نفط البحر المتوسط... ملامح صراع جديد نشرت الصحف ومحطات التلفزة التركية صورة لرئيس البنك الدولي "بول وولفوفيتز" وهو يخلع حذاءه استعداداً لدخول المسجد الأزرق في اسطنبول. وتبين الصورة -التي تناقلتها أيضاً وسائل الإعلام المقروءة والمرئية في العالم- أن كلسات (جوارب) رئيس البنك الدولي مهترئة وممزقة، وأن أصابع قدميه تخترقها بشكل ملفت. وقد علقت الإذاعة البريطانية على الصورة بالقول: إن رئيس البنك الدولي الذي يفترض فيه أن يقود الحرب ضد الفقر في العالم لا يستطيع أن يشتري لنفسه زوجاً من الكلسات الجديدة؟ واستكمالاً لهذه الصورة قرر صاحب أحد أكبر المصانع المنتجة للكلسات إطلاق اسم "وولف" على منتجاته الجديدة متعهداً بأن يقدم لوولفوفيتز 365 زوجاً من الكلسات كل عام، أي بمعدل زوج واحد كل يوم مقابل استخدام جزء من اسمه! كما قررت غرفة الصناعة التركية أن تقدم له هدية رمزية هي عبارة عن "دزينة" من الكلسات المصنوعة في تركيا. ويقول رئيس الغرفة حميد أوزيرين إن وولفوفيتز لابد ان يكون قد اشترى كلساته المهترئة من الولايات المتحدة حيث إن ثمانين في المئة منها مستوردة من الصين. أما الإنتاج التركي فإن ثمانين في المئة منه تصدر إلى الأسواق الأوروبية. ولكن لا يبدو أن لذلك أي أثر إيجابي على شعور المجموعة الأوروبية بدفء العلاقات مع تركيا أو بتحركها باتجاه تقبّلها عضواً في المجموعة. فموقف أوروبا يزداد سلبية من طلب انضمام تركيا إليها في الوقت الذي يزداد فيه الاعتماد الأوروبي على تركيا ليس باعتبارها مصدراً للكلسات الجيدة، ولكن باعتبارها الممرّ الرئيس لشبكة أنابيب النفط والغاز من الشرق الأوسط (العراق) والقوقاز وآسيا الوسطى على حد سواء. فالأزمة التي تفجرت بين روسيا وأوكرانيا في مطلع شتاء هذا العام حول أسعار النفط، ثم الأزمة التي تفجرت بين روسيا وبلاروسيا حول أسعار الغاز، أثارتا القلق في الأسواق الأوروبية. ذلك أن مبادرة روسيا إلى قطع الإمدادات عن أوكرانيا وبلاروسيا أدت إلى توقف تدفق النفط والغاز عبر الأنابيب التي تمرّ عبر هاتين الدولتين إلى الدول الأوروبية الأخرى. ولولا الضغوط السياسية على الكرملين لشهدت المجموعة الأوروبية أزمة حقيقية في أشد أيام الشتاء برودة. وحتى لا تقع دول المجموعة تحت رحمة المزاج الروسي كان لابد من تنويع مصادر اعتمادها على الطاقة المستوردة، وكان لابد من توفير ممرات أكثر أمناً واستقراراً للنفط والغاز. ومن هنا برزت من جديد أهمية تركيا. وعلى هذا الأساس يجري ربط خط الأنابيب الذي يمر عبر تركيا والذي ينقل الغاز من منطقة بحر قزوين ومن حقول دول آسيا الوسطى بخط إضافي تحت البحر يربط تركيا باليونان ويربط اليونان بايطاليا. ومن المقرر أن يبدأ العمل في هذا المشروع في صيف هذا العام- 2007، على أن يتم إنجازه في عام 2011. ويبلغ طول الخط الجديد 212 كيلومتراً. وتبلغ طاقة الخط حوالى ثمانية مليارات متر مكعب من الغاز، أما نفقات المشروع فتبلغ 300 مليون يورو، وستتولى المجموعة الأوروبية تمويل 40 في المئة منها على أن تتولى إيطاليا (شركة أديسون) واليونان (شركة ديبا) تمويل الستين في المئة حسب حصة كل منهما من المشروع. إن القلق الأوروبي من إمكانية عدم استقرار إمدادات الغاز والنفط من روسيا (بعد تجربتي الأزمتين مع أوكرانيا وبلاروسيا) دفعت أوروبا إلى وضع استراتيجية جديدة تعتمد على المقومات والأسس الآتية: أولاً: توظيف الإمكانات السياسية والمالية الأوروبية لبناء شبكة من الأنابيب تربط الدول الأعضاء في المجموعة الأوروبية بحيث لا تستفرد دولة دون غيرها بعواقب حظر النفط أو الغاز عنها من أي دولة مصدرة. وستكون هذه الشبكة مماثلة للشبكة الكهربائية التي تربط فرنسا وأسبانيا أو تلك التي تربط بين ألمانيا وبولندا وليتوانيا. ثانياً: توسيع مصادر استيراد الطاقة من النفط والغاز، وفي هذا الإطار تقرر التركيز على إنجاز مشروع "نابوكو" ويربط هذا المشروع عبر الأنابيب أوروبا بمصادر الطاقة في كل من الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى، وتمر هذه الأنابيب عبر تركيا والبلقان، الأمر الذي يجعل تركيا في قلب الاستراتيجية الأوروبية الجديدة. ثالثاً: زيادة الاعتماد