«قهوة أميركية» رواية تفكك عالماً قديماً بأدوات حديثة رواية «قهوة أميركية» لأحمد زين، الصادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء، هي رواية الصورة بامتياز، لأنها تحكي صورة الواقع بدلاً من الواقع، على رغم ما توحي به من أحداث تُشهرها في وجوهنا ونعرف جيداً تفاصيلها أو على الأقل الجزء الظاهر القوي منها خلال الحقبة الأولى من تسعينات القرن الماضي، مثل حرب الخليج ووحدة اليمن وسقوط المعسكر الشرقي... بطل الرواية الأساس ليس عارف أو عالية أو رفاقهما ورفيقاتهما في المجلس الثقافي البريطاني، بل هو التاريخ الذي عصف بتجربة أو أحلام جيل جديد، (اليساري تحديداً). هذا الجيل الذي حمل هموم السياسة وعاصر بعد التسعينات خيبات كثيرة توالت بعد سقوط جدار برلين وتفكك المعسكر الشرقي وبداية حرب الخليج، ومن ثم دخول العالم العربي في عصر تسليعٍ يقتل كل قيم الإنسان الثابتة - هل هناك قيم ثابتة؟ -. هنا، تبدو الحياة العربية في طور اختلاج يلد عالماً جديداً، على مستوى المظهر، بينما تبقى ركائز القبيلة هي ما يحرك عناصر أو روح هذا العالم، ليكون الفصام لدى السارد مزدوجاً، وتكون معاناته مركبة: مع القبيلة التاوية بين الضلوع: «فكر أن صنعاء ليست سوى قرية كبيرة، خرجت من عصور سحيقة» (ص 32)، ومع السلعة التي تغزو حياة الكائن ولا تتركه ينفك: «لكن مع ذلك أحسست نفسك مفصولاً، عن السلع خلفك وأمامك، تحاصرك من الجهات كلها، وأنك لا تملك غير مراقبتها من بعيد» (ص 68). أما في المحيط القريب فتخفت الشعارات وتحل محلها فردانية انتهازية وشك لا يتوارى. في رواية أحمد زين أيضاًَ، لا نصادف حكاية، على عكس ما نتوقع، بل وهمَ حكاية يصوغها الكاتب ويُلقي بنا في خضمها، أو على أحسن تقدير، حكاية متداخلة لا يعنيها الوصول إلى نهاية معينة، كما يحصل في معظم الروايات الجديدة التي يكتبها أدباء عـــرب يراهنـــون علـــى المغايرة. تُلقي الرواية بعناصر الزمان والمكان جانباً لتخوض مغامرتها متخففة من أي ثقل، إنها رواية حداثية، تتخذ من مجتمع غير حداثي فضاء لها، محاولة امتصاصه وتفكيكه وإعادة صوغه روائياً، لتبعث الى القارئ رؤية للعالم تريد من خلالها إيصال موقفها من الحياة والوجود. فالكاتب يصوغ عالماً موازياً مقتطعاً من العالم الحقيقي، عالماً يرغب في توضيح مدى تفككه واهترائه وضعفه. ولكن بقدر ما يتناظر العالمان (الحقيقي والروائي) فإنهما لا يكونان على الشكل نفسه. إن رهان أحمد زين هنا، هو نقل فوضى عالم يتآكل ويدخل في جسده الجديد، والكاتب لا يعيد تشكيل الفوضى كما تحدث، ما دام تكرار الواقع مستحيلاً، بل يترك الصور تتتالى وتجول في ذهن السارد، بين الغرفة التي جعلها فضاء لتأمل العالم، حيث ينقم على صورة الزعيم، لأنه عاش تجارب قاسية كانت تراوده وتُشعره بالألم: «ومن بعيد، تضع مسافة بينك وبين الصورة المثبتة على جدار بجوار الحمام، وإذا اندفعت صدفة من غير أن تحسب لذلك، ستهاجمك، هكذا ستتوهم، الرائحة الكريهة لبصاقك» (ص 7). ومن خارج الغرفة، حيث يطل السارد الملتبس بين ضميري المتكلم والغائب، يرى من الأعلى تناقضات