مبدأالحوار..سلوك حضاري من فضائل قراءة القرآن الكريم تهذيب السلوك على القيم النبيلة الواردة في آياته والتي ينبغي التحلي بها في كل شأن من حياتنا، دونما استثناء لعملٍ سياسي أو غيره، لأن تجريد السياسة من القيم الأخلاقية يعني هلاك المجتمع. فعندما نقرأ سورة النمل، ويمّر الذكر بسبأ، يستوقفنا ردّ فعل الملكة بلقيس على رسالة نبي الله سليمان (عليه السلام)، إذْ يقول تعالى: (قالت يأيها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون)، فالحكمة التي تحلت بها ملكة سبأ لم تمنعها من تبادل الرأي مع الآخرين، والوقوف على الخيار الأصوب الذي يحفظ شعبها، ويصون مُلكها.. وهو ما يؤكد – أيضاً- عمق توغل مبدأ الرأي والرأي الآخر في الثقافة اليمنية. مَنْ يطالع كتب السيرة النبوية يجد أن رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) لم يجعل السيف منهجاً في دعوة الناس إلى الإسلام؛ بل امتثل أمر ربّه: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، فيبادلهم الحجة بالحجّة، والدليل بالدليل الأقوى من خلال حوار حكيم لا يرجو منه مصلحة لنفسه، وإنما يتخذه أسلوباً للإقناع بالرسالة التي بعثه الله بها إلى البشرية لما فيها خيرها وصلاحها. وهكذا نجح منطق الحوار في هداية الناس للطريق القويم، وبناء دولة إسلامية مترامية الأطراف بين مشارق الأرض ومغاربها، ازدهرت فيها العلوم، والحياة الاقتصادية، وصنعت الأمة في ظلها أمجاد حضارتها الإنسانية. ربما ثمة من يعتقد اليوم أن للتاريخ ظروفه، وخصوصياته المختلفة، عمّا يصلح لحياتنا في هذا الزمن، لكن الحقيقة الثابتة لدينا تؤكد أن الإسلام مصدر كل التشريعات اليمنية، وبالتالي فإن قيمه الأخلاقية والفكرية هي التي يجب أن تؤطر ممارسات الأفراد والقوى الوطنية ، ومؤسسات الدولة والمجتمع؛ وهو ما أثبتته التجارب السابقة من تاريخنا اليمني. ففي اللحظة التي قَبِلَ فيها الأخ الرئيس علي عبد الله صالح- حفظه الله- الترشيح لرئاسة اليمن في يوليو 1978م كانت أوضاع البلد متدهورة جداً، وهناك العديد من القوى السياسية تتصارع في الساحة الوطنية، لكن إيمان الأخ الرئيس بالحوار جعله يراهن عليه في إعادة الأمن والاستقرار وتحريك عجلة التنمية والبناء، فجمع مختلف القوى في لجنة حوار وطني عام 1980م، وأوكل إليها صياغة (ميثاق وطني) يمثل المنهج الفكري، والثوابت التي تُلزم الجميع باحترامها. وبالفعل فقد نجح الحوار في تحقيق الوحدة الوطنية، لأنه منطلق من رغبة صادقة، ونوايا مخلصة لدرجة أن رئيس الجمهورية لم يتجاهل دعوة أي قوة سياسية- بما في ذلك ما كان يسمى بـ(الجبهة الوطنية القومية) التي كانت تتخذ من العمل المسلح أسلوباً لمعارضة الحكم في صنعاء، إلاّ أن طول نَفَس الأخ الرئيس في الحوار اضطرها للتخلي عن العمل المسلح عام 1982م، وعودة المُغرر بهم إلى الصف الوطني بعد خطاب الأخ الرئيس في تعز الذي أعلِن فيه العفو عنهم، ودعاهم إلى المشاركة في مسيرة بناء اليمن الحديث. لاشك أن الحوار الإيجابي القائم على قناعات راسخة بمبدئه كان أساس انطلاقات شعبنا إلى الكثير من غاياته الوطنية، وفي مقدمة ذلك إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، التي لم تكن أقوى الترسانات الحربية، بقادرة على فرضها، لكنها تحققت أخيراً بفضل سلسلة جولات حوار، ولقاءات محفوفة بإرادة وطنية صادقة بإعادة الحالة لوضعها الطبيعي. وبنفس الطريقة تمت تسوية الإشكاليات مع دول الجوار، وترسيم الحدود، وتنمية تعاون مشهود على مختلف الأصعدة. ولعل تجربة الحوار مع العناصر المتهمة بالإرهاب مثلت نموذجاً فريداً من أساليب مواجهة هذا التحدي الخطير، تفوقت فيه الحكمة اليمانية على مناهج أحدث المدارس الأمنية العالمية، الأمر الذي شجع بريطانيا ودول أخرى لدعوة القاضي حمود الهتار-رئيس لجنة الحوار- للإطلاع منه على التجربة، والاستفادة من معطياتها في مكافحة ظاهرة الإرهاب في بلدانها، وبالتالي فهي شهادة دولية بالمسار السليم للسياسة اليمنية. لقد ظل مبدأ الحوار حاضراً في سياسة الأخ الرئيس علي عبد الله صالح طوال فترة رئاسته لليمن، عالج من خلاله الكثير من الاختلالات التي اعترضت مسيرة الدولة، وتم اتخاذ الكثير من الإجراءات في ضوء ما يتمخض عنه أي حوار- بما في ذلك ما يتعلق بالتجربة الديمقراطية، وتطوير ممارساتها، وأنظمتها الانتخابية، وضمانات نزاهتها. إن خطورة التحديات الدولية المحدقة بالأمة في الوقت الحاضر تجعل من الحوار ضرورة وطنية ملحة أكثر من أي مرحلة سابقة من أجل تأمين الوطن تلك المخاطر، وحماية المكتسبات الوطنية التي بذلت الجماهير في تحقيقها تضحيات جسام من الضياع، أو العبث عبر ممارسات غير مسئولة، وقاصرة عن فهم الممارسات الحقيقية للديمقراطية، وما تستدعيه من شفافية، ووعي، وإيثار المصالح الوطنية على أي حسابات حزبية محدودة، أو مصالح شخصية ضيقة، لأن ذلك سلوك غريب عن ثقافتنا الإسلامية التي ينبغي أن تلازمنا سواء داخل دوائر العمل السياسي أو خارجها. يقول تعالى في سورة الإسراء: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)، وفي ذلك دعوة صريحة للحوار والتفاضل في الرأي الأصوب، وليس التعصب لموقف بعينه، ورفض تبادل الرأي والمشورة مع الآخر.. لابد لنا من التأمل مجدداً في كتاب الله لنجعل من السماحة التي حملتها نصوصه منطلقاً لتعاملنا اليومي- أفراداً، وجماعات، وتنظيمات، ومؤسسات- ففيه خاطب تعالى معلم البشرية بقوله سبحانه: (فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعُف عنهم، واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين). * * * * * * الأمين العام المساعد لقطاع الفكر والثقافة والإعلام بالمؤتمر الشعبي العام |