على استيراد الغاز المسال، الأمر الذي يتطلب بناء التجهيزات الإنشائية والفنية الضرورية لذلك في المرافئ البحرية الأوروبية. رابعاً: بناء خط من الأنابيب لنقل الغاز الروسي تحت البحر مباشرة إلى ألمانيا. بحيث يتجنب هذا الخط المرور عبر بلاروسيا أو أي دولة من دول أوروبا الشرقية التي يمكن أن تضطرب علاقاتها مع الكرملين لأي سبب. ومن هنا يبدو جلياً أن الاستراتيجية الأوروبية لضمان أمن الطاقة موارد وممرات تزداد اعتماداً على موقع تركيا المهم. ولكن ذلك لم يغيّر من جوهر الأمر شيئاً. وهو أن المجموعة الأوروبية لا تزال تدير ظهرها لطلب الانضمام التركي إليها. فلا سلامة أنابيب النفط والغاز التي تتعطش إليها المصانع والسيارات والبيوت الأوروبية. ولا الكلسات الجيدة الصنع التي تدفئ أقدام الأوروبيين تشفع لتركيا بدخول النادي الأوروبي. ذلك أن مشكلة جديدة انفجرت في وجه العلاقات الأوروبية -التركية عندما أبدت أوروبا تعاطفاً علنياً وواضحاً مع قبرص اليونانية للتنقيب عن النفط والغاز في مياهها الإقليمية. وبما أن هذه المياه متداخلة مع دول الجوار عبر البحر وهي لبنان (هناك اعتقاد قوي بأن الجرف البحري بين لبنان وقبرص والذي يبلغ 200 كيلومتر غني بترسبات من النفط والغاز)، وسوريا ومصر، فقد عقدت اتفاقات ثنائية مع كل منها، الأمر الذي أثار حفيظة تركيا لسببين: السبب الأول هو أن الجزء التركي من قبرص غير مشمول بهذه الاتفاقات، وهو الجزء الذي لا تزال تركيا تحتفظ بوجود فيه منذ عام 1974. أما السبب الثاني فهو أن تركيا نفسها مشاطئة لقبرص وتعتبر نفسها معنية مباشرة بالثروة المرتجاة من النفط والغاز. وكانت تركيا قد عقدت قبل خمس سنوات اتفاقاً مع حكومة قبرص التركية للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية إلا أنها لم تنفذ الاتفاق لسبب تقني فقط، وهو أن تركيا لا تملك القدرات الفنية للتنقيب ولاستخراج النفط والغاز من أعماق البحر. ولكن بعد أن أعربت قبرص التركية عن قرارها ببدء العمل قريباً بالتعاون مع شركة تكساس الأميركية، قررت تركيا الاستعانة بخبرات شركات دولية محايدة مثل بعض شركات البرازيل... وكانت تركيا واليونان قد وصلتا إلى مشارف الحرب في عام 1987 بسبب عملية تنقيب عن النفط قامت بها تركيا في بحر إيجه الذي يقع بين الدولتين. ولم تتوقف تركيا عن التنقيب بعد تدخلات أميركية وأوروبية مكثفة إلا بعد أن تعهدت اليونان بذلك أيضاً. ولذلك فإن تركيا التي تعتبر قبرص اليونانية امتداداً لليونان، تنظر إلى مبادرة قبرص إلى التنقيب عن النفط في البحر المتوسط باعتبارها عودة إلى ظروف وأوضاع عام 1987. وتشاء الصدف أن تكون لتركيا قوات بحرية في شرق المتوسط أي في المنطقة المتنازع عليها بين تركيا وقبرص تحت علم الأمم المتحدة وكجزء من قوات اليونيفيل التي شكلتها الأمم المتحدة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. وفي كتابه "السياسة النفطية من الإمبراطورية إلى الجمهورية"، قال وزير الدولة التركي السابق حلمت أولوغباي إن تركيا على أهميتها كممر استراتيجي للنفط العربي والروسي والقوقازي، فإنها ليست الممر الوحيد. فهناك بدائل أخرى محتملة عبر إيران إلى الخليج، وعبر أفغانستان إلى بحر العرب والمحيط الهندي. ودعا أولوغباي الدولة إلى بذل مزيد من الاهتمام السياسي والدبلوماسي وإلى توسيع استثماراتها النفطية في الدول المنتجة حتى تصبح تركيا الأكثر أمناً واستقراراً لمرور النفط والغاز المستورد من الدول المنتجة الأكثر اضطراباً وتوتراً. وتقلد تركيا بذلك مملكة النرويج، إذ أن هذه الدولة الإسكندنافية التي لا يزيد عدد سكانها على سبعة ملايين نسمة (أي أقل عشر مرات من عدد سكان تركيا) تقوم الآن باستثمارات واسعة في قطاع النفط في العراق وفي عدد من الدول المنتجة الأخرى، من غير أن تكون عضواً في "أوبك" أو في كارتل الدول المستثمرة في قطاع الطاقة. لقد بدأ الصراع على نفط البحر المتوسط قبل أن تعقد أي دولة من دوله أي اتفاق للتنقيب مع أي شركة. ومن المرجح أن يتصاعد هذا الصراع حول الحقوق المتنازع عليها، وهو صراع يتداخل مع الخلافات السياسية المعقدة التي تتسم بها العلاقات بين دول المنطقة عموماً. * الاتحاد |