مجتمع اليمن الجديد بعد الوحدة: «أعد لنفسه شاياً، ثم اتجه إلى النافذة (...) يحاول دائماً ألاّ يشغل باله بالتفكير، في سوء الأوضاع الاقتصادية وترديها، أو في المأزق الذي يعيشه معظم الناس، حتى لا يسقط في هاوية الجنون، فيُحرم من التدثر بأبهة ماض أو تاريخ شخصي مهيب» (ص 30 و32)، أو حين يخرج ليعايش الواقع الجديد، متجولاً بين الناس حاملاً معه العين الفاحصة التي تميزه: «في الباص كان الكلام عن قرب الانتخابات. أزاح عارف الزجاج المتحرك، ورأى إعلاناً ضخماً لمشروب كوكا كولا، في عبوة جديدة، وأسفل الزجاجة الأنيقة، خطفت عينيه عبارة «تذوق الطعم الأصلي»» (ص 83). ثم يعرّج على الشارع، في معناه السياسي والاجتماعي، الذي ينقسم على نفسه ويتشظى إلى قطع مختلفة: شارع يُمانع، ويخرج بعد الوحدة مناهضاً مجموعة من التدابير الاجتماعية التي تجعل البلاد رهينة العولمة والانفتاح الأهوج الضار بمصالح العباد: «إن المشاكل في اليمن، لا يمكن حلها، من خلال فرض الأسعار الباهظة، على الفقراء والمعدمين الذين يمثلون غالبية الشعب» (ص 27). وشارع لا مبال يُفرغ همومه في القات والجنس والحلم بالهجرة إلى الخارج للحصول على فرصة أفضل: «لوى رأسه إلى بعض الطلبة، شباناً وشابات، يتكلمون بصوت عال عن السفر والدراسة خارج اليمن، وفرص العمل في شركات النفط وهندسة الكومبيوتر» (ص 63). وشارع مشتت تتوزعه الأهواء. ثم شارع لا يعنيه العالم كثيراً، لأن هموم الحياة تطحنه من دون أن يجد تفسيراً لوضعه، يعيش مع الإعلانات ويستمتع بالحياة من خلال تصوّرها. أما فضاء المجلس الثقافي البريطاني، فكان يهرب إليه السارد باحثاً عن خلاص من الصور التي تلاحقه، ومع أن هذا الفضاء يعرف حراكاً ونقاشاً، إلا أنه شبه مفصول عن العالم الحقيقي الذي يفعل في الوطن. إنها إذاً رواية تستعين بالصور، وتَكْثُرُ بيــن سطورها أفعال الرؤية والنظــر والمراقبة والتحديق والتذكر، تستدعي الكثير من الصور لوصف عالم يظهر أمام الكاتب ويريد من خلاله تسجيل التاريخ الشخصي لبطل الرواية عارف، الذي تتقاذفه الأمواج وهو يحاول جاهداً صوغ ما يريد، ولو من خلال ابتكار أسطورة شخصية مبنية على الوهم، وامرأة قريبة منه، ربما تكون وهماً أيضاً، لا ينالها. لكن التاريخ الشخصي يهرب من البطل الذي يعيش الانكسار النفسي والجسدي، فيجلس في النهاية، لا مبالياً، منتظراً رصاصة لا يعنيه إن كانت ستصيبه أم ستصيب غيره. ومن خلال هذا الهروب، تتضح الخيبة الكبرى والفشل في صوغ تاريخ الجماعة، لترسم لنا الرواية صوراً فانتازية لمجتمع يولد كما لا ينبغي. روايــة أحمد زين، باعتبارها رواية ذهنية، لا تنغمس في العالم، فالتاريخ لا يُستعاد، لكنها عبر سعيها إلى صوغ عالمها الخاص، تتخفف من صورة الكتابة التي تؤرخ أو تدين، فالكاتب يسرد الصور، كأنما لا علاقة له بها، ويصوغ المقابلات، يُجاور بين الألم واللذة، بين الموقف الإنساني والانتهازية، وخلال الكتابة يصوغ ما يريد بهدوء، ثم ينتاب البطل الشك فجأة في كل شيء، أثناء ذلك، من دون أن يشعر ربما، يشارك في صنع عالم روائي مشوّق ينفتح ويرشح بالسؤال. * الحياة |