الجمعة, 19-أبريل-2024 الساعة: 10:55 م - آخر تحديث: 04:17 ص (17: 01) بتوقيت غرينتش      بحث متقدم
إقرأ في المؤتمر نت
المتوكل.. المناضل الإنسان
بقلم/ صادق بن أمين أبوراس رئيس المؤتمر الشعبي العام
المؤرخ العربي الكبير المشهداني يشيد بدور اليمن العظيم في مناصر الشعب الفلسطيني
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بنك عدن.. استهداف مُتعمَّد للشعب !!!
راسل القرشي
7 يناير.. مكسب مجيد لتاريخ تليد
عبدالعزيز محمد الشعيبي
المؤتمر بقيادة المناضل صادق أبو راس
د. محمد عبدالجبار أحمد المعلمي*
«الأحمر» بحر للعرب لا بحيرة لليهود
توفيق عثمان الشرعبي
‏خطاب الردع الاستراتيجي والنفس الطويل
علي القحوم
ست سنوات من التحديات والنجاحات
أحمد الزبيري
أبو راس منقذ سفينة المؤتمر
د. سعيد الغليسي
تطلعات‮ ‬تنظيمية‮ ‬للعام ‮‬2024م
إياد فاضل
عن هدف القضاء على حماس
يحيى علي نوري
14 ‬أكتوبر.. ‬الثورة ‬التي ‬عبـّرت ‬عن ‬إرادة ‬يمنية ‬جامعة ‬
فريق‮ ‬ركن‮ ‬الدكتور‮/ ‬قاسم‮ ‬لبوزة‮*
‬أكتوبر ‬ومسيرة ‬التحرر ‬الوطني
بقلم/ غازي أحمد علي*
كتب ودراسات
المؤتمر نت - نزار العبادي - كاتب وباحث وصحافي
تأليف : نـزار خضير العبادي -
المؤتمر الشعبي .. وتطور تجارب العمل السياسي (دراسة تحليلية)ج 1-3
مقدمــة
بعد مرور ما يزيد عن العقدين على تجربة المؤتمر الشعبي العام يصبح الوقوف على أبجديات العمل السياسي للحقب الماضية أمراً يقترب من الوصف بأنه وقوف على ثقافة وإنجاز وتجارب جيل كامل، وعهد متميز بملامح خاصة، وبصمات معلومة أكسبت الدولة اليمنية هويتها العصرية التي مثّلت تصريح مرور اليمنيين إلى العالم الخارجي، والموضع السياسي الاستحقاقي الذي كان من حقهم تبوءه منذ أمد بعيد .
أن الاهتمام بدراسة تجربة المؤتمر الشعبي العام في العمل السياسي الوطني بعد كل هذا الزمن الطويل من مسيرته في الساحة السياسية لا يمكن أن يلغي الحاجة الأساسية والملحة لمراجعة الخطوات السابقة، والتأمل في محطاتها المختلفة ، وقراءة التجارب بتمعن. فأن الإيمان بأهمية الدروس المستوحاة ، والعبر المستخلصة ظلّ دائماً قاعدة التأسيس لكل انطلاقة جديدة ، ولكل رغبة صادقة في التطور ، والتحول باتجاه واقع أفضل ، ومستقبل أقدر في احتضان كل ما يصبو إليه الفرد والمجتمع .
لا شك أننا بذلك لا نبحث عن عالم مثالي فاضل من صنع المؤتمر الشعبي العام فيما سبق له من عمل ، أو وليد تفاعلاته الماضية ، بقدر ما نجعل تطلعنا الأول والأخير هو تقويم التجربة السياسية ، وملامسة مفرداتها ، وبلورة رؤى واضحة للمحددات الآنية والمستقبلية للتنظيم -لتي تعينه على الأفضل والأكفأ .
وفي تصوري ، مازالت دوائر المؤتمر الشعبي العام – السياسية والتنظيمية والثقافية والفكرية - قاصرة عن تقديم التجربة أكاديمياً ، أو على النحو الذي تؤلف من بياناته المختلفة قاعدة معلوماتية ثرية تحيط بكل ملامح التجربة السياسية، وتُلم بمختلف محطاتها التاريخية ، وتفسّر حيثيات أدق المتغيرات والتطورات التي كان المؤتمر يقف عندها من حين لآخر.
أن ما هو قائم اليوم من مؤلفات ، ودراسات ، وبحوث ، وحتى أدبيات سياسية مقررة من الأمانة العامة تكاد لا تفي بحاجة المؤرخ أو الباحث المتطلع إلى تحديد معالم دقيقة لحركة العمل الوطني اليمني في ظل قيادة المؤتمر ، لأن كل ما هو متاح ليس بالحجم أو النوع الذي يُذكر إذا ما قيس بالمسئوليات التي تبناها المؤتمر ، وبالمركز القيادي الذي تبوءه ، وبالتحديات الجسيمة التي واجهها في مختلف مراحله .
ومن جهة أخرى ظل هناك أمر غير مفهوم على صعيد القاعدة المعلوماتية للمؤتمر ، وهو العزوف الغريب عند قيادات المؤتمر عن كتابة مذكراتها السياسية ، وتدوين ملاحظاتها الخاصة حول أدوارها، ومساهماتها ، ووجهات نظرها الشخصية في موقف أو سواه ، وطبيعة فهمها لتجارب السياسة اليمنية ، أو حتى تصوراتها خصوصياتها الفلسفية وما يمكن أن تتكهن به لمستقبل تجربتها المؤتمرية .
فمع أن المهتم بهذا الشأن قد يجد محاور تاريخية ، وأبجديات عامة ضمن ما هو متداول من وثائق المؤتمرات والأدبيات ، إلاّ أن الحاجة الى معرفة المزيد من التفاصيل حول مراحل مختلفة – بعضها في عداد القديم – ومواقف متعددة تبقى ملحّة ، ليس للمهتم وحده ، بل حتى للشخصية القيادية التي من حقها الاحتفاظ بنصيبها من البناء التاريخي الوطني للحياة اليمنية ، وكذلك من الدرس الفكري السياسي التي ترجو أن تستلهمه القوى السياسية الأخرى والأجيال من بعدها . وهو الأمر الذي أفاق الكثيرون على أهميته بعد وفاة المناضل يحيى المتوكل (رحمه الله) الذي كان يمثل مدرسة وطنية عظيمة، فات الكثيرون التعلم منها .
وعلى أية حال ، فأنني حاولت من خلال فصول هذا الكتاب أن أستعرض جوانب مهمة من مسيرة العمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام ، وحرصت على الوقوف على محطات تاريخية وفكرية معينة طالما اعتقدت أنها من العناصر الأساسية التي قادت المؤتمر الشعبي العام الى مواضع نصر حقيقية في حركته الوطنية ، بلور من خلالها الكثير جداً من أحلامه الجماهيرية ، ونقل عبرها اليمن الى ناصية غدٍ واعد بكل خير .
كما حرصت على التأمل طويلاً في ثنايا التجربة السياسية للمؤتمر، وكتابة قراءات نقدية واضحة عن بعض ما اعتقدته إخفاقا ، أو قصوراً ، أو تحدياً قاهراً كان يعترض المسيرة المؤتمرية على مسافات متباينة من أعوامها الإثني والعشرين الماضية ، أملاً في تقويم هذه الدراسة بنهج موضوعي يجعل منها ذات فائدة بشكل أو بآخر .
أن ما يمكن قوله بعد هذا الزمن الطويل من التجارب السياسية للمؤتمر الشعبي العام هو أنه بمثابة التجربة العربية التي تستحق من القوى السياسية العربية في كل مكان قراءتها بتمعن ، والاستفادة من جميع ما أتت به من قيم ، ومفاهيم ، وأفكار ، ومن كل الفصول التي عالجت بها مشاكلها اليمنية الخاصة ، والآليات التي تحدت بها ظروفها المعقدة ، وتجاوزت من خلالها مواريث الماضي اليمني المؤلمة .
ولاشك أن المؤتمر بالنسبة لليمنيين لم يعد بطاقة مجهولة ، أو حالة غامضة بقدر ما أصبح لهم واقعاً يومياً ، نابضاً بكل لحظاته حتى مع رغيف الخبز اليومي .. فهو الحزب الحاكم الذي قيل ذات يوم المجازفة في تحمّل مسئولية الملايين اليمنية الحالمة ، فما كان من تلك الجماهير إلاّ أن تمنحه أصواتها ، وعزائمها ، وإرادتها التي هي وحدها من جعله حزب البذل والعطاء والخير اليمني الدائم.



** تطور تجارب العمل السياسي ( قبل الوحدة )

تعد المجانسة التوفيقية بين صيغ العمل السياسي ومعطيات العصر الذي تؤول إليه الساحة الوطنية والإقليمية والدولية واحدة من أهم النقاط التي تقف عندها جدليات الأحزاب والتنظيمات في مختلف حقب التاريخ فالكثير من تلك القوى لا تضع معايير لموازنة مديات الأفق الانفتاحي لأيديولوجياتها الفكرية، مما يوقعها ذلك في إشكاليات صيغ الانتقال والتفاعل مع المتغير المستجد في ساحة عملها، بحيث أنها تصل إلى حالة صراع ذاتي بين أجنحتها التي ستنظر للموضوع برؤى متعددة يرى فيها البعض نقيض ما يراه الآخرون.
لاشك أن هناك من يعتبر أية محاولة لتكييف بعض الأفكار مع مقتضيات الحالة القائمة نذر شؤم تشرع لبدايات انصهار أيديولوجي من خلال إمكانية فهم ذلك الانفتاح على إنه ترخيص بتجاوز مبادئ الحزب، وتعطيل بعض أيديولوجياته الفكرية.
وإزاء وضع كهذا ينتهي الجدل القائم أما إلى انشقاق الأجنحة المتنازعة أو الالتزام بالصيغ التقليدية التي عهد الحزب السير على خطاها- وهو ما معناه تغليف العمل السياسي بأطر محددة وجامدة تقصيه عن واقع الحياة السياسية المعاصرة، من غير أية دراية أكيدة بأن الجمود هو داء السياسة، وأن الانهيارات التي ضربت الكثير من النظم الأيديولوجية تعود في معظم أسبابها إلى إنغلاقات مماثلة.
ومع أن المؤتمر الشعبي العام ليس بالحزب الأيديولوجي القائم على نظرية فكرية أحادية، إلا أنه بدا مستوعبا لمفردات الحقيقة السابقة، ومتطلعا إلى الوقوع على مجانسة توفيقية لصيغ عمله السياسي مع المناخات العامة المحاط بها، على أساس النظر إليها كجزء من واقع ساحة عمله التي تقتضي منه قراءتها جيدا، ثم تحديد التزاماتها ومقتضياتها، لتأتي في النهاية مقايسة ظرفه الآني بما يمكن أن يتبناه من برامج وخطط وقرارات للمرحلة التي يعتزم خوض غمارها.
