بن شملان .. لحظة إنتصار على النفس (قصة) وضع فنجان الشاي على الطاولة التي أمامه وهو ينظر في ساعة يده ، إنها السابعة إلا ربع صباحاً ، نهض بتثاقل وهو يقول لزوجته سوف أذهب الآن لم يتبقى سوى ربع ساعة لبدء الانتخابات .. اتجه صوب باب المنزل لمغادرته وزوجته تدعو له بصوت مرتفع بالتوفيق والفوز .. لم ينس قبل أن يتخطى عتبة الباب أن ينزع ورقة التقويم الخاصة باليوم الماضي ويقرأ حكمة اليوم أسفل الورقة ـ إنها عادته كل صباح ، فهو يتفاءل كثيراً بما هو مكتوب في الحكمة التاريخ (20) سبتمبر 2006م ، أما الحكمة فتقول( إن أعظم انتصار يحققه المرء هو انتصاره على نفسه) .. شعر بتفاؤل مما هو مكتوب لأنه أول كلمات الحكمة لصالحه لقد ربط بين كلمة انتصار الموجودة في الحكمة وبين ماهو مقدم عليه اليوم من انتخابات رئاسية ..إنه يوم تاريخي في حياته، فهو مرشح لرئاسة الجمهورية من أحزاب اللقاء المشترك، لقد بدد تفاؤله.. هذا شيء من القلق والتوتر اللذين يشعر بهما ربما لم يكن مهتماً أن يعرف أن هناك فرقاً كبيراً بين أن ينتصر المرء على نفسه وأن ينتصر لنفسه، كان موكبه المكون من مجموعة من المرافقين والحماية الشخصية وعدد من السيارات الفارهة تنتظره في حديقة منزله ، ركب السيارة الخاصة به واتجه الموكب إلى المركز الانتخابي المسجل اسمه فيه، لم يكن المركز بعيداً عن منزله ، فلم تمض أكثر من عشر دقائق حتى وصل الموكب . نزل من على السيارة.. وحرسه الشخصي ومرافقوه يحيطون به ، وعلى الرغم من وصوله المركز الانتخابي قبل بدء عملية الاقتراع بدقائق إلا أنه وجد أمامه طابوراً طويلاً من الناخبين ، أخذ مكاناً في طابور الناخبين الذين لفت انتباههم الموكب الذي جاء فيه، لذا كان معظمهم يلفت رأسه إلى الوراء لينظر إليه وهم يتخافتون فيما بينهم ، إنه مرشح الرئاسة فيصل بن شملان ، نعم انه بن شملان ، إنه يأخذ مكانه في صف الناخبين كما يفعل الرئيس علي عبدالله صالح في الانتخابات ، كان المركز الانتخابي عبارة عن مدرسة جديدة فتحت أبوابها للطلاب هذا العام ولم يعد ينقصها سوى إكمال رفع سورها قليلاً . أخذ بن شملان يوزع الابتسامات لكل من ينظر إليه ويرد بحفاوة على كل من يسلم عليه أو يحييه . بدأت عملية الاقتراع وبدأ الصف يتحرك قليلاً ، كل شي يسير بشكل طبيعي وهادئ، لا يوجد شيء يلفت النظر غير هذه التجربة الديمقراطية الفريدة من نوعها في الوطن العربي وشيء آخر لفت انتباه بن شملان هو صوت جرافة تعمل بجد . أخذ يتلفت يبحث عنها ويتأمل الجهة التي يأتي الصوت منها وكون سور المدرسة ما زال منخفضاً فقد استطاع أن يراها في الشارع المقابل، كان بن شملان ينظر إلى تلك الجرافة وهي تعمل على هدم مجموعة من الأعمدة من المفترض أن تكتمل لتكون بناية . سأل الشاب الذي يقف أمامه بتعجب : · لماذا يقومون بهدم الأعمدة بدلاً من أن يكملوا بناءها ؟! التفت الشاب