تخلفنا التقني . . . من السبب ؟؟ الدعوة إلى التقدم التقني وما يتبعه من رقي مادي وحضاري ورفاهية في المعيشة . . الخ هي النقطة التي انطلق منها دعاة التغريب بالأمس ، إذ كان الهدف المُعلن من الاتصال بالغرب عند من اتصل بهم وزيَّن للناس الاتصال بهم هو التقدم كما تقدموا ، وغني عن الذكر أننا لم نحصل على شيء مما تكلموا به ، وصار حالنا اليوم على هذه الحالة من التخلف المادي والعلمي . مع أننا امتثلنا أمرهم ، وسرنا في دربهم واقتفينا آثارهم !! وبعض الشرعيين ممن يجنح للعقلانية في تناول المسائل الشرعية يتكلم من وقت لآخر عن التقدم التقني وأنه ضرورة ، ويظنون أن سبب تخلفنا التقني ـ وبالتالي الحضاري كما يحلو لبعضهم تسميته ـ هو وجود النظرة المتشائمة للعلوم التقنية عند الإسلاميين ، أو أننا بعد لم نأخذ بالأسباب اللازمة لذلك ، ولم نحاول تلك المحاولة الجادة ، وعلينا المحاولة من جديد وبذل الأسباب المادية وتيسير الفتاوى الشرعية المؤدية لذلك ، فنشجع الموهوبين ونبرز مدى اهتمام الشرع بعلوم الطبيعة وتحريضه على عمارة الأرض . وهذا الكلام منقوص لا يمكن أن يُقبل وحده بل يحتاج لكلامٍ قبله وكلامٍ بعده ، وهذه بعض الملحوظات تزيل الغبش وتجلي الحقائق في هذه القضية التي تتجدد من وقت لآخر . أولا : ـ من البديهي أن نتاج التقدم التقني في شتى المجالات عبارة عن وسائل تخضع لمن يتعامل بها ، فهي في ذات نفسها لا توصف لا بحلال ولا بحرام ، وإنما على حسب من يستخدمها ،فمثلا الحاسوب ( الكومبيوتر ) والتلفاز ، والأسلحة المتطورة ، وفن العمارة ، قد يستخدم في النافع وقد يستخدم في الضار ، وذلك تبعا لمن يستخدمه . وقد رأينا الكيمائي حين تَفْسُد أخلاقة ينتج المواد المتفجرة ، والسموم المخدرة ، ورأينا الطبيب حين تفسد أخلاقه يتاجر بالطب ويبتز المريض وقد يتعدى على الحرمات حين التشخيص. وجملةً لم تستفد البشرية كثيرا من الرقي المادي الذي جاءها على يد من لا خلاق لهم من العلمانيين ، وتحولت المعمورة لساحة من الصراع والاقتتال ، والمتاجرة بأرواح الناس وأموالهم ، وفسد الجو والبر والبحر بل والطعام والشراب من نتاج الحضارة والرقي ، كونها وسائل يتحكم فيها من لا خلاق لهم . فالقضية الأولى التي لا بد من حسمها أولا هي ضبط الأخلاق . . . ضبط القيم قبل التقدم التقني حتى لا يعود علينا شرا ونجني منه حنظلا . وذلك عند الأفراد الذين يعملون في هذا المجال وعند الأمة التي تستعمل نتاج هذه العقول . والتقدم التقني بلا قيم صحيحة لا يأتي أبدا بخير . ثانيا : في الشرع ربطٌ واضح جدا بين الإيمان بالله والرقي المادي والحضاري ، أو بتعبيرٍ أدق جُعلَ الرقي الحضاري والمادي إحدى ثمار الاستقامة على شرع الله . قال الله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[ الأعراف : 96] والمصائب ، والفساد في البر والبحر كله بسبب البعد عن طاعة الله عز وجل . {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }[ الروم : 41] وقال الله {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }[ الشورى : 30] فبغير الإيمان بالله تنقلب وسائل التقدم على البشر ولا يستفيدون منها كما هو حاصل اليوم . ولهذا الأمر تنظير عقلي وتاريخي أوضحه في النقطة التالية . ثالثا : لَمْ يتقدم العلم التقني مع اليونانيين والإغريقيين وتقدم مع العرب البدو الأميين ـ وهم أجدادي يرحمهم الله ـ .كيف حدث ذلك ؟ في جملة واحدة : حدث ببركة الامتثال لأمر الله . وتدبر .