وهذا الأسلوب لا يقف عند مستوى العمل في حدود المسئولية السلطوية التي يمليها موقعه القيادي في الحكم، بل يتعداه ليشمل البُنى التنظيمية الداخلية لكيانه، بجانب الأبعاد التي يضع نفسه عليها مع بقية القوى السياسية الوطنية, أو ما تستدعي مصالحه إليه.. وهو الأمر الذي منح المؤتمر الشعبي العام فرصا أوفر في استباق الآخرين إلى انتصارات انتخابية كبيرة، ونجاحات مهمة على صعيد ما كان يعرض في برامجه الانتخابية.
فالمؤتمر الشعبي العام خاض أولى تجاربه السياسية من أرضية بُنى سياسية متعددة الاتجاهات الفكرية، والانتماءات الاجتماعية، وقام بدوره وفقا لغايات وطنية خالصة أقرها" الميثاق الوطني" ،الذي مثّل في حينه مطلبا جماهيريا يمنيا صرفا، تتقدم فيه المصلحة العامة على كل اعتبارات فئوية أو فكرية أو اجتماعية.
مثل هذه الظروف في النشأة والتكوين نادرة جدا، أو فريدة من نوعها، مقارنة بأي من الأحزاب والتنظيمات التي ظهرت لاحقا عقب الوحدة. إذا أن قيامه على النحو المعروف هيأ الكثير جدا من مقومات ديمومته ، أولاً كقوة سياسية مستقلة بذاتها، ثم مقومات احتفاظه بسلطة الحكم- ثانيا- وهو ما يمكن إسناده إلى الآتي:
1- احتفاظ المؤتمر الشعبي العام بـ " الميثاق الوطني" كمنهج فكري مركزي لتنظيمية السياسي أكسبه حظ العمل الوطني من واقع أفضل بما تؤمن به الجماهير بمختلف قواها السياسية باعتبار أن الميثاق الوطني كان خلاصة فكر جميع التيارات السياسية التي اشتركت في صياغته ،ومن المؤكد أنها لو كانت تحمل ما هو أفضل، ومنسجم مع الإرادة العامة لما أهملته، وغيبته عن نصوص" الميثاق الوطني" .. ويبدو ذلك أمراً من المستبعد على أي مُنظِّر سياسي بلوغه أو الاقتراب من خلفياته التشريعية بمضامينها الأصولية والاعتبارية.
2- أن صيغة العمل المشترك في إطار تعددية الرؤى، والكيفية التي كانت تُطوَّع بها لصالح ما تستدعيه المصلحة الوطنية العامة بلورت فلسفة سياسية مشذبة- إلى حد ما- وموروثا ثقافيا غزيرا لدى القيادات المؤتمرية بقدر أغنى مهارات الحوار الديمقراطي البناء، وشفافية تداول الرأي والمركز، وارتقى بالتجارب الأولى إلى ديناميكيات حضارية أكثر قدرة على التفاعل مع الظرف السياسي الآني ،من جهة، ومع المطلب الشعبي من جهة أخرى.
وبإمكاننا قراءة ذلك الأثر بوضوح في شخصية الدكتور عبد الكريم لأرياني- الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام، والذي شاع صيته في الأوساط الجماهيرية بمهاراته البارعة في الحوار والنقاش والإقناع والتنوع المعرفي..وربما هي صفة اختصت بها الغالبية العظمى من القيادات والرموز المؤتمرية المخضرمة ( قبل وبعد الوحدة) والتي استفادت من آليات العمل السياسي لتك المرحلة الدقيقة من عمر المؤتمر الشعبي العام.
3- لعل انضواء الجماهير اليمنية في المؤتمر الشعبي العام في أولى تجاربها السياسية وممارساتها الديمقراطية - في وقت لم يسبق للأغلبية أن انتظمت في صيغ حزبية - جعلت من المؤتمر الأنموذج الأم لانبثاق تجارب العمل الوطني الذي لا ترى في غيره العديد من الفئات الاجتماعية بديلا صحيا لاحتضان أي لون سياسي مختلف- كما لو كانت الأنماط السياسية المستحدثة لاحقا دخيلة على الواقع اليمني ، وغريبة عن مناخاته الثقافية.
إن الألفة العفوية التي نشأت في الوسط الجماهيري مع المؤتمر، وتهيّب المستحدث ،كانت بمثابة السلوك الطبيعي الذي من المتوقع تبلور تراجمه في أي مجتمع كان يعاني من الانطوائية والانغلاق والعصبيات القبلية التي كثيرا ما تتجاذب حذر شديد مع المتغيرات خشية من الانصهار وفقدان الأصالة التراثية.. لذلك كان من الصعب عليها إخلاء مواقعها في المؤتمر والانتقال إلى صيغ جيدة غير مطروقة في تجاربها الماضية، وهو الأمر الذي ساعد المؤتمر على التحول إلى التعددية الحزبية دونما الإخلال في هياكله التنظيمية بالقدر الذي قد يؤدي إلى تفككه وانحلاله.
4- قد تحول المؤتمر الشعبي العام من صيغة التنظيم السياسي الأوحد الذي يحتضن كل الأطر والاتجاهات السياسية في الساحة اليمنية، إلى التعددية الحزبية بعد أن بني لنفسه رصيدا كبيرا جدا من المنجزات ، وفي طليعة كل ذلك كانت الوحدة اليمنية هي الإنجاز الأعظم فيما يحتسب للمؤتمر حتى تلك اللحظة- في حين استهلت الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى عهد دولة الوحدة- باستثناء الحزب الاشتراكي اليمني- كما لو كانت حديثة الولادة، ومجردة من أية أرصدة سياسية أو منجزات تعزز الثقة بها، رغم أنها جميعا كانت بعض أدوات المؤتمر الشعبي العام في تحقيق أرصدته السابقة .
إذن كانت تلك المحددات تعطي للمؤتمر الشعبي العام خلفية شبه ناضجة لاستقرار الظرف اليمني، والاقتراب من واقعه إلى حد كبير بات فيه أشبه ما يكون بظله الذي يسايره خطوة بخطوة ويتفاعل مع حاجته، وتطلعه، وكل ما يطرأ عليه.
إن المؤتمر الشعبي العام لم ينشأ بوصفه حزب أيديولوجي لموازنة الصورة السياسية اليمنية للشطر الشمالي الجنوبي الذي كان يتبنى الفلسفات الاشتراكية- كما يحاول البعض إيجاد مثل ذلك الربط بقناعة افتراضها كحالة معززة لفرص الحوار الإيجابي بين نظامي الشطرين من خلال ما تؤسس من قاعدة سياسية متكافئة ذات صيغ متعادلة.. وهو تفسير خاطئ يسعى المتقولون به إلى تحجيم الأهداف التي قام المؤتمر لأجلها.
حيث أن المؤتمر هو تنظيم سياسي وليس حزب، وهو يقوم على مجموعة من البرامج المرحلية الهادفة لإصلاح شأن الوطن، والنهوض بمؤسساته وحياة أبنائه اليومية ، وردم مخلفات الموروث السياسي والاقتصادي والاجتماعي السابق لمرحلة انبثاقه.. من غير أن يولي أي اهتمام للبحث عن مرتكزات أيديولوجية يسند وجوده إليها- كما هو شأن الأحزاب الأخرى.
وبطبيعة الحال إن طرح كهذا لا يعني بالضرورة أن المؤتمر يفتقر للقاعدة الفكرية، بل سبق أن أشرنا إلى الكيفية التي حدد بها المؤتمر ثوابته الفكرية والأخلاقية والسياسية عبر الميثاق الوطني ، إلا أن الميثاق لا يمكن أن يؤخذ على أنه نظرية فكرية أيديولوجية متقاربة مع ما هو كائن لدى الحزب الاشتراكي أو الأحزاب القومية أو الإسلامية ؛ فالميثاق الوطني ليس إلاّ منهجاً توثيقياً لثقافة المجتمع اليمني ، وعقائده ، وقيمه الإنسانية والأخلاقية ، ولهويته الحضارية التاريخية، وتطلعاته إلى مستقبل الغد..
وعلى حد وصفنا له بذلك المنحى فإنه يصبح أقرب ما يكون ببطاقة الهوية الشخصية للذات اليمنية التي يتحول أي شطب أو تزوير في بياناتها إلى مشروع إلغاء لكينونتها واستخفاف بحقوق حامليها، قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه.
وتلك صورة أردنا من رسمها تقريب الفهم لدلالات العمل بـ(الميثاق الوطني) بالنسبة للمؤتمر وطبيعة الهالة العظيمة التي يؤطره بها، ويحذر بشدة من مغبة القفز فوق أي من الاعتبارات الفكرية التي تضمنها الميثاق وأقرها كمبادئ وثوابت أساسية للدولة اليمنية.
عمل المؤتمر طوال الحقبة المحصورة بين (أغسطس 1982م- مايو 1990م) من واقع خصوصية سياسية تمليها العديد من العوامل التي كانت تحيط بساحة الدولة اليمنية آنذاك، والتي يمكن الإشارة الى بعضها في الآتي:
أولاً: كان لنشوء المؤتمر الشعبي العام على أرضية شطر واحد فقط من اليمن يجعل من أولوياته التي تتقدم جميع برامج عمله السياسي النضال من أجل الوحدة اليمنية، واعتبار ذلك شرط أساسي لأي استقرار سياسي، ولأي تحول ثوري على الصعيد التنموي والنهضوي.. وهو بتبنيه خيار كهذا سيكون مضطراً للأخذ بالكثير من مفردات الفلسفة القومية ونظرياتها الوحدوية، وما تذهب إليه من رؤى في مشاريع البناء الوحدوي، وتحليل بعض تجاربها، واستلهام ما يمكن إسقاطه على الحالة اليمنية.
ثانياً: مثّل المؤتمر أول تجربة عمل سياسي علني للجماهير، وأول احتضان للديمقراطية المحدودة ، التي كان يأمل تطوير ممارساتها مستقبلاً. لهذا اتسمت تلك الحقبة بأنها تأسيسية، لا ترمي إلى بناء نفوذ سياسي سلطوي لإحدى أو بعض الفئات، بقدر ما كانت تهيأ مناخات خطوة قادمة من أفق التعددية الحزبية .
إذ نظر إليها كحالة وعي ونضوج في توجيه مسار السياسة الحكومية على ديناميكيتها. فما كان إلا أن يتحول المؤتمر إلى ورشة إعداد وتأهيل للكوادر السياسية الوطنية وإلى حقل إنماء توعوي للسلوك الديمقراطي الجماهيري العام، فضلاً عن رفع قواعد البُنى المؤسسة التي يمكن ارتكاز أي تجارب متقدمة للعمل السياسي الديمقراطي على أرضيتها.. وهو الأمر الذي وجدت فيه الحركات الليبرالية - التي لم تكن تجرؤ على الجهر بوجودها- مظلة معقولة إلى حد ما للانضواء تحت سقفها، وقيادة مشروعها التحرري الانفتاحي من خلال الفرص التي تتيحها.
