قراءة في نتائج القمة اليمنية - السعودية لم تثر علاقات أي بلدين عربيين جدلا واسعا، ولم تمر علاقات أي بلدين عربيين بحالات من المد والجزر مثلما فعلت العلاقات بين اليمن والمملكة العربية السعودية على امتداد أكثر من سبعين عاما منذ عهد الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن والملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة وحتى عهد الرئيس اليمني علي عبدالله صالح والعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز. وظلت هذه العلاقات تتذبذب ما بين المواجهات العسكرية المباشرة والجمود في العلاقات والنزاع حول الأرض والأوضاع السياسية، والهدوء والقطيعة، والمصالحة والوفاق والتعاون والحميمية، وهكذا من حال إلى حال، ومن نقيض إلى نقيض.. وصدرت خلال السنوات العشرين السابقة عشرات الدراسات والكتب التي تناولت المراحل المختلفة لهذه العلاقات بالعرض والتحليل، لكنها كانت تُجمع في الأخير على أهمية استقرار العلاقات بين البلدين وعلى ضرورة حل مشاكلهما العالقة والمزمنة. والمستقرئ لمسار العلاقات بينهما سيجد أنه كلما سادها الوفاق انعكست عليهما وعلى منطقة الجزيرة بصورة إيجابية أمنياً وسياسياً، وهذا ما لاحظه المراقبون على سبيل المثال عقب المصالحة الوطنية في شمال اليمن عام 1970 وحتى الوحدة اليمنية عام 1990 التي أثبتت الأيام أن قيامها أسهم في ترسيخ الاستقرار في منطقة الجزيرة والخليج، ولذلك لو نجح مشروع الانفصال في اليمن عام 1994 لدخلت المنطقة برمتها في أزمة حقيقية حتى هذه اللحظة. وما إن فشل هذا المشروع ونجح اليمنيون في الحفاظ على وحدتهم بدأ البلدان مسارا جديدا تماما في علاقاتهما انتهى بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود النهائية بينهما، فمنذ تطبيع علاقاتهما في عام 1995 انقشعت غيوم التوتر من المنطقة، بل وانفتحت أبواب مجلس التعاون الخليجي لعضوية اليمن بجدية منذ قرار قمة مسقط 2001 ضم اليمن إلى عضوية أربع مؤسسات خليجية، وعادت علاقات اليمن إلى طبيعتها مع كل دول المجلس. ويوم الثلاثاء الماضي توجه الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى مدينة جده السعودية لعقد أول قمة يمنية - سعودية منذ العام 1995 مع العاهل الجديد للمملكة الملك عبدالله بن عبدالعزيز. والمقصود هنا بأنها أول قمة منذ عشر سنوات أن الرئيس صالح عقد آخر قمة مع العاهل السعودي الراحل الملك فهد في شهر يونيو 1995 قبل أن يصاب بالمرض الذي أقعده عن أداء مهامه الرسمية ومن ثم فقد ظلت اللقاءات مستمرة طوال الفترة اللاحقة بين الرئيس صالح وولي العهد حينذاك الأمير عبدالله. الأكيد أن القمة اليمنية - السعودية التي انعقدت يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين كانت ناجحة بامتياز بسبب العلاقات الشخصية الوطيدة التي جمعت الرئيس اليمني والعاهل السعودي منذ اتفاق البلدين في 12يونيو 2000 على الحل النهائي لمشكلة الحدود المزمنة التي أعاقت أي تطور حقيقي في علاقاتهما طوال السنوات الستة والستين التي سبقت توقيعها. والأمر الأكيد الآخر أن هذه القمة ستشكل نقطة انطلاق جديدة في علاقات البلدين تتجاوز حالات البرود السياسي التي كانت تمر بها