بين حسن نصرالله وعبد الناصر: هل يعيد التاريخ نفسه؟ أثارت الكاتبة راغدة درغام في مقالها بصحيفة «الحياة» بعنوان «التحالف بين السلطة وقوى الاعتدال لمقاومة المد الإسلامي المتطرف» (8/12/2006) مجموعة من القضايا الساخنة، التي تشغلها وتشغل شعوب المنطقة، منذ عقود، وفي القلب منها قضيتا فلسطين ولبنان. وارتفعت درجة حرارة إحدى هذه القضايا - لبنان - لدرجة جعلتها قابلة للاشتعال، حيث حشد «حزب الله» أنصاره لاعتصام مفتوح في قلب العاصمة بيروت، بهدف إجبار الحكومة اللبنانية على الاستقالة، وتأليف «حكومة وحدة وطنية» جديدة. وتزامن ذلك مع انعقاد المؤتمر السنوي للمنتدى الاستراتيجي العربي، في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة. ولإصرار الحكومة اللبنانية المنتخبة، برئاسة فؤاد السنيورة، على البقاء في السلطة، طالما تتمتع بثقة الأغلبية البرلمانية، فإن الجميع في المؤتمر كانوا قلقين من تصاعد المواجهة بين الطرفين اللبنانيين إلى حرب أهلية جديدة، سرعان ما تنذر بصراع إقليمي ودولي أوسع. وكنا استمعنا في المؤتمر إلى علي لاريجاني، أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، والمسؤول عن التفاوض بشأن الملف النووي بين بلاده والأطراف الدولية ذات العلاقة. وعلى رغم أنه لم يحدث سجال مباشر بين راغدة درغام وعلي لاريجاني أثناء جلسات المؤتمر، إلا أن ما سمعه المشاركون من كل منهما على حدة، ثم ما قرأناه للسيدة درغام في «الحياة» يمثل سجالا مكثفاًً، ينبغي أن يشارك فيه كل المهتمين بحاضر ومستقبل هذه المنطقة. وحتى إذا لم يصرّح بذلك مباشرة فإن علي لاريجاني تحدث بصوت قوة إقليمية عظمى، تتطلع إلى دور عالمي يتجاوز حدودها الوطنية، وحتى مكانتها الإقليمية، فالرجل لم يتردد عن تعداد التحديات بين بلاده والولايات المتحدة، وإخفاقات هذه الأخيرة - في العراق وفلسطين ولبنان والشرق الأقصى (كوريا الشمالية والصين) وأميركا اللاتينية (فنزويلا وكولومبيا)، وإفريقيا (السودان والصومال). وكأنه بذلك يريد من مستمعيه أن يخلصوا من تلقاء أنفسهم إلى أن إيران ستنتصر بدورها في مواجهاتها مع الولايات المتحدة فيما هو قائم وما يستجد من معارك، وفي مقدمها حقوق إيران النووية. من هذا المنطلق فإن لراغدة درغام كل الحق في أن تطلق صفارات الإنذار التي أطلقتها، لعل المسؤولين والمثقفين العرب يستمعون ويبصرون ويستجيبون. والبداية عندها، وينبغي أن تكون، هي احتواء المواجهة الحالية بين «حزب الله» والحكومة اللبنانية. ودعوتها هنا صريحة وهي دعم شرعية الدولة اللبنانية، وعدم التسامح مع من يريدون تقويضها باسم مقاومة إسرائيل. فهل يريد «حزب الله»، أو بالأحرى السيد حسن نصرالله بالفعل تقويض شرعية الدولة اللبنانية؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلحساب من يفعل الرجل ذلك؟ هل من أجل بناء مجد شخصي؟ أو لحساب الشيعة في لبنان؟ أو خدمة لصالح سورية؟ أو دعماً لمشروع الهيمنة الإيرانية إقليمياً؟ أم سعياً لكل ما سبق؟ إن من تابع من العرب يوميات المواجهة بين «حزب الله» وإسرائيل في صيف 2006، واستمع إلى أحاديث ونداءات السيد حسن نصرالله - ومنهم هذا الكاتب - يستبعد أن يكون الرجل يستهدف تقويض الدولة اللبنانية، فقد أكد مراراً وتكراراً أنه يجاهد من أجل لبنان، وأن كل مطالبه هي مطالب وطنية لبنانية بحتة، تلخصت في تحرير الأراضي اللبنانية كافة من الاحتلال، واستعادة الأسرى اللبنانيين في سجون إسرائيل، وأنه لا يطالب بشيء نيابة عن أي طرف غير لبناني. وفي هذا فإن نصرالله يتحدى من يقولون غير ذلك، وبدت مصداقية الرجل عالية، ولا يدانيها إلا بسالة مقاتلي «حزب الله»، الذين أبهروا كل شعوب الأمة العربية والإسلامية - خصوصاً في ضوء الهزائم السابقة للأنظمة الحاكمة على يد إسرائيل. وقد تكرّست مكانة حسن نصرالله عند المصريين بشكل كشف عنه أحد استقصاءات الرأي العام التي يقوم بها مركز ابن خلدون، حيث جاء ترتيبه في المركز الأول بين أشهر ثلاثين شخصية عربية وإسلامية، تم تداول أسمائها في العامين الأخيرين. بينما حاز الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، على المركز الثالث، بعد خالد مشعل. فهل لعبت نشوة الإعجاب الشعبي العارم بخيال السيد حسن نصرالله، فتحول من شخصية شديدة الورع والتواضع إلى شخصية شديدة الثقة والجموح؟ يقوم الباحث العربي - الأميركي فواز جرجس، بدراسة مقارنة بين حسن نصرالله 2006، وجمال عبد الناصر 1956، فهذا الأخير خرج منتصراً سياسياً ومعنوياً في مواجهة عدوان ثلاثي بريطاني - فرنسي - إسرائيلي. كان ذلك منذ نصف قرن، وقبل أن يولد حسن نصرالله بست سنوات. ولكنه لا بد سمع وقرأ عن تلك المواجهة. فكانت بيروت هي الساحة والمنبر التي تكرّست من خلالهما الكاريزما الناصرية. حتى مصطلح «الناصرية» ظهر في لبنان وليس في مصر، ولم يستخدمه عبد الناصر أو المصريون أبداً في حياة الرجل (أي إلى عام 1970). لقد كان الصعود الصاروخي لعبد الناصر في الخيال الشعبي بعد معركة السويس هو الذي مكنه من تبوء موقع قيادي بين زعماء العالم، فأصبح مع الزعيمين نهرو وتيتو، من قادة دول عدم الانحياز. كذلك تمكن من التصدي لمناهضة الاستعمار في بقية الوطن العربي (من الجزائر إلى البحرين) وأفريقيا (من كينيا إلى غينيا). وأنجز أول مشروع وحدوي متمثلاً في الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية). وهزم الأحلاف الأجنبية في المنطقة وحده. وجاءت هذه الانتصارات المتتابعة فاتحة للشهية الشعبية على مواصلة الانتصارات، والإسراف في التوقعات. واستسلم عبد الناصر لطموحه الشخصي من ناحية ولإيقاع الوجدان الشعبي من ناحية أخرى. وهنا وقع المحظور. فبقدر ما كانت السنوات التسع الأولى من عهده (1952-1961) حافلة بالانتصارات، حفلت السنوات التسع التالية (1961-1970) بالانتكاسات (في سورية واليمن وهزيمة حزيران). طبعاً، التاريخ لا يعيد نفسه تماماً. ونقلت وسائل الإعلام المصرية من شهور عدة، نقلاً عن بعض أفراد أسرة الزعيم الراحل تحفظهم على المقارنة بين عبد الناصر وحسن نصرالله. ولكن حقيقة الأمر أن الدكتور فواز جرجس محق في افتراض وجوه الشبه بين الزعيمين، رغم نصف القرن الذي يفصل بينهما - على الأقل من حيث أن تكريس زعامتهما جاء من خلال المواجهة مع عدو خارجي، ومن حيث الصمود، رغم الاختلاف الشاسع في موازين القوة. ولكن يظل الهاجس عند الكثيرين - ومنهم جرجس وهذا الكاتب، هو «تجاوز الحدود»، وعدم القراءة المتأنية للمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية. من ذلك أنه بين عامي 1956(الانتصار) و1967 (الانكسار)، كان عبد الناصر استعدى على نفسه الكثير من الأنظمة العربية (السعودية، الخليج، تونس، والمغرب) والأنظمة الشرق أوسطية (في إيران وتركيا) والإفريقية (إثيوبيا). كذلك كان الغرب نجح في تحييد قناة السويس، بإنتاج واستخدام ناقلات النفط العملاقة، والاستفادة من كل الدروس الأخرى لحرب السويس. الواقع اللبناني والعربي والشرق أوسطي نفسه هو في تغير مستمر. فخريطة هذا الواقع اختلفت في الشهور الستة الأخيرة منذ المواجهة المسلحة بين «حزب الله» وإسرائيل. فهناك قوات دولية أكبر تفصل الآن بين الطرفين. واسرائيل تعمل على تحييد الجبهة الفلسطينية بإطلاق مبادرات سلمية جسورة وغير مسبوقة. والساحة اللبنانية نفسها أصبحت أكثر استقطاباً عما كانت عليه في صيف 2006، بل وربما أكثر من أي وقت مضى منذ 1975. كذلك هناك استقطاب يتنامى بين المسلمين السنة والشيعة، رغم محاولات العقلاء من الجانبين. وضاعف من هذا الاستقطاب استمرار المذابح الطائفية في العراق من ناحية، واستعراض القوة الإيرانية من ناحية ثانية، واستعراض القوة من «حزب الله» وشيعة لبنان من ناحية ثالثة. فإذا كانت مخاوف راغدة درغام من انفجار الوضع اللبناني تبدو مبالغاً فيها، فإنها مع ذلك جديرة ليس فقط بتقييم موضوعي، ولكن أيضاً باهتمام السيد حسن نصرالله. فتفاقم الأوضاع الراهنة داخل لبنان سيكون مسؤوليته هو أمام الله والتاريخ. *نقلا عن جريدة "الحياة" اللندنية |