ثالثاً: ولما كان هناك حذر شديد في ساحة الشطر الشمالي من امتداد أيديولوجيات نظام الشطر الجنوبي إلى مناطقهم ضمن ما هو كائن من صراع سياسي، فقد وجدت الحركات الدينية فيما يتبناه المؤتمر الشعبي العام في ميثاقه الوطني أفقاً رحباً من الاستيعاب للقيم الإسلامية والتشريعات المشجعة للدخول تحت سقيفته ، عوضاً عن أقبية العمل السري- خاصة- مع حالة الحذر السائدة من المد الماركسي، فإنها سيكون بمقدورها توسيع أنشطتها وتنظيماتها تحت عنوان التحصين الإيماني أو التعبوي للجماهير من الخطر المترقب على بوابة الوطن الجنوبية- وبدا ذلك الأمر ليس مطلب الإسلاميين وحدهم، بل مطلب صنعاء ، ودول الجوار الإقليمي ودول كبرى كبريطانيا والولايات المتحدة.
رابعاً: إن حالة التدهور السياسي والانهيار الاقتصادي والتخلف العام في جميع قطاعات الحياة، والتي عانت منها الدولة اليمنية ردحاً طويلاً من الزمن، تظافرت جميعا لتحول النظرة إلى المؤتمر الشعبي العام من مجرد تنظيم سياسي تحت التجريب ويفترض منه إثبات جدارة لكسب الثقة الشعبية إلى باب خلاص وموضوع ارتباط مصيري لآمال وتطلعات الشعب الذي بدا جاهزاً لمؤازرة كل من يلتمس فيه صدق النية لتحريره من ويلات ما كان يقاسيه.
ومع أن السرعة التي تفاعلت بها الجماهير اليمنية مع المؤتمر الشعبي العام كانت ملفتة للنظر، ومثيرة للدهشة في استباقها الأحداث وتعجل الوثوق بالصيغة التي أتى عليها المؤتمر، إلا أن من الواضح أنها كانت متأثرة كثيراً بشخص الرئيس علي عبد الله صالح، وأسلوب إدارته للسلطة، وطريقة بلوغه سدة الحكم، فضلا عن مستوى الكفاءة التي عمل بها خلال السنوات الثلاث السابقة لتأسيس المؤتمر الشعبي العام.
ولا شك في أن الخطوات التي تم استهلاكها في صياغة الميثاق الوطني أولاً، ثم اختيار الأعضاء (الألف) المؤسسين للمؤتمر ضمن دورته الأولى (24-29 أغسطس 1982م)، كلها طبعت أثرها الإيجابي بشأن جدية وأهمية التنظيم الجديد، مما انتهى بها الأمر الى الاستبشار خيراً، والتفاعل إيجاباً على نحو لم يسبق الإتيان بمثله.
إن العوامل الآنفة الذكر رسمت معالم واضحة جداً لطبيعة المراحل التي سيؤول إليها مستقبل العمل السياسي للمؤتمر الشعبي. فعندما أقرت الأمانة العامة للمؤتمر في دورتها الثانية عام 1984م توسيع عضوية المؤتمر، ثم فتح فروع المحافظات لم يكن الأمر يبدو تطوراً مفاجئاً، أو منعطفاً في تاريخه بقدر ما يمكن عده انتقالاً آلياً على سلم البناء التدريجي الذي تحدثت عنه الأدبيات السياسية للمؤتمر الشعبي العام الأول ضمن تقرير لجنة التصور للعمل السياسي.. وهو الشيء ذاته فيما يخص انتخابات المجالس المحلية التي أجريت عام 1985م.
أما بشأن الانفتاح على خيار مجلس الشورى الذي جرى لانتخاب له في عام 1988م، فإن الإشارة له سبقت نشأة المؤتمر، إذ أن التعديل الدستوري الأول عام 1980م شرع إقامة (مجلس شورى)، وكلف المجلس الأعلى لانتخابات هيئات التطوير التعاوني بالتحضير لانتخاباته. لكن ما يجب التنويه له هو أن هذه الانتخابات ما كانت لتحظى بنفس الأهمية والصيت لولا أنها توجت العديد من الممارسات الديمقراطية السابقة لها- سواء فيما يتعلق بإقامة الاتحادات والنقابات والجمعيات أو توسيع عضوية مجلس الشعب التأسيسي وتوسيع صلاحياته اختصاصاته، ثم تأسيس المؤتمر، وإجراء انتخابات المجالس المحلية، إضافة إلى انعقاد ثلاثة مؤتمرات عامة للمؤتمر الشعبي العام.. وغيرها.
من المؤكد أن الممارسات المذكورة كانت كفيلة بإنماء مستوى الاستيعاب والوعي بثقافة الممارسة الديمقراطية، وضرورتها، وأخلاقياتها.. وما إلى ذلك. وانعكاساً لما آلت إليه الممارسة الديمقراطية من فهم ونماء كان التفاعل الجماهيري الشعبي مع انتخابات مجلس الشورى أقوى بكثير عما سبق، والتنافس أشد حماساً، والمشاركة أعظم مما كان يتوقع المراقبون .
وعلى أثر الصورة التي تشكلت للرأي العام الداخلي والخارجي وجدنا أن المؤتمر العام الرابع للمؤتمر الشعبي العام الذي جاء انعقاده عقب انتخابات مجلس الشورى بأيام قليلة شهد حضوراً عربياً وأجنبياً كبيراً جداً، حيث حضرته أعداد من وفود دول أسيوية وأفريقية وأوروبية، وغطت جلساته جموع غفيرة من الإعلاميين، وتم بث بعض جلساته بثاً مباشراً عبر إذاعة وتلفزيون صنعاء.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: هل معنى ذلك أن المؤتمر الشعبي العام في فترة ما قبل الوحدة كان يمثل نفوذ سلطوي مباشر يمتلك زمام صنع القرار السياسي للدولة ؟
بطبيعة الواقع الذي انبثق من ظروفه المؤتمر الشعبي العام نرى أن صيغة تشكيل المؤتمر على النحو الذي تحدثنا فيه من قبل تقترب كثيراً من صيغة المجلس النيابي (البرلمان) بمفهومه المعروف في اليمن. حيث أن كلاهما مؤلف من أطياف القوى السياسية اليمنية، علاوة على أن كلاهما يمثل سلطة تشريعية تتحدث باسم الجماهير وتناقش الخطط والبرامج التي تكفل مصالح الوطن والمواطن وتصون حقوقه وتحقيق إنسانيته.
إلا إن الاختلاف في هذا يكمن في أن المؤتمر الشعبي العام كان يتولى بنفسه وضع الدراسات وتقديم المقترحات والخطط، ثم يعمل على مناقشتها مع الجانب الحكومي واتخاذ القرار بشأنها، مع الأخذ بالاعتبار أن أعضاء الحكومة هم أعضاء فاعلين في المؤتمر الشعبي العام.
ومعنى هذا أن المؤتمر كان يمثل نفوذ سلطوي مباشر، ويمسك بزمام صنع القرار السياسي للدولة، ويمارس أيضا سلطة رقابية على الأداء العام لأجهزة الدولة التي يترك لها الكثير من التفاصيل والبرامج التي ينبغي عليها اتخاذ القرار بشأنها من غير السماح لها بتجاوز الثوابت الميثاقية.
وبالعودة إلى محورنا الأساسي حول تطور الحركة السياسية للمؤتمر الشعبي العام، نجد أن المؤتمر كان يعمل بتقنيات سياسية عصرية. فالحاجة الى تكنولوجيا البناء المؤسسي للدولة، وإلى تنمية سريعة جعلته ينفتح على مختلف بلدان العالم ويرتبط بها في علاقات صداقة ومصالح مشتركة – بما في ذلك الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية اللتان كانتا تدعمان نظام الشطر الجنوبي أيام الصراعات.. ولم يتورط المؤتمر بالدخول في ركب معسكري الصراع الدولي (الرأسمالي والاشتراكي) بل أثر عدم الانحياز، وهذا القرار جنب اليمن الكثير من العواقب الخطيرة .
كما أعطى المؤتمر أولويات لعلاقات الجوار الإقليمي، وخاصة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي على أساس من معطيات تاريخية وجغرافية وقومية واجتماعية . وتحاشى إيلاج نفسه بأية خلافات أو إثارة ما قد ينجم عنه تعطيل لمسيرة الدولة اليمنية التي كانت بأمس الحاجة للتفرغ لإصلاح هياكلها وبناء شعبها..
لكنه في الوقت ذاته لم يتقوقع داخل حدوده الجغرافية وينغلق على همومه، بل ذهب إلى صناعة أدوار قومية بارزة على صعيد قضايا الأمة المصيرية، كالقضية الفلسطينية، واللبنانية ثم الحرب العراقية- الإيرانية وغيرها مما كان يطرأ في الساحة.
إن تلك السياسة المتوازنة، القائمة على الصدق والوضوح والمصالح المشتركة سرعان ما نقلت المؤتمر الشعبي العام، واليمن بشكل عام إلى موضع احترام وتقدير العالم واليمن بشكل عام الى موضع احترام وتقدير العالم، الذي لم تتوان الكثير من الدول المتقدمة فيه عن تقديم يد العون والمساعدة للدولة اليمنية بقصد تسريع نهضتها، والأخذ بيدها في إزالة مواريث الجهل والفقر والمرض والتخلف.. وحتماً إن ذلك ما كان ليحدث لولا الأسلوب الحضاري الحكيم الذي آلت إدارة الدولة اليمنية إليه في عهد الرئيس علي عبد الله صالح وتنظيمه الجماهيري المؤتمر الشعبي العام.

** تطور تجارب العمل السياسي (بعد الوحدة )
أملى الواقع السياسي الجديد لدولة الوحدة اعتبارات مغايرة للحالة السابقة التي كانت تصطف على خطوطها القوى السياسية ، فالتحول من التعددية السياسية إلى التعددية الحزبية كان بمثابة تأكيداً مبكراً – إلى حد كبير- لجدوى انبثاق المؤتمر الشعبي العام، وأهمية الدور الذي أضطلع به في تأهيل ساحة العمل السياسي للانتقال بالحركة الوطنية إلى مراحل أكثر نضوج، ووعي بمسئولياتها.
إذ لم يكن الأمر بالسهولة التي قد يتصورها أحد عندما يدخل العمل الديمقراطي طور التعددية الحزبية بعد ثمان سنوات فقط من الإعداد والتأهيل في بلد لم يمارس الديمقراطية من قبل قط، ولا توجد فيه أية مؤسسة دستورية تؤدي هذا الغرض – بما يعني أنه كان يعاني من فراغ سياسي كامل.
من المؤكد كان انتقال المؤتمر الشعبي العام إلى التعددية الحزبية قد رافقه تطور مماثل بانفصال القوى السياسية الوطنية المنضوية تحت سقفه، واستقلالها بذاتها وفقاً لظروف التعددية الحزبية ، وهي الحالة التي فرضت على قيادة المؤتمر إعادة رص صفوفها التنظيمية ، وإلغاء المسافات الشاسعة التي يمكن أن تتحول إلى فواصل تجزيئية ينجم عنها تبلور كيان سياسي فضفاض، يذوب في كيان السلطة المركزية بدلاً من أن يكون مصدر قوتها ، وقاعدة صياغة أفكارها وبرامجها .
