المعارضــة ، ولغـة الدلالـة الغائبـــة عندما نحيلُ أنفسنا إلى أصل كلمة " معارضة " في قواميس اللغة ، بعيداً عن اصطلاحها القانوني objection حيث ينصرف إلى فعل مادي أو إجراء قانوني يقصد به معارضة الحائز في حيازته ، أو الاصطلاح السياسي opposition الذي يعني : المخالفة في الرأي ، فإننا سنجدُ أنفسنا ، و بشكل غير مفاجئ ، أمام سفر شاسع من المعاني و التنويعات للفعل " عرَض " .. فمنه نجد " عارِض " و هو ما يسد الأفق " و قالوا هذا عارضٌ ممطرنا " و نجد استعراض " إثارة للمشاهد " و تعريض " قدح باستخدام لغة إشارية دلاليّة " و عرَض " علامة مرضيّة " و عِرْض " ما يذم من الرجل " و عُرْضة " أي ما يوضع نصباً أو غرَضاً " ، و هي كلها انزياحات لغوية عن الفعل الثلاثي " عرَض " تنأى بعيداً عن الاصطلاح السياسي المعاصر للمعارضة ، أعني ذلك الذي حصر الانزياح اللغوي في اللغة القانونية " معارضة الحائز في حيازته " و اللغة البرلمانية " الاختلاف في الرأي " ، إلا أنّ ما يثير استغراباً معلناً تماماً هو هذا الطيف من الانزياح اللغوي في اتجاه توليد معانٍ سالبة و ضد اجتماعيّة antisocial signs and concepts في حين تختفي عبقرية الدلالة الحضارية تماما ً . و لأن لدلالة الاصطلاحين القانوني و السياسي ارتباطاً وثيقاً بنشوء المدنية الحديثة ، فإنّ ممارسة فعل " المعارضة " ضمن دلالته الضد اجتماعيّة يعني رجعيّة مقصودة ، أو لنقل : ممارسة إحالية أو مرجعيّة تشي بتبرّم حاد بالأخلاق الاجتماعية الراهنة ، سواءً أخلاق العمل السياسي أو التوجيه السلوكي الاجتماعي في ظل توفّر لغة حديثة هي " الفصحى المعاصرة " و احتفاظها بمخزونها المعرفي لكل اشتقاقات الفعل " عرَض " وفق فلسفة ترقية الدلالة إلى مصاف الأخلاق المعاصرة و المتعارف عليها .. و أنا لا أقصد من خلال هذا الطرح اللغوي تهييج الحاسية الجمالية ، و لا التطعيم ضد وجع خلط المفاهيم بل استشراف فعل المعارضة في وضعيته اليمنيّة .. المؤسف و المخجل جدّاً . أحياناً نجدُ أنفسنا مرتبكين حين نحاول إجراء عملية تفكيك لمعضلة ما ، أيّاً كان نوعُها .. و بذات الدرجة من الارتباك أحاولُ أن أشرّح وضع المعارضة في اليمن ، من خلالها بعديها الأخلاقي و النفسي .. استناداً إلى حقل دلالي مهم توفّره لنا اللغة أعلاه كما اتفقنا سابقاً .. و لأني روائي بالدرجة الأولى ، قبل أن أكون شاعراً أو طبيباً ، فسيكون مناسباً لي أن اضع زماناً تشريحيّاً خاصٍ بي ، و سأتناول فيه و من خلال حديثي بطريقة عفوية جدّاً رؤيتي الخاصة .. كأن أقول : إن مرجعية الحملة الاستعراضية التي تمارِسُها المعارضة حاليّاً هي محاولة لخلق حالة توتّر درامي dramatic tension يعوضها عن فقدان السلام الداخلي الذي يوفّره تآلف الصور الشخصية الثلاث : الصورة الذاتية ، و الصورة الاجتماعية و الصورة المثالية .. فالصورة الذاتية ، في حالة الحزب المعارض ، هي في الأغلب صورة مشوّهة مليئة بالمُثل و المبادئ الاضطرارية التي وجدت بسبب سوء حظ هذا الحزب فيما يخص مائدة السلطة .. ببساطة : المعارض شخصٌ فشِل في أن يحصل على موطئ قدم في السلطة . و لكي أكون أكثر وضوحاً ، كصحف المعارضة ، فأنا أقول : جل أحزاب المعارضة اليمنية صاحبة تجربة في الحُكم قلّت أو كثُرت . هذه التجربة بدت لنا ، كمواطنين بسطاء ، سيئة السمعة بعيداً عن كل التكييفات و التبريرات .. و عليه فإنّ شعارات أحزاب المعارضة التي ترفع من قبيل " التجريب بالمجرّب خطأ " و غيرها يصح أن تكون ملصقات تستخدمها السلطة و المعارضة على حدّ سواء ، لأن الأمر بالنسبة للمعارضة لا يعدو كونه استثارة