إليه : · لو أكملوا البناء لسقط السقف على رؤوس ساكنيها ، لأنهم اكتشفوا أن الأساسات مغشوشة . عاد بن شملان ينظر إلى الجرافة وهي تواصل عملية الهدم، أخذ يحدث نفسه مهما كثرت الأعمدة لا فائدة منها إذا كانت الأساسات مغشوشة . بدأ يشعر بالتشاؤم من عملية الهدم تلك لا يعرف ماذا حصل له فجأة ، يبدو بأنه تصور تلك الأعمدة أحزاب اللقاء المشترك وأن الأساسات المغشوشة هي تلك الاختلافات الكبيرة والشاسعة بين أفكار تلك الأحزاب وأنه هو البناية التي لم تكتمل . - أخذ يفتح مواضيع مع من أمامه ومن خلفه في محاولة منه لتجاهل صوت الجرافة، بيد أنه لم يستطع أن يطيل حديثه معهم، لقد كان صوت الجرافة يزداد ارتفاعاً في رأسه وكأن الجرافة تتعمد ذلك ، لم يخفض صوتها في رأس بن شملان غير تقدم أحد حراسه الشخصيين نحوه وهو يحمل قارورة ماء يسأله إن كان يريد أن يشرب.. أخذ بن شملان قارورة الماء وهو يقول له : - شكراً لك يا ابني لقد أخفضت صوتها من رأسي، لم يفهم ذلك الحارس ماذا يقصد بن شملان بكلامه لكنه اكتفى بأن ابتسم له وعاد مكانه . شرب بن شملان قليلاً ثم صب قليلاً على راحة يده ومسح بها وجههه ثم عاد ينظر إلى تلك الجرافة . كانت الجرافة قد انتهت من هدم الأعمدة وبدأت تغادر المكان وهي تجر معها صوتها . أخذ بن شملان نفساً عميقاً وقد بدا على ملامح وجهه الارتياح لمغادرتها، بدأ يننظر إلى طابور الناخبين بتركيز ويتابع نظراته الأشخاص الذين انتهوا من الإدلاء بأصواتهم . لم تكن أصوات جموع الناخبين مرتفعة كثيراً إلا أن بن شملان بدأ يشعر أن أصوات جميع من حوله بدأت تنخفض، كانت تنخفض شيئاً فشيئاً حتى أنه لم يعد يسمع أي صوت، كان ينظر أمامه وكأنه ينظر إلى شيء لا يراه أحد من الناخبين سواه، صحيح بأن تلك الجرافة قد غادرت المكان لكنها استطاعت أن تتوغل إلى ذاكرة وضمير بن شملان، لقد جعلته يتذكر موقفاً لفخامة الرئيس علي عبدالله صالح بعد أن انتصر مباشرة في حرب الانفصال، كان الرئيس الصالح قد صعد على إحدى الجرافات وقادها هو بنفسه ليهدم بها ذلك المعتقل الرهيب (سجن فتح)، ذلك السجن الذي خصصه الحزب الاشتراكي في فترة حكمه لجنوب الوطن سابقاً للمعتقلين السياسيين وأصحاب الرأي ولكل مناضل شريف يرفض القهر والظلم والاستبداد.. نعم لقد هدم الرئيس الصالح ذلك المعتقل بنفسه ليعلن لشعبه وللعالم بأن عهد المعتقلات السياسية وتكميم الأفواه وزوار الفجر قد انتهى من اليمن إلى الأبد من غير رجعة . مسح بن شملان على جبينه وهو يتمتم بصوت خافت : موقف عظيم لقائد عظيم . بلع بن شملان ريقه بصعوبة حينما تذكر أيضاً ان من قام ببناء ذلك السجن وعمل على تعذيب السجناء فيه هم أحد أحزاب اللقاء المشترك الذين اختاروه كمرشح للرئاسة والذي سيدفع بن شملان لهم ثمن ما بذلوه له كمرشح لهم . فكل شيء في هذه الدنيا بحساب. بدأ بن شملان يشعر بأن هناك غشاوة على عينيه لا يعرف كيف يزيلها كما بدأ يسأل نفسه إن كان ما يقوم به صواب .