وربما وجدت هذه المسألة الكثير من الدراسة والتمحيص من قبل قيادة المؤتمر الشعبي العام خلال زمن التفكير في خيارات ممارسة العمل السياسي في دولة الوحدة .
فالرئيس علي عبد الله صالح كان يهمه كثيراً ألاّ يزج بالمؤتمر الشعبي العام في ساحة عمل لا يقوى على موازنة نفسه عليها. فان القبول بخيار التعددية يعني الأخذ برهانات التحدي والمنافسة بين جميع القوى السياسية، واعتبار قوة الثبات، وأسلوب ترجمة الذات إلى فعل حركي، ومهارة المناورة هي الفيصل للمشروع السياسي للدولة .
وبالتالي كان لا بد من دفع المؤتمر إلى الوضع التنظيمي الآمن والموازي بكفاءة لواقع ما كان يتصف به شريك الوحدة الحزب الاشتراكي اليمني – بشكل خاص- أو أي حزب آخر كان من المؤمل له أن يثبت جدارة ، ويعلن عن نفسه نداً للاعبين الأقوياء .
وعلى هذا الأساس أحاط المؤتمر الشعبي العام تنظيمه بخصوصية اعتبارية ترسم ، وتحدد معالم هياكله ودوائره التنظيمية وفروعه، إلى جانب تعديل وتطوير لوائحها الداخلية بالشكل الذي يفرز تلك الحلقات التنظيمية كبنى مؤسسية داخلية تعمل بصيغ أكثر استقلالية عما كان عليه من قبل.. وهو الأمر الذي أبرز اللجنة الدائمة للمؤتمر كمطبخ لجميع الأنشطة السياسية والمناورات الحزبية على صعيد جميع المراحل القادمة .
إلاّ أن طبيعة حساسية المرحلة الانتقالية التي كانت قيادتي الشطرين تعتزم خوض تجربتها، وما يمكن استباق الأحداث به والتكهن بمناخه الساخن – والمحتدم أحياناً- في معطيات واقع أي تجربة ديمقراطية، آلت ساحة المؤتمر الشعبي العام إلى تبني أسلوب سلم التكوين القيادي الذي يعتلي رأس هرمه لقب (رئيس التنظيم) بعد أن كان (الأمين العام) هو أعلى مراتب السلم القيادي .
فالرئيس علي عبد الله صالح ، بحكم رئاسته للجمهورية اليمنية ذات الخيار الديمقراطي ، سعى إلى تطوير صيغة السلم القيادي للمؤتمر بما يواكب المتغيرات الناشئة في دولته عقب إعادة تحقيق الوحدة.
فلم يعد ممكناً له الالتقاء مع الأحزاب والتنظيمات اليمنية الأخرى من واقع التمثيل بمستوى الأمناء العامون في الوقت الذي تحتفظ بعض الأحزاب – كالحزب الاشتراكي- بمسمى قيادي أرفع من (الأمين العام)، حيث أن استمرارية عمل المؤتمر بسلم التكوين القيادي السابق يضفي على الآخرين تبوء الصفة السياسية الأعلى في اليمن - التي لا نظير لها، وهو ما سيخل بموازين تجربة العمل السياسي الديمقراطي.
ومن جهة أخرى نجد أن انتقال مركز الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام إلى يدي الدكتور عبد الكريم الإرياني بلور توجهاً تحولياً في مسيرة المؤتمر، حيث أن المهام الكبيرة المناطة بالأمين العام ربما كانت ستصبح عبئاً مرهقاً جداً لرئيس الجمهورية الذي كان مطلوب منه الوقوف طويلاً أمام تحديات جمة تفرض نفسها في طريق المطلب التحديثي النهضوي لليمن .
علاوة على كون هذه الآلية أبلغ أثراً في حماية التوازن الديمقراطي لساحة العمل الوطني من إرتجاعات أي انحياز سلطوي.
وبتلك الطريقة يكون رئيس الجمهورية، رئيس المؤتمر الشعبي العام علي عبد الله صالح قد عزز المؤتمر بأداة سياسية منتقاة بدقة متناهية مثلها الدكتور عبد الكريم الإرياني لمضاعفة طاقة العمل السياسي للمؤتمر، وقوة الدفع به داخل المعترك الديمقراطي..
فالرجل ما زال يدور حديث السياسيين والمراقبين عنه بوصفه (دينمو المؤتمر) ومن ( أدهى العقول السياسية اليمنية) وأنه (رجل الحوار الذي يندب الآخرون حظهم كلما سعوا لابتزاز المؤتمر وقد ساقتهم أقدارهم للجلوس معه إلى طاولة واحدة) .
ولعل وجود مثل هذا التوافق النادر بين رئيس المؤتمر الشعبي والأمين العام – والذي قلما تراه فيما هو كائن من أحزاب وتنظيمات- يعد مؤشراً أكيداً على أن المؤتمر الشعبي العام ينطلق في تجربة عمله الوطني من أفق واضح ومحدد بالثوابت الفكرية ، والقيم الأخلاقية ، والبرامج الواقعية ، والأهداف السامية التي لا يمكن أن يختلف عليها اثنان .
إذن كان انفتاح المؤتمر على عهد التعددية يمثل في شطر منه استئنافا لغايات وجوده الثورية التي رافقت الإعلان عن تأسيسه في 24-29 أغسطس 1982م.
أما الشطر الثاني منه فيمثل تطويراً مرحلياً لتجاربه السابقة بما يضعها على خط واحد مع الظرف المحلي الذي آلت إليه ساحة العمل الوطني. ويجعله ومواكباً لحاجاتها، ومتفاعلاً مع ما تستدعيه من التزامات وبرامج رامية إلى دفع عجلة الحركة الوطنية باتجاه غدٍ أرحب .
إننا إذا ما استعرضنا تجارب العمل السياسي للمؤتمر منذ إعادة تحقيق الوحدة اليمنية إلى يوما هذا نجد أن من أهم سمات هذه الفترة هي :
أولاً: حرص المؤتمر الشعبي العام على البقاء قريباً من بقية الأحزاب والتنظيمات السياسية المعارضة، والتزام الحوار الإيجابي أسلوباً أمثلاً في حل الخلافات وتضييق هوة المسافات الفاصلة التي تنجم عن بعض الأزمات السياسية ، لسبب أو لآخر.. باعتبار سلوكه هذا خياراً وحيداً للحفاظ على الوحدة الوطنية وترسيخها، وتعميق قيم الممارسة الديمقراطية .
ولا شك أن التراجم الواقعية لهذا الأسلوب كانت تتجلى بكل وضوح في العديد من التجارب الماضية مثل حواره الطويل مع الحزب الاشتراكي اليمني خلال الفترة الانتقالية، وما رافق ذلك من تنازلات قدمتها قيادة المؤتمر للحزب الاشتراكي، والتي دخلت في بعض مراحلها طوراً أثار جدلاً حاداً بين المؤتمريين أنفسهم حول المدى المقبول لتلك التنازلات، وحدودها القصوى ، وكاد الأمر يتطور إلى ما لا تحمد عواقبه لو لا مهارة الرئيس علي عبد الله صالح في توضيح الأمور واقناع المختلفين .
بجانب هذا كانت أزمة "أرخبيل حنيش" أيضاً نقطة حوار ساخن مع أحزاب المعرضة الداعية لاستخدام القوة، أضف إلى ذلك اللقاءات والاجتماعات التي لازم المؤتمر الشعبي العام عقدها قبل كل ممارسة انتخابية بهدف مناقشة ما تثيره المعارضة من ادعاءات ، وقلق ، وتخوين تسعى بها لابتزاز المؤتمر في الوقت الحرج ، والفوز ببعض التنازلات أو الامتيازات التي تسميها "ضمانات". كما كانت دعوة المؤتمر للمعارضة بالالتفاف حول صيغة مشروع " وثيقة الاصطفاف الوطني" واحدة من أبرز الشواهد على التزام المؤتمر الشعبي العام بالحوار الإيجابي خياراً رئيسياً لتوثيق العلاقة مع القوى السياسية الأخرى ، خدمة لما تقتضيه مصالح الوطن وأبنائه.
ثانياً: ظل المؤتمر متأثر بخلفيات تجاربه السابقة لما قبل الوحدة في العمل المشترك وما تحققت بظله من إنجازات عظيمة . فقد عمل المؤتمر من خلال حكومة ائتلافية تجمعه مع الحزب الاشتراكي، ثم ثلاثية بدخول التجمع اليمني للإصلاح .
ورغم فشلهما أعاد المؤتمر الكرّة بتحالفه مع الإصلاح في إطار حكومة ائتلافية ثنائية.. وكان يأمل أن تجد الحركة التنموية الشاملة لليمن ما يسرعها ويوسعها في صيغ العمل الوطني المشترك.. إلاّ أن البعض لم يكن مستوعباً لطبيعة ما يجري، وما يجب أن يكون، فكان أن جعل العربة أمام الحصان، وقدم الحزب على كل مصلحة أخرى .
علاوة على ذلك فإن المؤتمر كان يبارك كل تنسيق مشترك تعمل من خلاله المعارضة، فبارك "مجلس تنسيق المعارضة" الذي جمع عدد كبيراً من الأحزاب والتنظيمات تحت مظلته أبان انتخابات المجالس المحلية عام 2000م.. وفي أكثر من مناسبة كان المؤتمر يشدد أزر أحزاب المعارضة التي شكلت ما يسمى بـ "أحزاب اللقاء المشترك"، واصفاً ذلك بأنه تحول إيجابي فاعل، مشجعاً إياها على توسيع اللقاء المشترك وتطوير تجربته .
ثالثاً: عمل المؤتمر على وضع الكثير من التدابير، والتعديلات في لوائح عمله وهياكله التنظيمية الداخلية ، وبرنامج عمله السياسي بقصد تطوير أدوات عمله بما يتفق وخطط التحول نحو مزيد من اللامركزية . وقد لوحظ أن المؤتمر الشعبي العام في الدورة الثانية من مؤتمره العام السادس 2002م استحدث حلقات تنظيمية دنيا على مستوى القرى الصغيرة ، ووضع اللوائح الخاصة بذلك، وقد أراد به مواكبة تطورين مهمين ، هما :
1. انفتاح الدولة اليمنية على خيار المجالس المحلية بهدف تعزيز الصيغ اللامركزية في الحكم . فكانت انتخابات المجالس المحلية في 20 فبراير 2001م قد كشفت عن وجود ضرورات ملحة للمؤتمر الشعبي العام لإعادة النظر في توزيع هياكله التنظيمية على نحو يمنحها ديناميكية تفاعلية مع الواقع الجديد الذي صنعته المجالس المحلية واقتضت به وجوداً منظماً للمؤتمر على مستوى أصغر التقسيمات الإدارية للمدن، وبالقدر الذي يكفل الأطر الأفضل من التنسيق في ارتباطات الحلقات التنظيمية .