من حين لآخر رغم تطور العلاقات التجارية بينهما خلال السنوات العشر الماضية.. وهذا البرود السياسي ناتج عن عدم استكمال إنجاز ترسيم الحدود بموجب اتفاقية جدة الأمر الذي جعل عمليات التهريب المتبادل للأشخاص والسلاح والبضائع تستمر من دون أن يستطيع كلا البلدين وضع حد لها. فاليمن طلب تقديم دعم مادي من السعودية لحرس الحدود لديه ليتمكن من ضبط الوضع من ناحيته على طول الحدود التي تمتد لحوالي ألفين كيلومتر لكن مطلبه لايزال قيد الدراسة، في وقت هو نفسه يشكو من عمليات تهريب كبيرة للبضائع التجارية إلى أراضيه منذ وقت طويل لم يستطع وضع حد لها بسبب ضعف إمكاناته. القمة اليمنية - السعودية ألقت أحجارا في المياه الراكدة فحركتها وستظهر انعكاساتها الإيجابية على علاقات البلدين في وقت ليس ببعيد. فالرئيس صالح يدرك تماما أن الملك عبدالله بن عبدالعزيز يريد أن يبدأ عهده بصفحات جديدة على كل الصعد الداخلية والخارجية، وهو كان بعث في الشهر الماضي برسالة ود للرئيس اليمني تمثلت بقراره الإفراج عن أكثر من ألف سجين يمني محكومين بقضايا جنائية في السجون السعودية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن حجم الثقة الشخصية بين الرجلين أتاحت لهما بحث الملفات العالقة بين البلدين مثل سرعة استكمال إنجاز عملية ترسيم الحدود في مواعيدها المحددة في الاتفاقية وضرورة زيادة الدعم السعودي للاقتصاد اليمني، وتحديداً عبر تشجيع رجال الأعمال السعوديين للاستثمار في اليمن عوضا عن الوسائل التقليدية للدعم، باعتبار أن الاستثمارات الخليجية والسعودية تحديدا في اليمن ستحل مشكلة البطالة فيها فتتوقف محاولات الهجرة المستمرة للعمالة اليمنية إلى السعودية للبحث عن أعمال في وقت تتجه فيه المملكة لسعودة الوظائف والأعمال. أصبحت الهموم اليمنية - السعودية متقاربة كثيرا في الآونة الأخيرة، وأصبح الإحساس بضرورة التكامل بين البلدين أمرا واقعا، ذلك أن حجم التبادل التجاري بينهما ازداد في السنوات الأخيرة وهو وإن كان لمصلحة السعودية التي غدا اليمن من أهم وأكبر أسواقها فإن اليمنيين يسعون بجدية لأن تكون السعودية أكبر سوق لتسويق الخضار والفاكهة اليمنية التي تمتاز بجودتها. كما أن الهم الأمني هو الآخر يشكل عاملا مشتركا في ظل ما تشهده الساحة السعودية من عمليات إرهابية بين الحين والآخر، وفي ظل ما تشهده الساحة اليمنية من تهديدات من الجماعات الإرهابية، والأكيد أن التعاون الأمني بينهما قد تطور إلى حد كبير خلال الفترة الماضية لكنه لم يصل إلى المستوى الذي يرجوه البلدان، ولم يغب بالتأكيد عن القمة الثنائية ملف انضمام اليمن لمجلس التعاون، حيث طالب الرئيس صالح في وقت سابق من هذا العام دول المجلس تأهيل اليمن اقتصاديا كما فعلت الدول الأوروبية مع دول أوروبا الشرقية. ستظل العلاقات اليمنية - السعودية بحلوها ومرها عنوان الاستقرار في منطقة الجزيرة العربية، وستظل السعودية هي المفتاح الأساسي لتحسن الأوضاع الاقتصادية في اليمن، وحيث إن مصلحتها الأكيدة تكمن في انتشال اليمن من أزمته الاقتصادية ومساعدته على الخروج منها، وهذا تحديدا ما يأمل اليمنيون أن يلمسوه قريباً عقب الزيارة الناجحة للرئيس صالح إلى السعودية. |