هز رأسه وكأنه يطرد تلك الأفكار منه، تخلص من ربطة عنقه وهو يشعر بالضيق منها . عاد ينظر بتركيز إلى طابور الناخبين الذي يقف فيه ، لم يبق سوى ثلاثين شخصاً أمامه ويأتي دوره ليدلي بصوته. أخذ يتأمل في سير العملية الانتخابية التي تتم بكل شفافية ونزاهة وديناميكية رائعة، كان هذا المنظر الرائع كافياً ليجعله فجأة ينظر إلى الأرض وهو يشعر بالذنب والخجل.. لأنه حرص أثناء حملاته الدعائية على التشكيك في نزاهة الانتخابات مسبقاً أخذ يحدث نفسه : لقد أسأت إلى نفسي كمرشح للرئاسة كما أسأت لسمعة الوطن .. ما الذي دفعني لأشكك في نزاهة الانتخابات قبل بدئها .. ترى هل كنت أحسد علي عبدالله صالح لأنه من أسس الديمقراطية في اليمن وجعلها خياراً لا رجعة عنه، هل حسدته لأنه بهذا العمل أصبح مثلاً أعلى للزعماء العرب لينهجوا نهجه . صب بن شملان قليلاً من الماء مرة أخرى على راحة يده ومسح وجهه ثم شرب باقي القارورة وعاد يحدث نفسه . إن علي عبدالله صالح أثبت دائماً بأنه ينتصر للشعب، وأنا أيضاً سأسعى لأحقق طموحات الشعب، صحيح بأنه حقق أعظم إنجاز في الوطن العربي بتحقيق الوحدة اليمنية لكني!!، ثم توقف عن التفكير!.. ترى لكنك ماذا يا فيصل عثمان؟! عاد للتفكير والحديث مع نفسه أنا لن أحقق أهداف جموع المتسولين للسلطة من قادة أحزاب اللقاء المشترك، سوف أعمل بضمير لن أدعمهم يهدمون ما بناه علي عبدالله صالح ويدمرون الوطن، قطع حبل تفكيره تقدم أحد الناخبين نحوه ممن أدلوا بأصواتهم ليخبره ذلك الشخص بأنه اختاره مرشحاً للرئاسة، صافحه بن شملان وهو يتفرس في عينيه أنه يكذب عليه.. وقال له: بارك الله فيك يا إبني، لكل ناخب الحرية في اختيار من يراه مناسباً .. غادر ذلك الشخص المكان، أما بن شملان فقد بدأ يتأمل الصور الدعائية الخاصة به ومنافسه والملصقة أعلى واجهة المبنى أمامه كان يشعر وهو ينظر إلى صورته أن تلك التجاعيد في وجهه وذلك الشعر الأبيض يفصحان أن جعبة العمر توشك على النفاذ . لم يبق سوى خمسة عشر ناخباً يقف في الطابور أمامه ويأتي دوره ليدلي بصوته.. عاد ينظر إلى صورة علي عبدالله صالح أمامه بتأمل لكن الصورة أخذته ليتذكر تلك المواقف القومية الثابتة لـ(علي عبدالله صالح) والتي لم تستطع تغيير مواقفه أي ضغوطات أو مصالح أو دولارات. كان بن شملان يتذكر هذا وهو ينظر إلى صورة الرئيس أمامه. بدأ يشعر بأن أحزاب اللقاء المشترك قد استطاعت التضحية به حين نجحت في إقناعه أن يدخل في منافسة فاشلة مع علي عبدالله صالح ..إن أحزاب اللقاء المشترك لم تتآمر لإزاحة علي عبدالله صالح فقط بل تآمرت بهدف اسقاط اليمن ..