2. اتساع القاعدة التنظيمية للمؤتمر وامتدادها إلى مختلف البقاع اليمنية في وقت يتنامى فيه حجم التجمعات السكانية بسرعة كبيرة ، وتتضاعف مؤسساتها وتسهل ارتباطاتها مع التقسيمات الإدارية الأكبر.. فإن مثل هذه التحولات كانت تستدعي مماثلة أو مواكبة لها في آليات العمل السياسي للمؤتمر بما يحقق له وجود تفاعلي منظم ، يستطيع من خلاله ممارسة أدواره الوطنية التي نشأ من أجلها.
ولا شك أن تنسيق الارتباطات الداخلية، وتعزيز مبدأ اللامركزية سيساعدان كثيراً على تسريع البرامج التنموية للمؤتمر على مختلف الأصعدة، والوقوف على مقربة شديدة من الواقع العام، واستشعار حاجاته، وامعان النظر في الخطط الكفيلة لتطويره والإيفاء بمتطلباته .
رابعاً: مع اتساع القاعدة الشعبية الجماهيرية للمؤتمر عملت أمانته العامة على توسيع مسئوليات واختصاصات دوائرها المخلفة – خاصة - بعد أن تجاوز المؤتمر الشعبي العام حالة الائتلاف الحكومي مع أحزاب أخرى ، إثر فوز مرشحيه بأغلبية مريحة في انتخابات إبريل 1997م، مما منحه ذلك حق تشكيل حكومة مؤتمرية بمفرده ، وكذلك الحال مع الانتخابات النيابية في إبريل 2003م التي حصد فيها أغلبية كاسحة ..
وبطبيعة الحال فإن أمر كهذا ألقى على كاهل المؤتمر بعبء المسئولية كاملة في كل ما تؤول إليه شئون البلد .
وعلى هذا الأساس استنفرت الأمانة العامة للمؤتمر جميع التكوينات التنظيمية لإسناد الجهد الحكومي ، فلم تعد الدائرة الاقتصادية -مثلاً - تقف عند حدود مهامها السابقة لهذه المرحلة، بل تعدتها إلى إنشاء التجمعات ، واللجان المختلفة التي تضم المستثمرين وأرباب التجارة والاقتصاد ، ورجال المال والأعمال، لتتولى هذه اللجان مناقشة كل ما يتعلق بالحالة الاقتصادية للدولة وأسواقها التجارية والأنشطة ذات العلاقة . ثم اقتراح الخطط والمشاريع ، ووضع دراسات متكاملة لتقييم الأداء الحكومي وتوجيهه بالشكل المطلوب..
علاوة على ذلك فإن الدائرة الاقتصادية باتت تقيم لأنشطتها وجود مباشر في الساحة الجماهيرية، إلى درجة أن بادرت في شهر رمضان (أكتوبر 2003م) إلى إقامة سوق تجارية شعبية مدعومة بهدف كسر الغلاء وتخفيف العبء الذي يكابده المواطنون في مواسم معينه.. وهي بادرة تمنى الأمين العام الدكتور عبد الكريم الإرياني أن تتحول إلى تقليد مؤتمري سنوي.
والحال نفسه آلت أليه أنشطة دائرة الفكر والثقافة والإعلام من خلال إصداراتها الإعلامية المختلفة ، وتبنيها لطباعة مؤلفات فكرية وثقافية متنوعة ، فضلاً عن إقامة الندوات وحلقات النقاش وحملات التوعية، والدورات وغيرها.
وكانت استضافتها للمؤتمر القومي العربي في مايو 2003م واحدة من الخطوات العريضة التي تنقل المؤتمر الشعبي العام إلى مناص منابر الإشعاع الفكري والثقافي العربي، ذات الصلة الوثيقة بقضايا الأمة المصيرية ، ومستقبل العمل العربي المشترك.
وباختصار فإن الانفتاح الكبير الحاصل في أنشطة المؤتمر الجماهيرية ترجمته أيضاً دائرة النشاط النسوي ، ودائرة الطلاب والشباب ، وبقية الدوائر بنفس القدر الذي تطورت إليه الدائرة الاقتصادية أو الثقافية .
ولعل تحول كهذا يضع المؤتمر الشعبي العام في حالة وعي ونضوج كبيرين بمقتضيات الحركة الوطنية الثورية للشعب اليمني، كما وتمثل تأكيد على متانة مناهج العمل السياسي للمؤتمر ، وثبات المؤتمريين على القيم التي حملتها الأدبيات السياسية للمؤتمر منذ تأسيسه وحتى اللحظة التي يضعون فيها أنفسهم بين الشعب ليتسنى لهم رؤية الواقع بعينه، والتفكير بعقليته، والعمل في أفق تطلعاته وأمانيه.
وتلك المسألة – باعتقادي- كانت سر المؤتمر إلى النتائج التي حققها في جميع مشاركاته الانتخابية .
خامساً: إن تطور تجربة العمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام اتخذ اتجاهات متعددة . فلم يعد الشأن التنظيمي هو ما يشغل بال قيادة المؤتمر، والانكفاء على خطط الاقتصاد وحدها من يتصدر هموم ما بعد الوحدة- خاصة- في النصف الثاني من التسعينات.
فقد أولى المؤتمر عناية فائقة ببرامج غير مطروحة من قبل مثل حقوق المرأة وسبل إدماجها في المجتمع ، وتفعيل مشاركتها السياسية والإنتاجية، حتى أمسى هذا الاهتمام لوناً بارزاً ضمن أدبيات حركة العمل الوطني لتلك الفترة ، واحتلت حيزاً رحباً من الخطاب السياسي للمؤتمر، وكذا من برامجه الانتخابية.
بجانب هذا التحول النوعي على صعيد دور المرأة ومشاريع إدماجها، شهدت المرحلة ذاتها توجهاً مماثلاً بكل ما يتعلق بحقوق الإنسان، وظهر المؤتمر كما لو أنه يحاول تعويض ما فاته من زمن بهذا الخصوص، فصار يرسم أبعاد مشروع تأهيلي كبير لمؤسسات رعاية حقوق الإنسان، ويمنحها الكثير من تفكيره وخططه باعتبارها مؤسسة تلتقي مع مشروعه السياسي للدولة على نفس المسار الذي يجعل موضوعه الأول والأخير- هو الفرد ، وسبل الارتقاء بمقومات بقائه ، وبعناصر حفظ إنسانية ، وكرامته ، وحرياته التي يستحقها شرعاً وقانوناً.
ولعل ما يمكن ملاحظته هنا هو أن الانتقال إلى هذه المفاهيم النوعية يؤخذ في كثير من الأحيان كمؤشر لتحديد حجم الاستقرار والنضوج الفكري الذي آل إليه هذا التنظيم أو ذلك الحزب. وهو أيضاً دليل الحركات السياسية إلى واقعها الديمقراطي واستيعابها لأدوات تطويره وإنمائه على النحو الذي تضمن فيه بلوغ مستوى البناء التنموي المتوازن والشامل للدولة .
وهو الأمر الذي ترجم المؤتمر الشعبي العام مفرداته، مستشعراً مسئولياته في اللحظة المناسبة من مسيرته النضالية.
خلاصة ما سبق ذكره هو أن المؤتمر الشعبي العام في كلا ظرفيه –قبل وبعد الوحدة اليمنية- اثبت قدرة فائقة على تطوير وإنماء حركة عمله الوطنية على أفق موازي للتقادم الزمني للعصر.
كما أن انطلاقه من أرضية الفكر الميثاقي بكل خلفيات نشأته المعروفة أضفى على عمله السياسي خصوصية يمنية واضحة المعالم، منحته قدرة أعظم على معايشة واقعة اليومي بأدق تفاصيله وملامسه حاجاته القائمة، وتحسس ما يطرأ عليه من متغير، والتفاعل مع حيثياته بقدر كبير من المنطق العقلاني والواقعية .
والحقيقة أن المؤتمر لم يحاصر حركته الوطنية بفلسفة ضيقة ، أو أفق أيديولوجي أحادي المنطق، أو رؤى متطرفة تقصي الرأي الآخر وتلغي كينونة وجوده. كما أن المؤتمر لم يحاصر برامج عمله السياسي بالإسقاط الكامل لتجارب الغير على ساحته الوطنية، أو في الانكفاء على حالة تاريخية بعينها تحجب آفاق ما سواها.. وأنه لم يشأ بلوغ المستحيل، مثلما امتناعه عن تبديد الممكن ، وإضاعة فرصه المتاحة .
لتلك الأسباب كلها وأسباب أخرى حافظ المؤتمر الشعبي العام على وجوده القوي في ساحة العمل الوطني. وامتلك إدارة التطور على امتداد مسيرته، وقدرة التوفيق بين ما يصبو لبلوغه وبين متغيرات عصره ، ومناخات ما يؤول إليه العالم .. فكان يجدد انبعاثه مع كل مرحلة ينتقل إليها حتى استحال مرآة كل جيل يفيق على انبلاج صبحه ، أو شراع كل مركب ماضي إلى غده ، يمخر عباب الحياة ، بينما يخلف في حلكة الماضي كل من راهن على استباق الأمواج من غير مجذاف أو شراع .

** ((المؤتمر وحركـة العمـل الثــوري))
من واقع ما يثيره النقاش بشأن التوصيفات المناسبة لمنهج العمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام يضع البعض سؤالاً حول مدى القبول بإدراج المؤتمر في عِداد الحركات الوطنية الثورية، رغم أن قيامه أعقب الثورة اليمنية بعشرين عاماً، وأنه لم يمثل في حينه تحولاً إلى نظام حكم سياسي جديد..!
ومع أن الحديث في أروقة الدوائر التنظيمية والسياسية والإعلامية للمؤتمر لا يكترث بشيء لتوثيق الأدبيات السياسية والفكرية لمحور "الحركة الثورية"، إلاّ أن تصوراتنا لهذه المسألة تميل كثيراً للأخذ بـ(ثورية) المؤتمر، والالتقاء بهذا الرأي مع جملة من المعطيات الواضحة المستخلصة من معايير ذلك التوصيف ، وحجم ارتباطاتها بواقع ما آلت إليه ساحة العمل الوطني اليمني في ظل قيادة المؤتمر الشعبي العام منذ تأسيسه في 24-29 أغسطس 1982م، وحتى يومنا هذا .
فالثورة هي رديف حقيقي للتغيير والتحول الكامل بأدوات السلطة وفكرها ونظمها السياسية، ومناهج عملها الوطنية.. وعلى هذا الأساس أطلقنا على ما جرى يوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م بأنه (ثورة)، تحمل في جوهرها وظروف قيامها، وأهدافها الستة كل المضامين التي أوردناها. وإذا ما سلمنا بذلك الرأي فإن أول ما يتبادر للأذهان هو السؤال: ترى ألن يكون توصيف المؤتمر بـ(الحركة الثورية) أقرب إلى جعله نقيضاً تاماً للثورة السبتمبرية، ومساراً مختلفاً عما كانت تتطلع المضي فيه- وفقاً لما ذهبنا إليه من تعريف للثورة ؟
ربما سيؤول الفهم إلى ذلك المعنى بمجرد الاعتقاد بأن ثورة سبتمبر، والمؤتمر الشعبي العام كيانان منفصلان عن بعضهما، وتحرك فعليهما أداتان مختلفتان ..