لذاكرة أخلاقية سبق تغييبها عندما وضعت المبادئ على المحك .. في السياق ذاته ، هناك حالة استشعار قلقة لدى أحزاب المعارضة في اليمن لوضعية الصورة الثانية في التركيب السيكولوجي ، أعني : الصورة الاجتماعية .. إذ تبدو الكثير من الأحزاب منبتّةً تماماً عن واقعها الفعلي ، و في سبيل سد مثل هذه الثغرة فإن هذه الأحزاب تسعى إلى استجلاب واقع افتراض يوائم الصورة الأولى المشوّهة ، أو " المحوّرة" .. أعني الصورة الذاتية .. إذن ، نحنُ أمام صورة ذاتية مشوّهة و صورة اجتماعية مفترضة تخلقها أحزاب المعارضة لذواتها . و حين نقرّ نحنُ في طبّنا السلوكي أن أول عامل للبناء السليم للشخصية ( سواءً أكانت هذه الشخصية فردية أو جمعية ) هو اتّساع رقعة التشابه بين الصورة الذاتية " التي نرى من خلالها أنفسنا " ، و الاجتماعية " التي تبدو للناس عنّا " فإن مثل هذا الانحراف ، أو العُدول عن التركيب السليم ، سيؤدي قطعاً إلى سلوك غير موزون .. سيظهر ، أو هذا ما نشاهده ، من خلال اسقاطات ، ومناكفات .. بل قد يصِل لدرجة المجاهرة بالضدّية المحضّة الرافضة للحوار . هنا ينشأ سؤال كبير : حين يرفض الآخر الحوار ، كيف يمكن أن يكون هناك تعايش من أي نوع ؟ المخيف أن اضطراب البناء السلوكي للشخصية الجماعية يولّد تصوّرات مزيّفة ، أو ما نسميه نحن " مشاعر " .. و المشاعر ، وفق قواعد التسلسل السلوكي ، تؤدي إلى مواقف .. أعني : ممارسة ، أو فعل . .. و من هنا ، فلا بد من إعادة تعريف مصطلحات مهمّة ذات دلالة جادّة في هذا الحقل الذي نحنُ بصدده و أخص منها مصطلح " الاحتقان " الذي دربت المعارضة على ترديده كالتالي : هناك حالة متوتّرة تسكنُ في الخطاب المعارِض ، و لأن هذا التوتر هو وليد لصورتين مزيّفتين " الصورة الاجتماعية و الصورة الذاتية " فإنّنا نتوقّع وببساطة شديدة أن يتم إسقاط هذه النفسية المتوتّرة إلى الواقع الفعلي .. و من ثم الحديث عن " احتقان في الشارع العام " و غليان لدى المواطنين البسطاء ، و الحديث الميلانخولي عن انهيار وشيك و صدام قادم . هو ، إذن ، انحراف عند مستوى البنية النفسيّة .. لنعيد استعراض الانزياحات الجديدة / القديمة التي طرأت على معنى فعل "المعارضة " كالتالي : " عارِض " و هو ما يسد الأفق ، و قالوا هذا عارضٌ ممطرنا ، - و نجد استعراض " إثارة للمشاهد " - و تعريض " قدح باستخدام لغة إشارية دلاليّة " - و عرَض " علامة مرضيّة " - و عِرْض " ما يذم من الرجل " - و عُرْضة " أي ما يوضع نصباً أو غرَضاً " ... .. أعلاه سنفاجأ بـأننا أمام مواقف نفسية و مواقف لغوية متطابقة تماماً ، والأمر ليس غريباً إذ تتخيّر النفسية لغتها الخاصة بها بحرية تامة .. و طبقاً لهذه المعان الجديدة المستقراة ، و من خلال عرضها على الواقع السياسي اليمني سنكتشف أننا ، و بكل أسف ، أمام حالة مرضية شديدة البأس اسمها " المعارضة " .. و حين أريد لها أن تكون فعلاً حضاريّاً فقد تحوّلت إلى خاصية عدوانية من " التعريض " حتى " العُرضة " مروراً بكل الانزياحات التي تقع فيما بينهما .. وغنيٌّ عن الحكاية أن استعرض هذه الواقعية للتدليل على ما ذهبت إليه من خلال هذا الاستطلاع السريع ، فقط أترك القارئ وجهاً لوجه مع نفسه و مع الشخص الثالث "المعارضة " .. ليضع يدَه على علامات أو " أعراض " شاسعة و مخيفة لداء سيء السمعة جرى تحريفه بطريقة أو بأخرى ليأخذ الاسم القانوني ، بل السياسي أيضاً " المعارضة " .. وإذ أقول هذا فأنا لا أدعو إلى التبرّم من المعارضة ، بل على العكس .. أنادي بهدوء إلى الاستشفاء بعد الاعتراف بأننا فعلاً نعيش سياسةً مأزومةً حقّاَ .. |