جاء في القرآن الكريم الحديث عن النظر في الأرض والتدبر في مخلوقات الله ، مرة بصيغة الأمر بأن يسيروا في الأرض من أجل النظر وتدبر آيات الله في خلقه ، ومرة بأسلوب الحض ، ومرة بصيغة التراخي ( ثم ) تنادي على من ضرب في الأرض غازيا أو تاجرا أو زائرا أو مهاجرا أن ينظر حين السير . ففهم العربي البدوي الأمي ـ جدِّي يرحمه الله ـ المحب لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه مأمور بتدبر آيات الله الكونية ، فعاد من الغزو ومن الترحال يتكلم عن أنواع الجبال ( صخرية ورملية .. الخ ) وعن أنواع الصخور ، ويصف بعض الظواهر الغريبة وبالتالي يبحث لها عن تفسير ، كأن يرى بحيرة ملحاء في وسط الصحراء فيقول أن البحر كان هاهنا يوما ما ثم انحسر بفعل الريح التي حملت الرمل ... وانتهى الأمر بعلم الجيولوجيا ، وعاد بعضهم يصف النباتات وخرجوا علينا بعلم ( المورفولوجيMorphology ) ، وقل مثل ذلك في نظريات الفلك والهندسة والطب . . الخ . تحول العلم من نظري إلى تجريبي فحدثت النقلة النوعية في العلم التقني . كل هذا ببركة الامتثال لأمر الله . رابعا : الخطاب الشرعي أخروي . معنيٌ بالآخرة ، وصلاح الدنيا يكون إحدى ثمار طاعة الله . بكلمات أوضح أتت الشريعة لتعبيد الناس لله ، وعمارة الأرض يأتي في سياق مستلزمات تعبيد الناس لله ، والعدل بين الناس يأتي كثمرة من ثمار عبادة الله في الأرض . فالخطاب الشرعي أخروي في جميع مفرداته وقضايا الدنيا تكون تبعا لقضايا الآخرة ، مثلا الصلاة تعبد في جوهرها إلا أنها تثمر إصلاحا في واقع الناس { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }[ العنكبوت : من الآية 45 ] ولكنها ما شرعت أساسا للنهي عن الفحشاء والمنكر بل النهي عن الفحشاء والمنكر إحدى أهدافها الفرعية ، والزكاة فيها تكافل اجتماعي ، ولكن التكافل الاجتماعي وسدِّ حاجة الفقراء ليس هو الأساس من فرض الزكاة وتشريع الصدقة وإنما { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[ التوبة: 103] { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } [ الحج : 37] ،فتزكية النفس وتطهيرها لتنال رضوان الله والفوز في الآخرة هو المقصد الأول وغيره فرغ عليه ولا يقبل بدونه ، وفي موسم الحج { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ }[ الحج : من الآية 28] ولكن الحج لم يشرع أساسا لأغراض اقتصادية وإنما تأتي الأغراض الاقتصادية إحدى الأهداف الجانبية ، وكذا الصوم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[ البقرة : 183 ] هذا هو هدفه الرئيسي تحقيق التقوى ، وتأتي أهداف جانبية للصوم منبثقة من هدفه الرئيسي مثل صلاح الفرد ( الصائم ) في بيئته (( وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ )) [i]، فخطاب الشرع في الأساس لم يَفْصل الدنيا عن الآخرة ، بل رتبهم فجعل هذا من ذاك ، الأخروي يتحكم في الدنيوي والأخروي هو الأساس . وفائدة هذا الكلام هو أننا لسنا معنيين بتقدم تقني وحضاري دون أن ننطلق من أساس شرعي . دون بناء قاعدة صلبة على مستوى الأمة والجماهير والأفراد المعنية بالبحث في هذا المجال . والنقطة التالية تزيد هذا الكلام وضوحا . خامسا : إبراز التقدم التقني على أنه مطلب أساسي وملح ، وخاصة حين يتكلم بهذا الكلام الشرعيون أدى إلى أن توجه طاقات الأمة إلى هذا المجال وانفضوا عن العلم الشرعي ، فنحن نرى اليوم أن المتفوقين من أبنائنا يتجهون للكليات الخدمية مثل الطب بفروعه ، وتوجه إلى العلم الشرعي من لا يرغبه . . من حَمَلَهُ ( المجموع ) على دخول الكليات الشرعية . وانعكس ذلك على مستوى الدعاة في المساجد . فقد اعتلى المنابر قوم مكرهون وتجرأ عليهم العامة وصاروا يتندرون بفعالهم[ii] وبما قدمت من أنه لابد أولا من ضبط القاعدة الشرعية عند الجماهير وعند من يتوجهون للمجال التقني يلزم علينا أن نوجه طاقتنا الفاعلة