في حين أن واقع الحال على العكس من ذلك تماماً؛ فالمؤتمر ضمن البعد التاريخي لانبثاقه كان أشبه بدبيب الروح في عروق جسد الثورة السبتمبرية التي سبقته إلى النزول من رحم الوطن بسنوات، فانكفأت خلالها على وجدانها، تلعق أيامها القاحلة بمرارة، وتبتلع آلامها المستجلبة ، وترنو بصمت إلى انتظارها السقيم للحظة اكتمال الولادة ، والانبعاث حقيقة ، لها وقع يسمعه ويشهده الجميع .
فما كان مخططاً لثورة 26 سبتمبر هو ليس أن تقف عند حدود تغيير النظام من ملكي إلى جمهوري؛ بل أن تجعل من ذلك التغيير أداة لتطوير أسباب الحياة الإنسانية الكريمة للفرد . فالشعوب لا تثور لتأتي بوجه حاكم جديد، أو عنوان عهد مغاير لسالف الأوان . بقدر ما ترمي من وراء فعلها الثوري وتضحياتها النضالية أن تصبح أدواتها الثورية وأدبياتها الفكرية سبيلاً يمكنها من امتلاك ذاتها الإنسانية، والارتقاء بعناصر إدامة بقائها الآمن ، وعطائها الإيجابي ، وإزاحة كل أسباب الشقاء والفناء.
لكن كانت أية مراجعة تاريخية لمسيرة الحقب الأولى من عمر الثورة تضعنا أمام واقع ليس فيه ما يغري بالتضحية لأجله . فقد تعثرت مسيرة الثورة كثيراً، ودخلت مراحلاً من الصراعات والمتناقضات بين الجمهوريين والملكيين دامت حتى عام 1970م بعد المصالحة الوطنية.
وفي الوقت ذاته انقسمت قوى الثورة على نفسها، واستحالت في بعض فتراتها فرقاً مناوئة لبعضها البعض؛ بحيث أنها بدلاً من أن تساعد في تفعيل الهدف الثوري صارت عبئاً عليه.. وتزامن هذا الأمر مع مناصبة العديد من الأطراف الخارجية العداء للثورة، والعمل بجهد حثيث لتعطيل عجلتها، ومحاولة وأدها- وأحياناً- جرها إلى خارج مسارها الوطني.
سجل ذلك الواقع حضوره الكبير في ثقافة عدد من الوطنيين الأحرار، حتى أمسى في طليعة همومهم، ويحظى بجزء كبير من تفكيرهم وتأملاتهم السياسية ، لدرجة أن الرئيس على عبد الله صالح تحدث عن ذلك في مقدمته لوثائق المؤتمر العام الأول واصفاً الحال:
( لئن كان العمل الوطني –منذ قيام الثورة المباركة- يمثل معالم متقطعة في مسيرة الحياة الديمقراطية في بلادنا، إلاًّ أنه ظل يعطي إضافات إلى خبراتنا المختزنة تزيد من رصيد تجربتنا الوطنية، في الوقت الذي دخلت فيه الثورة مرحلة هموم ومشاكل أخرى، وبدأ شعبنا يعاني من آلام جديدة ومستجلبة غير تلك الآلام التي دفنها وتحرر منها وإلى الأبد.. آلام ارتبطت بالتيارات السياسية والفكرية والدخيلة التي ظل يسيل لعابها لهثاًَ لاحتواء مسيرة الثورة واستلاب الإدارة اليمنية وامتلاكها نتيجة الفراغ السياسي المتفاقم الذي أثمر الصراعات الثانوية، وهو ما مثل تهديداً خطيراً للثورة ولوحدة الشعب الوطنية، لطموحاته في تسيير أموره ).
وعلى الرغم من نجاح الثورة السبتمبرية في تحقيق مكاسب نوعية محدودة، إلاّ أن كل ذلك لم يعد ذا أي قيمة تذكر إزاء الظرف الخطير الذي آلت إليه الساحة اليمنية في النصف الثاني من السبعينات بعد أن استشرت فيها الفلسفات الفكرية الغريبة عن ثقافة وقيم وعقائد الشعب ، وتفشت الاغتيالات والتصفيات السياسية التي طالت حتى رؤساء الجمهورية، حتى وقفت الثورة اليمنية قاب قوسين ، أو أدنى من فاجعة المسخ والانحلال والتلاشي .
إذن وفقاً لحساباتنا لما يعنيه ذلك الظرف القاهر نستشف أن الثورة اليمنية واجهت من التحديات الخطيرة ما كان يكبل إرادتها الجماهيرية، ويمنعها من إحداث تغيير ذا شأن، أو إقامة بنى مؤسسية حقيقية، أو صيغ معينة لترجمة خطى أولية على طريق أغلب أهدافها التي حملتها لحظة انبثاقها عام 1962م.
ولكن الحقيقة التي لا محاباة في ذكرها هي أن التفكير بخلق انبعاث تاريخي للثورة لم تشهده ساحة اليمن الوطنية إلاّ في عهد الرئيس علي عبد الله صالح.. إذْ كان الاتجاه نحو صياغة (ميثاق وطني) بمثابة خطوة عملية جادة لتشخيص أدوات ترجمة الأهداف الثورية السبتمبرية إلى برامج عملية واعية تنقلها إلى حالة الكينونة الحية ، والفعل المباشر.
لا شك أن عواملاً عديدة دفعت بذلك الاتجاه، وأن حجم المعاناة اليمنية بلغت شأوا قال فيه الرئيس علي عبد الله صالح في مقدمته لوثائق المؤتمر العام الأولى: (كانت تلك المعاناةًٍ هي الشغل الشاغل لكل الوطنيين الأوفياء الملتزمين بالثورة وأهدافها..)، ولعلها أيضاً كانت تقف وراء الحراك السياسي لاحقاً – إذ يضيف الرئيس قوله: (وهو الأمر الذي جعلنا جميعاً وكل الغيورين على الثورة والوحدة الوطنية على اقتناع تام بضرورة التحصين الفكري الكامل للثورة ومسيرتها، وأنه لا بد في مواجهة التيارات الفكرية الغازية المتسربة من فكر وطني يمني يواجهها، ويكون فعلاً المتراس الذي يتصدى لها، في الوقت الذي يكون المرشد والهادي لمسيرة الثورة.وكان من الضروري أن ننتقل بثورة سبتمبر المجيدة إلى مرحلة أكثر اكتمالاً وقدرة).
يقيناً أن أفكار (الميثاق الوطني) لم تكن بديلاً لأهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، لكنها بكل تأكيد كانت تشخيص للصيغ العملية لها، وشرح تفصيلي لمعانيها، وتعيين دقيق للأدوات والوسائل المناسبة التي تساعد الجماهير على إذابتها في صورة الواقع اليمني المعاش؛ فالميثاق الوطني ليس إلاّ فلسفة ناطقة بلسان الثورة ، وفكر يستلهم أدبياته من إنسانيتها وأخلاقياتها، ومدلولاتها التاريخية، وتراثها الثقافي..
إلاّ أنه- في الوقت نفسه- ينقل الأزمة، وخلفيات التطورات السلبية التي زجت بالثورة في مأزقها الوطني الخطير.. فلم يكن من الصواب البحث عن حلول مناسبة بمعزل عن الحيز الزماني الذي آلت إليه.. وهو الأمر الذي يجعل من التفكير بكل معطيات الوضع القائم لما قبل عام 1980م أمراً يقترب كثيراً جداً من صيغ بلورة أي فكر ثوري تحرري.
الرئيس علي عبد الله صالح كان يمتلك رؤية دقيقة لما ينبغي عمله في اللحظة الحاسمة، والحال نفسه بالنسبة لكثير من الرموز الوطنية اليمنية. فمقتضى ما يمليه الواقع السياسي هو ما ذهب إليه الرئيس بالقول:
( كانت جميع الآراء مشيرة غلة أهمية وضرورة وجود ميثاق وطني يمثل نواة الوحدة الكريمة ويتضمن الأفكار التي يلتقي حولها جميع أبناء الشعب اليمني بما يكفل إيجاد حصانة فكرية للمواطنين حتى لا يكون نهباً للتيارات الفكرية، والارتهان السياسي، ولكي لا تكون الوحدة الوطنية معرضة للاستلاب والتشقق، وحماية الثورة من الجيوب ا لخفية التي تحاول أن تقتنص إرادتها وأن تحتويها، وبما يكفل فعلاً ملء الفراغ السياسي..).

ونلفت الانتباه بهذا الصدد إلى أن الرموز الوطنية اليمنية التي أسهمت في كتابة أفكار الميثاق الوطني، ثم الذين تشكلت منهم اللبنة الأولى للمؤتمر الشعبي لعام هم في غالبيتهم العظمى- إن لم نقل جميعهم- من ثوار السادس والعشرين من سبتمبر، وممن أسهم في الدفاع عن الثورة، وحمايتها من الانتكاس، أو الفشل في مراحل مختلفة من تاريخها.
إن هذا يؤكد أن المؤتمر الشعبي العام لم يكن إلاّ جزء أصلي في الحركة الثورية اليمنية، ويصبح من الخطأ الكبير الزعم بأن المؤتمر كيان منفصل عن الوجود الثوري، أو مقلد للتجربة السبتمبرية. فواقع حال المؤتمر الشعبي العام يقول أنه بمثابة الديناميكية الصحية التي كان ينبغي أن تنتقل إليها الثورة اليمنية بعد الإعلان عن قيامها مباشرة ، مع أننا مازلنا مقنعين بأن لتلك الفترة خصوصية لا تسمح بمشاريع مماثلة لتلك التي على شاكلة المؤتمر الشعبي العام.
وكما ذكرنا من قبل بشأن المفهوم الحقيقي للثورة، بأنه رديف حقيقي للتغيير، والتحول الكامل، نجد أن ذلك المفهوم لم ينل حظاً كبيراً من الأثر الملموس على أرضية الواقع اليمني؛
فالثورة السبتمبرية نجحت في التحول من الملكية إلى الجمهورية، وفي أن تكون قاعدة قدح شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963م في ردفان، ثم العمق الوطني لحركة النضال والتحرر من الاستعمار البريطاني وإعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م.
لكنها تعثرت عن المضي بمسيرتها بعد هذا الحد، ولم تستكمل حتى الشطر الآخر من الهدف الأول الذي كان ينص على: ( التحرر من الاستبداد والاستعمار، ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق، والامتيازات بين الطبقات).
وبالتالي فإن أهمية وحساسية الجدل القائم في بعض الأوساط السياسية اليمنية حول مدى ارتباط المؤتمر الشعبي العام بأهداف الثورة اليمنية، وحجم ما تتبناه برامج عمله السياسي منها، يصبح من الضروري الحديث عن ذلك في إطار استعراضنا لأهداف الثورة، والسعي لتقييم تراجمها الواقعية بشيء من الموضوعية والصراحة من خلال ما يلي :
· الهدف الأول:( التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم عادل، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات).
