هل انتهى الاحتقان الجهوي في اليمن؟ بين الاحتفال بالذكرى الرابعة والأربعين لانطلاق ثورة 14 أكتوبر ضد الاستعمار البريطاني والاحتفال بالذكرى الأربعين للاستقلال وخروج البريطانيين من جنوب اليمن في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، قضى الرئيس اليمني علي عبدالله صالح أكثر من شهر ونصف الشهر في مدينة عدن عاصمة البلاد الاقتصادية والتجارية والمقر الشتوي للرئيس منذ ثلاثة عشر عاماً وهو يبذل جهوداً كبيرة لامتصاص الاحتقانات التي تجمعت على مدى سنوات وانفجرت مرة واحدة خلال هذا العام، رغم أن مؤشراتها كانت قد بدأت تتضح بقوة خلال العامين الأخيرين لكنها لم تقابل من أجهزة الحكومة بما يقتضيه الأمر من الجدية المطلوبة. وكنت قد أشرت في مقال سابق في بداية وصول الرئيس صالح إلى عدن الى مدى النجاح الذي يمكن أن يحققه في التنفيس عن هذه الاحتقانات ومعالجة الأسباب التي أدت إليها بما يمتلكه الرجل من خبرة وفهم عميقين بواقع بلاده وبجغرافيتها السكانية والتأثيرات الاجتماعية الحاصلة فيها. ويمكن القول اليوم إنه نجح بالفعل في تحقيق الشيء الكثير من ذلك، وبالتحديد في ما يخص البعد الاجتماعي للقضايا، وهو الأخطر كون البعد السياسي تتحكم فيه وتوظفه أحزاب المعارضة لدوافع انتخابية استعداداً لاستحقاق نيابيات النصف الأول من عام ،2009 فخلال مدة بقائه في عدن لم يتوقف الرئيس صالح عن لقاءاته بمختلف القيادات السياسية والواجهات الاجتماعية في مختلف المحافظات الجنوبية وليس فقط في محافظة عدن سواء للتشاور معها أو لحل مشكلاتها أو لاستيعابها وتنبيهها لمخاطر اللعب بورقة الوحدة اليمنية لأغراض مطلبية. انتقل الرئيس صالح إلى المحافظة الثانية الأهم في الجنوب وهي محافظة حضرموت التي ظلت هادئة بالقياس إلى ما حدث في محافظات عدن ولحج والضالع، ذلك أن الإشكالات التي ظلت تعاني منها هذه المحافظات جرت معالجتها منذ وقت مبكر في حضرموت، ولذلك لم يزد ما يحدث فيها على نشاط سياسي لأحزاب المعارضة بحجة التضامن مع بقية المحافظات الجنوبية إلا أن الرئيس يعول على هذه المحافظة الشيء الكثير نظراً لما تمتلكه من مميزات متفردة اجتماعياً وثقافياً وجغرافياً واقتصادياً، ولذلك فقد اعتاد أن يقضي فيها أسابيع على مدار العام، لكنه سيعود منها إلى عدن كما تؤكد كثير من المؤشرات لاستكمال ما بدأه وإغلاق ملف المخلفات الاجتماعية وآثار الصراعات السياسية الممتدة منذ عهد ما قبل الوحدة اليمنية والتي تتصل في الغالب بقضايا التقاعد وملكية الأراضي والمنازل وليس بثارات سياسية أو دموية. ومن هنا تأتي أهمية الخطاب الذي ألقاه الرئيس صالح في عدن بمناسبة العيد الأربعين للاستقلال والذي حمل مفاجآت كثيرة لم تكن متوقعة أبرزها دعوته للقيادات التاريخية للحركة السياسية في الجنوب للعودة إلى البلاد وممارسة نشاطها السياسي في الميدان، وكذلك توجيهه بالإفراج عن القيادات السياسية التي تم اعتقالها في الشهر قبل الماضي بسبب تصعيدها حركة الاعتصامات والاحتجاجات مثل العميد ناصر