للمجال الشرعي والتربوي حتى نفرغ من ضبط القيم . فهذه المرحلة ليست مرحلة التوجه للمجال التقني تحديدا . وقد قدمت أسباب ذلك . سادسا : المساحة التقنية التي نتحرك فيها ـ نحن المسلمين ـ محدودة جدا ، وهذا الكلام يفهمه كل ذي عقل ، فالعقول تُستقطب لصالح الغرب الكافر أو الشرق الملحد ، ولا يسمح لها أن تثمر في بلدها ، ووسائل التقدم الحديثة بيد غيرنا ونحن المسلمين في البلاد الإسلامية سوق استهلاكية لما تنتجه عقول هؤلاء أو عقول أبناءنا عندهم ممن يحملون جنسيتهم . في إحدى حلقات برنامج ساعة حوار بإذاعة ( B . B .C ) سأل مقدم البرنامج أحد أساتذة الاقتصاد في جامعة القاهرة : لماذا لم تتقدم مصر مع أنها تمتلك كل إمكانات التقدم من عقول وأرض وثروات الخ ؟ فأجاب بجملة واحدة : لأن التقدم قرار سياسي في الأساس . وهو والله الرأي . خريجي العلوم والهندسة والصيدلة ـ وهي الكليات المعنية بالتقدم التقني ـ مطحون في لقمة عيشة ، وحاملي الدراسات العليا بالكاد يجدون قوت يومهم . بعد أن يتخرجون يتحولون إلى أدوات لابتزاز الناس من أجل الحصول على لقمة عيشهم ، وسلوا المستوصفات والمستشفيات الخاصة ، ومصانع الأدوية وشركات الدعاية الدوائية . إنه سياج غليظ مرتفع من حديد مطلي بالقطران لا تكاد تبصر آخره . أزيحوا هذه السدود ولن تجدوا حاجة للكلام على التقدم التقني . فهؤلاء هم السبب الرئيس في تخلفنا التقني ، أبعدونا عن شرع ربنا ، وفرطوا في ثرواتنا الفكرية والمادية ، فهل يعقل قومنا ؟! سابعا : التكلم في التقدم التقني من قبل الشرعيين توريطه من الخبثاء المكّارين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون . هدفها الرئيس هو تقديم بعض التنازلات الشرعية ، ويتضح هذا حين يوضع أصحاب العمائم أمام أصحاب الكرافتات ويتصبب الشرعيون عرقا حين تتكلم هذه الذئاب البشرية بأنها أنطقت الحديد ، وركبت الجو والبحر ونقلت بالصوت والصورة كل شيء من كل مكان وماذا قدم العمائم للناس ... اللهم هذا حلال وهذا حرام أو كما يعبر بعضهم بسخرية أحيانا هذا حرام وهذا حرام ؟! وينقلب هؤلاء على الشريعة ليفكوا حالة الحرج والضيق هذه فيقولون الشرع لا يعارض العقل والشرع مع التقدم التقني والله أمرنا بعمارة الأرض ،ويبترون النصوص من سياقها الفعلي والقولي لتنطق بمراد هذه الذئاب البشرية , و . . و ينتهي الأمر بانحراف جديد في مفاهيم الشرع وليس بتقدم تقني كما أراد المشايخ ـ وفقهم الله ـ [iii] ثامنا : والعلوم التطبيقية بوضعها الحالي تحتاج لمراجعة شرعية أيضا ، فهي تُدَرَّس بخلفيات علمانية ، فآيات الله في كونه تفسر على أنها ظواهر طبيعية ، والأمراض في مناهجنا نتيجة اختلال فسيولوجي ( وظيفي ) في جسم الإنسان ، والعلاج بالدواء ، والدواء هو المؤثر في المرض ، وحين لا يؤثر العلاج فذلك إنما لأسباب تتعلق بكذا أو كذا ، ودارسي هذه العلوم ومدرسيها بهم حالة من الاستعلاء على العلوم الشرعية وطالبي العلم الشرعي بل ومفاهيم الشريعة . وبهذا تضيع الفائدة الشرعية التي يستند إليها الشرعيون في تدريس هذه المواد ، فإن كنتم لا بد متكلمون ومزينون للناس تعلم هذه الأشياء فراجعوا هذه العلوم أولا من ناحية شرعية حتى لا تخرج لكم تقنيون يفسدون في الأرض ولا يصلحون . ----------------------- [i] جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ عند البخاري كتاب الصوم / 1771، ومسلم . كتاب الصوم / 1944 [ii] وهذه الصورة واضحة جدا في مصر . [iii] ولمزيد بيان راجع ( محمد عبده : من زرعه ومن حصده ) للكاتب ، بالصفحة الخاصة في موقع صيد الفوائد ، وشبكة القلم الفكرية . وموقع المختار الإسلامي *[email protected] *صيدالخاطر |