يبدو أنه الهدف الأكثر إلحاحاً في أولويات الحركة الثورية التي انتصرت فيه لتدخل العهد الجمهوري عام 1962م في الشطر الشمالي، وعام 1967م في الشطر الجنوبي.. لكن على الرغم من كل ذلك ظلت الثورة بحاجة إلى المزيد من الوقت للمضي بخطوات عملية جادة بشأن تحقيق العدالة التي ترتبط إلى حد كبير بالبنى المؤسسية للدولة، الكفيلة بإيجاد نظم تشريعية متطورة، وأدوات مؤهلة على قدر رفيع من الخبرة الأكاديمية والمهنية ، فضلاً عن ارتباط الأمر بالجهد الحكومي في إصلاح القضاء، ومنحه الاستقلالية التامة، وتحييده من أي تأثير سياسي، أو فئوي. كما أن العدالة ذات علاقة وطيدة بالأسس الفكرية التي يستمد الدستور منها تشريعاته وقوانينه .
لكن الملاحظ أن ما ذكرناه لم يتحقق بأي قدر ملموس في الساحة اليمنية، وربما تطلب ذلك من المؤتمر الشعبي العام سنوات طويلة من العمل المضني في هذا الاتجاه في سبيل تهيئة المؤسسات القادرة على إرساء صيغ متينة للعدالة في المجتمع اليمني-سواء فيما يتعلق بالقضاء أو منظمات ودوائر حقوق الإنسان ، أو النظم الديمقراطية ذات الصلة بفرص المشاركة السياسية في الحكم .
ومن المفيد الإشارة إلى أن الامتيازات والفوارق الطبقية غالباً ما تكون خلاصة فراغ دستوري ومؤسسي في الدولة، وخلل في توازنات القرار السياسي للسلطة، لهذا نجد أن تلك الامتيازات والفوارق الطبقية ما لبثت أن أخذت طريقها إلى الانصهار والتلاشي تدريجياً بعد زمن قصير جداً من تسلم الرئيس علي عبد الله صالح مقاليد حكم اليمن ، الذي ما لبث أن أوجد تنظيم المؤتمر الشعبي العام ليحتوي داخل أطره ما أشرنا إليه من فراغ سياسي ودستوري، وليحوله إلى أداة جماهيرية واسعة لتذويب تلك الفوارق وإلغاء الامتيازات.
ولم يكن ذلك بمنأى عما أوجده الميثاق الوطني من فكر بهذا الاتجاه، إذ أن الحقيقة الخامسة منه تنص على : ( أن مجتمعنا اليمني، كان ولا يزال يؤكد رفضه لأشكال الاستغلال والظلم مهما كانت أصولها ومصدرها،ويؤكد في الوقت ذاته حرصه على الاستقرار والأمن والإيمان).
وبكل صراحة نقول أن كل ما اجتهد به المؤتمر خلال مسيرة عمله الوطني لإيجاد الضمانات المناسبة لبلوغ أكبر قدر من العدالة لا يمكن أن يعني أنه بلغ المنتهى والمثالية الكاملة، فمازال هناك الكثير مما يجب أن يعمله بهذا الصدد.. لكن الذي يهمنا هو أنه كان جاداً في ذلك إلى حد كبير، وأنه مازال عاملاً باجتهاد في تهيئة المزيد من فرص العدالة والمساواة، وتطوير ، وإصلاح كل ذي علاقة بها.. وهو أمر لم يسبق الالتفات إليه بوعي ومسئولية في العهود السابقة.
· الهدف الثاني: ( بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها)
مع أن الجيش اليمني أثبت قدرات فائقة في التصدي لأعداء الثورة ، وبذل التضحيات الجسيمة لحمايتها على امتداد عهدها إلاّ أنه طوال ذلك الوقت كان محط كثير من القرارات اللامسئولة والإقصاءات للقيادات العسكرية ، دونما النظر لما يمكن أن يترتب عن ذلك من أثر سلبي على استراتيجية بناء القوات المسلحة .
كما أن الظرف السياسي المضطرب أحال دون انتعاش الاقتصاد الوطني أو أي تحسن بالمدخول القومي، وبالتالي فإن الحال ذاته ألمّ بالمؤسسة العسكرية، إذ لم تشهد أي تحديث نوعي، وظلت إمكانياتها المادية محدودة، ومتخلفة، ومناهجها الأكاديمية متأخرة .
ولو قارنا وضع هذه المؤسسة في فترة الستينات والسبعينات مع ما آلت إليه في الثمانينات لاكتشفنا حجم اتساع الفارق بينهما. إذ تم استحداث الكثير من المنشآت العسكرية والدوائر الأمنية، فضلاً عن المعاهد والمدارس الفنية والتطويرية للمهارات العسكرية، والأمنية، وتم إدخال التقنيات العملية الحديثة في التعليم أو التدريب والتأهيل، وأمسى العمل -باتجاه ما يلبي غايات الهدف السبتمبري الثاني -يسير على وتيرة متسارعة ، ومواكبة لدوران عجلة التنمية الوطنية الشاملة التي شقت طريقها على مسار واحد مع المؤتمر الشعبي العام على نحو مثير للإعجاب والتقدير إلى أبعد حدود .
· الهدف الثالث: ( رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً).
لا شك أن حالة عدم الاستقرار، وما صاحبتها من متغيرات سياسية مفاجئة ألحقت الشلل بجميع مجالات الحياة، وعطلت جميع المشاريع الطموحة التي حملها الثوار الأحرار لوطنهم وشعبهم عشية السادس والعشرين من سبتمبر، لكن بدلاً من وضع أيدينا على واقع مختلف كثيراً عما كان عليه في العهد الملكي، وجدنا أن أحلام الجماهير كانت تتسلل ببطء شديد إلى حدقاتهم، وحتى ما تم إنجازه من مشاريع اقتصادية واجتماعية وثقافية لم تكن بمستوى ما كان مأمولاً أن تأتي به الثورة .
وبانبثاق المؤتمر الشعبي العام أصبح الأمر مختلفاً تماماًُ، فالاستقرار النسبي الذي هيأت مناخاته الصياغة الميثاقية ، برصها لصفوف القوى السياسية الوطنية المختلفة، وجمعها على محور فكري متين وواضح، وأساليب عمل مدروسة بعناية، كلها ساهمت في إحداث ثورة تنموية شاملة، تضاعفت فاعليتها بتوسيع عضوية المؤتمر الشعبي العام وامتداد الحركة الوطنية إلى أقاصي ربوع الوطن ، مما تبلور عن ذلك ولادة ممارسات تعاونية شعبية لم تكن معروفة من قبل – صبّت الجهد العام في صالح الغايات المنشودة بالهدف الثالث للثورة. علاوة على أن قيام الجمعيات والاتحادات والنقابات أضفى على الجهد الجماهيري صبغة برامجية منظمة ، وموصوفة بالوعي والنضوج .
وحتماً – ما كان ذلك ليحدث لولا توفر أسباب الاستقرار، فضلاً عن الرؤى المؤتمرية الثاقبة التي ربطت بين مسارات العمل التنموي وبين مسار العمل من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية .
وهو أمر ألهب حماس جميع القوى الوطنية لبذل كل ما يمكن في سبيل التأسيس لنهضة يمنية حقيقية واعدة . وها نحن اليوم نقطف ثمار ما بذر المؤتمر لحظة ولادته، وربما نقف عاجزين عن إحصاء أو استذكار كل ما تم تحقيقه على الصعيد الاقتصادي، أو ما تحولت إليه الدولة اليمنية من نهوض اجتماعي وثقافي وسياسي .
فاليمن لم تعد تلك البلد المجهولة التي يدرج الأوروبيون الحديث عنها في عداد ما يكتبوه من أساطير العالم القديم، بل إنها تبوأت منازلاً رفيعة على مختلف المجالات، وباتت إحدى الحلقات السياسية العربية المهمة التي يضعها العالم في فلك حسابات استراتيجياته الدولية للمنطقة الشرق – أوسطية، وفقاً للأدوار التي تلعبها فيها ، والمواقف التي تتخذها من القضايا المصيرية للأمة والعالم – على حد سواء .
· الهدف الرابع: ( إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف).
بمجرد العودة إلى الدستور القائم الذي تم إصداره عام 1970م تتجلى لنا حقيقة الموقف من الديمقراطية، كون المادة (37) منه كانت تحرم الحزبية. ومن جراء ما كان سائداً من رؤى للعمل السياسي وقعت الثورة ضحية الفراغ الدستوري والسياسي الذي زج القوى الوطنية في ظرف جامد يحول دون تطوير مشاريعها وبناء هياكلها التنظيمية، وتشذيب مهارات كوادرها . الأمر الذي يسمح لأيديولوجيات غريبة عن إرث اليمن الثقافي والفكري باختراق الساحة الجماهيرية، وخلخلة اتساقاتها الطبيعية، وتشكيل خطر كبير على مستقبل الثورة .
إلاّ أنه، وفي أوج صخب الأزمة الثورية جاء التفكير بصياغة (الميثاق الوطني) كخطوة عظيمة لفتح ساحة العمل الوطني أمام ترجمة عملية للهدف الثوري الرابع .
خاصة وأن الحقيقة الرابعة منه جاءت مؤكدة على ما نصه: (إن مجتمعنا اليمني بدون الديمقراطية والعدالة الاجتماعية غير قادر على تحقيق وحدته، وغير قادر على استغلال ثروته المادية والبشرية وإحداث التطور والتقدم والحفاظ على السيادة الوطنية).
حيث إنه عرض وسائل التحول في إطار ما يمكن أن يشكل مفردات الهوية الإسلامية لفكر ونظم حكم الدولة اليمنية، ثم ذهب إلى جعل المؤتمر الشعبي العام نواة الهدف الديمقراطي الأكبر، التي من خلال احتضانها للتعددية السياسية تسعى لإنماء التجربة مرحلياً وتطوير كوادرها وممارساتها إلى الأنموذج الكفيل بإطلاق عنانها للعبور صوب التعددية الحزبية .
وبكل تأكيد - إن الخصوصية بصيغها الماثلة أمامنا اليوم لا يمكن إلاّ أن تكون صناعة مؤتمرية خالصة، وجريئة في الوقت ذاته، لأنها تتجاوز الأنانية والاحتكار السلطوي لتجعل من المؤتمر ليس أكثر من طرف واحد بين أطراف عدة تتجاذب المنافسة الديمقراطية على السلطة، رغم كون المؤتمر صاحب الفضل الأول في كل ما تحقق من إنجازات .
· الهدف الخامس: ( العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة).