إن بن شملان يدرك ماذا يعني الإصلاح وكيف كانت مشاركته السابقة في الحكومة وكيف كان وزراؤه بؤراً للفساد، إنهم يستغلون القضايا القومية والدينية لزيادة أرصدتهم ومشاريعهم الخاصة، إنهم يمثلون الفكر المتجمد في هذا الوطن، إنهم يسعون إلى جر البلاد إلى الوراء ، كما يدرك بن شملان ماذا يعني الحزب الاشتراكي هذا الحزب الذي أعلن الانفصال من أجل إرضاء طموحاته وكيف كان الجزء الجنوبي من الوطن سابقاً في فترة حكمهم، وكيف استخدموا صواريخ (سكود) في حروبهم مع اليمن، وماذا يعني حزب الحق هذا الحزب الذي يقوم على التفرقة الطبقية ..إن الشعب لم ينس حكم الأئمة العنصري الرجعي الكهنوتي المتخلف. لم يعد أمام بن شملان سوى خمسة أشخاص ويأتي دوره للإدلاء بصوته، كان لا يزال غارقاً في تفكيره وتأمله ، كان يفكر في الأمن والاستقرار الذي يعيشه الوطن من بداية تولي الرئيس علي عبدالله صالح السلطة حتى يومنا هذا.. إن اليمن لم يعش هذه الفترة الطويلة من الأمن والاستقرار منذ عقود طويلة من الزمن. كان بن شملان يفكر كيف استطاع بناء جيش قوي مدرب، كان بن شملان يفكر في كل هذا وقد أصبح الآن أمام اللجنة الانتخابية.. أدرك جميع أعضاء اللجنة مدى شرود ذهن بن شملان حين لم يلبي طلبهم بأن يعطيهم بطاقته الانتخابية، لذا أعادوا عليه الطلب ـ توقف عن التفكير وقال لهم وهو يهز رأسه: لينتبه ـ عفواً البطاقة الانتخابية.. نعم ..تفضلوا . أخذ بن شملان أوراق الانتخابات ودخل الحاجز المخصص للناخبين لاختيار من سينتخبونهم، وضع أوراق الانتخابات على الطاولة وأخرج قلمه وقبل أن يضع علامة صح على المرشح الذي سيختاره لرئاسة الجمهورية ،رأى فجأة وجه الرئيس علي عبدالله صالح في ورقة الانتخابات ينظر إليه بثقه كبيرة وهو يبتسم له . رفع بن شملان رأسه بسرعة وهو مستغرب مما يجري لكنه استجمع كل قواه وقال مخاطباً الرئيس : · لن تكون عظيماً وحدك، أناأيضاً سأكون عظيماً في هذه اللحظة، أنا أيضاً سأكون في لحظتي هذه مخلصاً للوطن مثلك وسأنتصر على نفسي وانتصر للوطن، أنظر يافخامة الرئيس بنفسك من سأختار لتولي رئاسة الجمهورية لتتأكد من صدق ما أقول . إنحنى بن شملان على الطاولة ووضع علامة (صح) على المكان المخصص لانتخاب الرئيس علي عبدالله صالح، ثم وضع علامة (صح) أمام صورة الخيل في ورقتي انتخاب أعضاء المجالس المحلية .. طوى بن شملان أوراق الانتخابات ثم اتجه إلى الصندوق ووضع الأوراق فيه . وغادر المركز الانتخابي عائداً ، توقف موكبه في حوش منزله.. نزل من على سيارته واتجه إلى داخل المنزل وعند الباب لمح على يساره التقويم المثبت على جدار مدخل الدهليز.. توقف أمامه وهو يتأمل الحكمة التي قرأها قبل خروجه (إن أعظم انتصار يحققه المرء هو انتصاره على نفسه).. لقد فهم ماذا تعني هذه الحكمة ..إنه يشعر الآن براحة ضمير وسعادة لم يشعر بهما منذ سنوات طويلة.. نعم لقد انتصر للوطن حينما اختار الرئيس علي عبدالله صالح مرشحاً له للرئاسة.. إنه الآن مؤمن بقناعة بأن انتخاب علي عبدالله صالح لرئاسة الجمهورية هو انتصار لليمن . |