النوبة والقيادي الاشتراكي حسن باعوم وغيرهما، وهو ما لم يكن متوقعاً لدى مختلف الأوساط السياسية التي اعتبرت هذا الموقف مؤشراً الى اطمئنان الرئيس صالح الى أن وجود هؤلاء خارج المعتقل لن يكون مؤثراً بعد نجاحه في معالجة معظم قضايا المتقاعدين وإنهاء كل مبررات مثل هذا التصعيد السياسي ناهيك عما يحمله من رسالة تهدف لفتح صفحة جديدة مع هذه القيادات المعروفة أصلاً بوحدويتها وثقافتها المبنية على أساس أن الوحدة هي مستقبل اليمن... إلا أن الرسالة الأهم في خطاب الرئيس صالح هي دعوة القادة التاريخيين للعودة، من دون أن يسميهم بالطبع، مثل علي ناصر محمد وعلي سالم البيض وحيدر أبوبكر العطاس، رغم عدم وجود أي مانع سياسي أو قانوني يحول بينهم وبين العودة إلى اليمن إلا ما يمكن أن يعتبروه هم أنفسهم أنه ثقلهم السياسي وتاريخهم الوطني كونهم كانوا قادة للجنوب قبل الوحدة في ظروف مختلفة، الأمر الذي يعني أنه ينبغي الترتيب اللائق لعودتهم كرؤساء سابقين وليس كقادة معارضة. ويرى عدد من المراقبين أن عودة مثل هذه الشخصيات للاستقرار في اليمن ليست بالأمر السهل أو القريب، رغم جدية دعوة الرئيس علي عبدالله صالح لهم ولغيرهم ممن فضلوا البقاء خارج اليمن، بعضهم لأسباب سياسية وآخرون لأسباب شخصية، إلا أن الدعوة في حد ذاتها مؤشر واضح الى رغبة جادة لدى الرئيس في فتح صفحة جديدة وإغلاق الملفات التي كانت دوماً سبباً في تجديد وإنعاش المشكلات السياسية. من الواضح أن فترة بقاء الرئيس صالح في عدن واستقباله المتكرر لقادة أحزاب المعارضة الرئيسية أثمرت عن ترشيد موقف المعارضة التي حرصت في البداية على تأجيج ظاهرة الاعتصامات والاحتجاجات من دون أن تدرك، كما يبدو، مخاطرها على الاستقرار السياسي، لكنها راجعت موقفها لاحقاً فأصدرت قياداتها تصريحات متعاقبة، وأعلنت مواقف متوالية تؤكد مخاطر العبث بالوحدة اليمنية تحت لافتة المطالب المشروعة، ابتداء من تصريحات نائب رئيس التجمع اليمني للإصلاح محمد اليدومي والموقف السياسي الذي أعلن عنه الحزب الاشتراكي اليمني من خلال صحيفته (الثوري)، وانتهاء بتصريحات مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الماضية (فيصل بن شملان) الذي شدد على فشل أي حلول سياسية أو إجرائية خارج إطار الوحدة اليمنية، وهي مواقف أسهمت جميعها إلى جانب المعالجات التي اتخذها الرئيس صالح وحكومته في امتصاص الاحتقان السياسي الذي كان سائداً، وسحب البساط من الأطراف التي كانت تريد ضرب الوحدة الوطنية باسم قضايا المتقاعدين ومشكلات الأراضي والمنازل المؤممة المزمنة... ويمكن القول إن الأمور اليمنية عادت إلى طبيعتها، وأخذ الفرز يعود إلى طابعه التلقائي على أساس سياسي حزبي، وليس على أساس جهوي قبلي، الأمر الذي يعني بشكل أو بآخر أنه تم إلى حد كبير تجاوز الأزمة السياسية الأخطر منذ نهاية حرب صيف ،1994 وحتى إن بقيت بعض ذيولها فهي لن تتجاوز الضجيج الإعلامي من بعض المعارضين المقيمين في الخارج في حين ستتجه الأحزاب نحو الانتخابات. *الخليج |