم المحافظة أو المدينة المحورية إن صح التعبير. نجيب على هذا التساؤل إن (ظفار) تعد الأقدم أو الأهم خاصة من حيث تركتها الأثرية الغزيرة جداً والتي كُشف عنها بالصدفة عام 95/96م. حيث عثر على كمية كبيرة من التماثيل والكنوز الأثرية التي لا تقدر بثمن ولأول مرة نجد آثاراً لأبي الهول اليمني الذي يعد نسخة مماثلة تماماً لأبي الهول المصري الشهير مما يدل على عمق الصلات والروابط التاريخية بين الحضارتين (المصرية- واليمنية) نتيجة انتماء كل منهما إلى إطار حضاري واحد هو (الشرق القديم) وإذا ما مر المرء بتلك البقاع واتجه بصره صوب قاع (قتاب) فتبدو له الربوة الخضراء من أرض يحصب فلا بد أن تتصدر مخيلته هذه المدينة التي كات ذات يوم شامخة في هذه الربوة المطلة على القاع المذكور (قتاب) بقصورها المذكورة آنفاً مثل: (ريدان، شوحطان) إضافة إلى قصر كوكبان ناهيك عن سدودها الثمانين التي أوردها التبع الأكبر في شعره قائلاً: (وفي البقعة الخضراء من أرض يحصب ثمانون سداً تقذف الماء سائلاً). ومدينة ظفار وقاع (قتاب) هما من أرض (يريم) المدينة المعروفة اليوم. ولا تزال آثار المدينة باقية رغم ما خرب منها إبان فترة تمدد المذهب الزيدي على يد الإمام الهادي الذي بنى مسجده بأحجار انتزعها من المباني القديمة للمدينة ويقع المسجد بمنكث وهو واحد من خمسة جوامع شيدها الإمام يحيى بن الحسين الرسي ومعظم هذه الأحجار عليها كتابات بالمسند. |