من واقع ما كان سائداً في مرحلة ما بعد الثورة رأينا أن القوى الوطنية اليمنية أخذت بالتشتت إلى فصائل وفرق متأخرة عجزت عن بلوغ أية صيغة مناسبة للاجتماع معاً، وتوحيد الصف والجهد- لكن بفضل الفلسفة الفكرية للرئيس علي عبد الله صالح -التي استدرك بها المرحلة، واستوعب ظروفها- كان تجميع القوى الوطنية على المنهج الفكري الميثاقي هو الأساس الذي نشأت على أرضيته ديناميكية العمل من أجل الوحدة .
إذ هيأ ذلك مناخاً من الاستقرار الداخلي، وعزز من الثقة بالمؤتمر الشعبي العام كوسيلة واضحة وذات غايات نبيلة يمكن لقيادة الشطر الجنوبي – سابقاً- الالتقاء معها على خط عمل مشترك يمهد لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية .
أن أمراً كهذا جاء متداخلاً بجدلية ربط ، تلافي بها عناصر مختلفة أفصح عنها الميثاق الوطني في مضامين ما نصت عليه أولى حقائقه، القائلة : ( إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلاّ في ظل الاستقرار والأمن والسلام )، ولا نظن تلك الفلسفة الفكري إلا أن لخصت أهداف ثورة "26 سبتمبر"، وأضفت عليها بعداً تساهمياً يؤلف بين ضروراتها بمنطق تكافلي يضعها جميعاً على مستوى واحد من الأهمية والحاجة للجهد الوطني .
وبلا شك أن الشفافية والوضوح والمرونة التي سلكها المؤتمر الشعبي العام في حواراته ومفاوضاته من أجل الوحدة كان لها دوراً عظيماً في بلوغ المنجز الوحدوي – إلى جانب هذا فإن إيمان المؤتمر بالديمقراطية، والاستعداد المبكر للتعددية جعلت من العبور إلى الوحدة اليمنية بصيغ الشراكة والتقاسم أمراً مقبولاً عند قيادة المؤتمر الشعبي العام ما دام ذلك يمثل الصيغة المناسبة لإعادة الأمجاد اليمنية ، وحماية الهوية التاريخية والحضارية للوطن اليمني وشعبه.
· الهدف السادس: ( احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والعمل على إقرار السلام العالمي وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم).
عملت الثورة السبتمبرية بمناهج ما يمليه هذا الهدف من مفردات منذ الأيام الأولى لانبثاقها. فالثوار انطلقوا في حركتهم الوطنية من واقع الحقوق الإنسانية المشروعة المكفولة للشعوب في مواثيق الأمم المتحدة ،كما كان حرص الضباط الأحرار كبيراً على إسناد ثورتهم باعتراف دولي يكون مظلة المسار الجمهوري الجديد في العالم الخارجي .
ولما كانت الثورة تحمل همومها الداخلية الخاصة، وتتطلع إلى خلق ظرف مستقر وآمن يتيح لها التفرغ لمعالجة مواريث الماضي وصنع غد الجماهير، لذا آثر مناضلوها الوقوف على الحياد مما كان يدور من صراع بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، وعدم الانحياز لأي طرف منهما خشية الوقوف في محظور اللعبة الدولية .
كما بدا واضحاً أن الثورة السبتمبرية كانت تجنح إلى السلام في مختلف مراحلها، إذ تعددت مبادرات إصلاح ذات البين مع الملكيين ، وإخماد نيران الحروب التي كانت دائرة طوال الستينات، وبفضل صدق النوايا انتهى الأمر إلى المصالحة الوطنية بين الطرفين في عهد القاضي عبد الرحمن الإرياني. ولعل هذا اللون من التوجه السلمي سلك طريقه أيضاً إلى الخلافات والحروب التي كانت تنشب على مناطق أطراف الشطرين وجيرانها أو دول إقليمها، وظلت على الدوام في مقدمة الداعين إلى الحوار الإيجابي والتعايش السلمي بين الشعوب والأمم.
إلاّ أن حكمة الرئيس علي عبد الله صالح نقلت الصناعة السلمية إلى فلسفة أكثر وضوحاً وفصاحة بعد أن تبوأت صدارة الحقائق الفكرية للميثاق الوطني، التي استهلها بالنص: (إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلاّ في ظل الاستقرار، والأمن والسلام..).
إذ كانت صيغ الفكر الميثاقي، وأدبيات العمل السياسي للمؤتمر العام يقدمان السلام والاستقرار كشرط أساسي لأي عمل وطني حقيقي، ولأي جهد تنموي أو وحدوي، وهما قاعدة صلبة يؤسسها الحوار الإيجابي والشفافية في العمل السياسي لتجاوز الأزمات الإقليمية والدولية بالقدر الذي يحمي السلام العالمي، وينمي علاقات الشعوب والأمم .. الأمر الذي سيعود على البشرية جمعاء بالخير الوفير.
ومن تلك المنطلقات كان المؤتمر الشعبي العام كلمة اليمن للمرور من بوابة الانفتاح الخارجي ومشابكة المصالح مع العالم، وحل الخلافات الحدودية، ونزع فتيل الأزمة مع إرتريا بشأن "أرخبيل حنيش" فضلاً عن أدواره التاريخية في مقتبل تجربته بإخماد الفتن والحروب بين الشطرين، وفي الموقف الحكيم من أحداث عام 1986م على ساحة الشطر الجنوبي.
وقد حمل المؤتمر الشعبي العام هذا النهج السلمي إلى خارج حدوده القطرية، إذ تبنى مبادرات إحلال السلام بين الفصائل الصومالية، كما سعى إلى إبرام العديد من الاتفاقيات، وتوسيع شبكة المصالح مع دول البحر الأحمر والقرن الأفريقي بهدف توثيق العلاقات، وترسيخ الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
علاوة على أن المؤتمر على امتداد مسيرته الوطنية بلور مواقفاً واضحة وشجاعة إزاء قضايا الأمة المصيرية ومسيرة السلام في الشرق الأوسط، والتواجد الأجنبي في المنطقة وكل ذو صلة بأمن واستقرار الإقليم والعالم على حد سواء.. وهو الأمر الذي جعله شريكاً في الحرب على الإرهاب الذي بات خطراً هائلاً يهدد البشرية في كل مكان من العالم .
إذن فالمؤتمر الشعبي العام مثل امتداداً طبيعياً للمنهج السلمي للثورة السبتمبرية، بل أنه أيضا لم يكتف بالصيغ التي ترجمها الثوار بقدر ما ذهب إلى تفعيلها على نحو أكثر تطوراً وجرأة،وصار المبادر إليها وليس المقلد لغيره، مما ترتب على ثوابت تلك السياسة انتقاله نوعية للدولة اليمنية لدرجة أن وصفها البعض بأنها (القطب الرائد لأمن وسلام الجزيرة العربية والقرن الأفريقي).

خلاصـــة :
من خلال عرضنا السابق لأهداف ثورة 26 سبتمبر 1962م وطبيعة ما آلت إليه لاحقاً بدت تجربة المؤتمر الشعبي العام بمثابة الديناميكية الحقيقية التي انتقلت بها الثورة من مدلولها التنظيري إلى واقعها التطبيقي المعاش. فالمؤتمر استلهم أسباب وجوده، وصيغ عمله، ومحاور تحولاته المرحلية من الأفق المعرفي للأهداف السبتمبرية الستة.
في حين استمدت الثورة أكسيد الوجود الحي، ومقومات التفاعل الإيجابي وعوامل التواصل التاريخي من المؤتمر الشعبي العام، وقدراته الفائقة على استيعاب معطيات عصره وانتقاء أدواتها المناسبة الكفيلة بالحفاظ على قدر جيد من التوازن في آليات حركة العمل الوطني.
ومثل هذا التجاذب الجدلي يجعل من توصيف المؤتمر بالحركة الثورية أمراً مقبولاً الى حدٍ كبير من القناعة،حيث أن الثورة آلت إلى مسمى انتقالي للنظم السياسية الحاكمة في اليمن دونما أن يحقق مطلب التغيير الكامل للجوانب الحياتية للجماهير – التي هي غاية أي تحول سياسي للدولة، وموضع أي فعل ثوري تناضل على مساره القوى الوطنية.
وهو ما يدفعنا للقول إن المؤتمر لم يكن مجرد تنظيم عرضي طارئ على مسار الحركة الوطنية اليمنية، وإنما كان الوجدان الثوري النابض على أرض الواقع اليمني، أو بمعنى آخر – كان المؤتمر الطاقة الكامنة لحركة العمل الثوري التي بمجرد أن أزاحت الثورة النظام الملكي انتقلت المهمة إليها – ولو بعد حين- ليكون الأمر كله معلقاً على عاتق المؤتمر الشعبي العام.
فالحقيقة الماثلة أمامنا هو أن المؤتمر الشعبي العام أول من تبنى وضع مناهج عملية وموضوعية للتحول الثوري للدولة اليمنية ، وهو من أخد بأيدي جميع القوى الأخرى للتفاعل مع الواقع الجديد ، والتنامي معه ، والتطور إلى ما يستدعيه من صيغ مسئولة وناضجة . وربما لو تأملنا بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية ثم الديمقراطية في إطارها التعددي ، وحاولنا جر قياس ذلك إلى حجم تأثر هذين المنجزين فقط على مسيرة الدولة اليمنية وحياة الشعب اليمني لأدركنا حقاً مستوى ثورية المؤتمر ، وقوة خياره السياسي على التغيير والتحول.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المؤتمر الشعبي العام لبّى كل غايات أهداف ثورة 26 سبتمبر تماماً ، وتجاوزها إلى أخرى . فتلك الأهداف لا تقف عند حدود معينة – كما هو الشأن في التحرر والاستقلال أو الهدف الوحدوي- لأنها تعد من البديهيات المعروفة النهايات الأخيرة ..
في حين تبقى الأهداف التنموية والتحديثية للبنى المؤسسية للدولة مفتوحة على تطلعات لا آخر لها، وتتزايد كما تزايد الحاجات الإنسانية للفرد واختلاف نظرة كل جيل عن سابقه .
وعليه لن يكون من السهل على المؤتمريين التأمل في بلوغ حلقات الهدف الأخير في برامج عملهم الثوري ، بل على العكس من ذلك تماماً ، حيث أن الاعتراف الشعبي بجسامة ما تحمّله المؤتمر من مسئوليات وطنية وضعه في الواجهة أمام جماهيره لتحميله مسئولية أي إرجاء ، أو تأخير في تلبية الحاجات المستحدثة على الصعيد المستقبلي..
ولا شك أن المفهوم الذي تترجمه القوى السياسية اليمنية المختلفة في وقتنا الحاضر من تلازم في الحديث بين المؤتمر والثورة ، والتعرض لهما كما لو كانا كياناً تنظيمياً واحداً لهو التأكيد القوي على قيادة المؤتمر لحركة العمل الثوري في اليمن ، وعلى كونهما ينطلقان من خندق فكري وحضاري واحد .

( تابع الجزء الثاني في ملف مستقل)









أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد
معجب بهذا الخبر
انشر في فيسبوك
انشر في تويتر
المزيد من "كتب ودراسات"

عناوين أخرى متفرقة
جميع حقوق النشر محفوظة 2003-2024