حقبة تهميش الصراع مع إسرائيل يجمع العرب الآن على تفسير الأسباب التي أدّت لضياع فلسطين واغتصاب أرضها عام 1948. فالرؤية العربية المعاصرة لما حدث في نهاية الأربعينات تتفق على أنّ وجود إسرائيل كان حصيلة عوامل اشترك فيها الدور الصهيوني العالمي، مع المصالح الدولية الكبرى، مع العجز والتقصير العربيين الفاضحين. لكن رؤية العرب لما حدث بعد عام 1948 تختلف في تحديد المسؤوليات عن الحقبات اللاحقة لنكبة إعلان الوجود الإسرائيلي، وهي المراحل التي تخللها في النصف الأخير من القرن الماضي عدة حروب عربية/إسرائيلية، ومجموعة من اتفاقيات ومعاهدات سلام أو قرارات دولية لم تنفذ بعد! إنّ تلك الفترة الزمنية يمكن تصنيفها إلى حقبتين، مرحلة كلّ منهما زمنياً هي ربع قرن تقريباً: الربع الأول هو مرحلة الصراع مع إسرائيل بدون وجود صلح أو تفاوض علني أو اعتراف بها من أي طرف عربي، خاصة من الدول المحيطة بها.. والربع الثاني هو مرحلة التفاوض مع إسرائيل وبداية سلسلة المعاهدات معهاوالاعتراف بها والتطبيع في العلاقات من قبل طرف أو أكثر من الأطراف العربية المعنية مباشرة أو بشكل غير مباشر في هذا الصراع. الحقبة الأولى انتهت زمنياً بعد حرب عام 1973 حيث نشطت التحركات الأميركية العلنية والسرية لتحقيق تفاوض مباشر ثم صلح واعتراف كامل بين إسرائيل ومصر كأكبر دولة عربية لها ثقلها البشري والعسكري ودورها الريادي التاريخي في أحداث المنطقة. وكانت مرحلة الخمسينات والستينات من القرن العشرين قد تميزت (مع كلّ ما تخللها من إيجابيات وسلبيات) بقيادة مصر للمنطقة العربية عموماً، وبصناعة الأحداث الهامة فيها، وبالتأثير المباشر على معظم أوضاعها، وعلى المصالح الأجنبية فيها.. بينما أدت معاهدات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل إلى إضعاف هذا الدور المصري وإلى خلل كبير في قيادة المنطقة. إنّ الواقع العربي الراهن هو ثمار تدهور هرمي عاشته المنطقة العربية منذ اختار أنور السادات السير في المشروع الأميركي/الإسرائيلي الذي وضعه وأشرف على تنفيذه هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973ومشروع كيسنجر مع مصر/السادات كان حلقة في سلسلة مترابطة أولها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل (وبالتالي عزلها عربياً)، وآخرها تعطيل نتائج حرب عام 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية كلّها، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية/العربية من المحيط الأطلسي (حيث حصلت حرب الصحراء المغربية) إلى الخليج العربي مرورا بالحرب اللبنانية وتوريط أكثر من طرف عربي فيها لسنوات عديدة. إنّ السياسة الأميركية في تلك الفترة (بعد حرب 1973) كانت الأخطر بالنسبة للعرب، لأنها أوجدت بذوراً لكل الأزمات الساخنة التي انفجرت فيما بعد. وإذا كان أنور السادات قد دفع مصر لسلامٍ منفرد وناقص أدّى لاختلال وتدهور في الوضع العربي كله.فإنّ صدام حسين أدخل العراق بحربينٍ أيضاً ما كان يجب حصولهما، الأولى مع إيران في عقد الثمانينات، والثانية عام 1990 في احتلال الكويت والذي ما كان يمكن أن يحدث لولا الاختلال السابق الذي قام به أنور السادات. ففي العام 1961 حاول عبد الكريم قاسم ضم الكويت لكن ثقل مصر/عبد الناصر منع من حدوث ذلك. ولولا هذا الانحدار الثاني الذي قام به صدام حسين عام 1990 بغزوه واحتلاله لكامل دولة الكويت وتهديده لبقية دول الخليج العربي، لما حصل أيضاً ما حصل من تمزق عربي خطير وهدر وتدمير لإمكانات عربية كثيرة وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخل والوجود العسكري الأجنبي ولمحاصرة الشعب العراقي لعقد من الزمن. كل ذلك ساهم أيضاً بتراجعات على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جلياً في اتفاق أوسلو الذي كان بداية للانحدارالثالث الذي عاشته المنطقة العربية منذ تهميش الصراع مع إسرائيل عقب حرب العام 1973: الانحدار الأول قام به أنور السادات، فعزل به مصر وأضعف الوضع العربي وسمح لإسرائيل بالاستفراد في منطقة المشرق.. الانحدار الثاني قاده صدام حسين، فدمّر به إمكانات العراق ووحدته، وزاد في ضعف العرب وانقسامهم حكومات وشعوباً، كما شرّع أبواب المنطقة للتدخل الأجنبي السافر. الانحدار الثالث أحدثته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من خلال توقيع اتفاق أوسلو الذي نقل القضية الفلسطينية من قضية عربية إلى شأن خاص بقيادة منظمة التحرير - وليس حتى بالشعب الفلسطيني كله - فانعزلت القضية الفلسطينية عن محيطها العربي وضعف وضع المقاومة المسلحة المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي وأصبحت "السلطة الفلسطينية" مسؤولة عن تأمين أمن إسرائيل! .. إضافة طبعاً لتبرير أنواع العلاقات كلها والتطبيع بين إسرائيل ودول عربية ومجموعة الدول الأفريقية والآسيوية. ورافق تهميش الصراع مع إسرائيل، صراعات عربية/عربية وتراجع دور الجامعة العربية وأنواع العمل العربي المشترك، وحروب داخلية هددت وحدة الكيانات الوطنية ودمرت مقومات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في ظل تأجج المشاعر الانقسامية بين أبناء الشعب الواحد، إن لأسباب داخلية أو بتشجيع وتحريض من قوى خارجية. وانسجمت هذه التطورات العربية مع السياسة الإسرائيلية التي تراهن على تمزيق المنطقة العربية إلى دويلات طائفية وأثنية تكون إسرائيل فيها هي الدولة الدينية الأقوى التي ترتبط بخيوط وعلاقات مع الكيانات العربية المتصارعة، وبشكل مشابه للسياسة التي مارستها إسرائيل في لبنان قبل وبعد اجتياحه عام 1982. *** الأمّة العربية الآن أمام مفترق طرق: الاختيار بين تكامل وتطوير نظم الوطنيات العربية القائمة أو الانحدار أكثر في تفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية متصارعة فيما بينها ومتفق كل منها مع إسرائيل وقوى إقليمية ودولية كبرى! فلا استمرار لصيغة الكيانات الحالية في ظل المشاريع الدولية والإسرائيلية، وفي مناخ التطورات الدولية والإقليمية، وتحت وطأة إهتراء الأوضاع الداخلية العربية في أكثر من مجال سياسي واقتصادي واجتماعي، وصراعات عربية/عربية، وعنف داخلي للحفاظ على الحكم أو للوصول إليه! .حتى الثقافة العربية نفسها في خطر لأنها تقوم على أرض مجزّأة وهي مهددة أن تتحوّل إلى ثقافات خصوصية!.لعلّ مدخل التعامل مع هذه الأوضاع العربية السلبية هو التمييز بين العروبة كهوية انتماء للعرب كلهم، وبين إساءات الأنظمة والمنظمات التي رفعت شعار القومية والوحدة. كذلك، لا يجب أن تنفصل الهوية العربية عن المضمون الحضاري للأمّة، وأن تنطلق من الخصوصيات الوطنية لكل بلد عربي. ويبقى الأساس هو اعتماد البناء الديمقراطي في الداخل الوطني ومع الآخر العربي، وتحريم أسلوب العنف في العمل السياسي العربي - وصولاً للسلطة أو حفاظاً عليها- وفي العلاقات بين الدول العربية. هناك حتماً عوامل استنهاض كامنة في الوضع العربي - على كافّة المستويات - لكنها عوامل تحتاج إلى فكر سليم يرشدها وعمل جاد لتحريكها وتطويرها. * مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن |