(تجُّمع صنعاء).. أبعــاد الـبداية وغــايات المنتهى مع أن الظرف الدولي الراهن يقتضي الكثير من المراجعات للسياسات القُطْرية، والإقليمية للدول النامية، التي أصبحت موضع التأثر بالتطورات الدولية سواء ما تعلق منها ببرامج (العولمة)، التي تضاعف من معاناة هذه البلدان، وتزيد شعوبها فقراً وأعباء، أو تلك المرتبطة بالحملة الدولية على الإرهاب، وما جَّرت من آثار على الأمن القومي لهذه الدول، علاوة على كل ما يمت بصلة بما يمكن تسميته (الصراعات الاستراتيجية الطويلة الأجل) بين أقطاب الدول الكبرى، وبقية بلدان العالم، إلاّ أن الانطلاق نحو (تجمع صنعاء) لا يمكن تفسيره على أنه محض ردة فعل آنية لمتغيرات سياسية حديثة. فالتجمع ليس حلفاً انتقائياً لاستراتيجيات قطرية متماثلة بقدر ما هو مشروع إنمائي مفتوح الخيارات يسمح لأطراف إقليمية عديدة بالانضواء تحت سقفه، وتقديم رؤاها الخاصة، وبرامجها التي تعتقد أنها أدواتها الضامنة لمصالحها، وأمنها واستقرارها. وهو بهذه الصيغة لا يمكن فهمه على أنه مشروع سياسي بحت، موجه إلى غايات إقليمية محدودة، ذات علاقة بالخلافات القُطرية، أو الحسابات التاريخية بين دول المنطقة- حتى وإن كان مستوى تطور أعمال التجمع ذا أثر في مجرى تلك الخلافات، وتطوراتها على صعيد الحسابات المستقبلية. إن أية مراجعة تاريخية للأحداث التي مرت بها دول منطقة البحر الأحمر، والقرن الأفريقي توضح بجلاء مدى حاجة المنطقة لبناء استراتيجيات موحدة تحفظ لها سيادتها الوطنية، وأمنها القومي، ومستقبلها التنموي؛ فهذه المنطقة – بحكم توسطها مركز العالم، وسيطرتها على أهم الممرات الملاحية التي تسلكها التجارة الدولية بين أوروبا الصناعية، والقارة الأمريكية إلى أسواقها الأفريقية، والأسيوية، وإلى مصادر الطاقة في الخليج العربي، وشبه الجزيرة العربية التي تحتفظ بما يقارب 65% من احتياطي البترول العالمي .. ذلك يجعلها محط أنظار العالم، وموضوع مخططاته التآمرية الاستعمارية. وبجانب الحيوية الاقتصادية التي تتمتع بها المنطقة؛ فإن تماسّها مع البؤر الساخنة للصراع الشرق- أوسطي مع الكيان الصهيوني جعلها أيضاً موضوع أطماع (إسرائيل) التوسعية، وإحدى الأوراق السياسية التي تسعى للعب بها من خلال إدامة حالة الاستقرار فيها، وزرع الفتن والحروب بين بلدانها لخلق المناخات المثالية لضمان إبقاء الكيان الصهيوني كقوة ضاربة مؤهلة لترسيخ وجودها، ومد نفوذها إلى ما تحلم به حاخامات اليهود في بلوغ حدود (إسرائيل الكبرى). ومن هنا يمكن فهم أسباب معارضة اليمن الشديدة لتواجد القوات الأجنبية في مياه البحر الأحمر- أوائل الثمانينات- تحت ذريعة تنظيف الممرات الدولية من الألغام، وكذلك معارضة دول المنطقة للشروع الإسرائيلي -أواخر الثمانينات- بتدويل البحر الأحمر وجعل مياهه حقاً دولياً للجميع. وهو السبب نفسه الذي عارضت اليمن- من جرائه- استقدام قوات أجنبية لمنطقة الخليج تحت ذريعة تنظيف الممرات الدولية من الألغام، وكذلك معارضة دول المنطقة للمشروع الإسرائيلي أواخر الثمانينات بتدويل البحر الأحمر، وجعل مياهه حقاً دولياً للجميع. وهو السبب نفسه الذي عارضت اليمن من جرائه استقدام قوات أجنبية لمنطقة الخليج العربي بحجة تحرير الكويت من براثن الاحتلال العراقي، وتكبدت اليمن على أثره تكلفة باهضة وصفها وزير الخارجية الأمريكي "بيكر" بأنها: (التكلفة الأكبر في التاريخ). ولعل مثل تلك المحاولات الدولية لانتزاع سيادة البحر الأحمر، والبحر العربي من أصحابها الشرعيين ظلت حثيثة لدرجة اشتراك (إسرائيل) بمؤامرة الاحتلال الأرتيري لجزر (أرخبيل حنيش) اليمنية في منتصف ديسمبر 1995، ثم أعقب ذلك مباشرة تحرك الأسطول الفرنسي من قواعده قرب جيبوتي، وتحرك الأسطول الأمريكي من قواعده الرئيسية بالمحيط الهندي أملاً في إقدام اليمن على فعل طائش كردة فعل على (المفاجأة الإرتيرية) يمهد السبيل لتدخل أجنبي واسع، وتواجد طويل الأجل تحت مسمى (حماية ممرات الملاحة الدولية) – على غرار ما جرى إبان حرب الخليج الثانية- وهو أمر يحكم قبضة الأمريكيين على العالم برمته، وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستكون هي المستفيد الوحيد من الوضع القائم؛ حيث أنها أولاً ستلف الحبال على عنق الاتحاد الأوروبي، وتحد من أهميته، وتأثيره، وثانياً ستكون قد نقلت برامج (العولمة) إلى طور متقدم لا مناص لأحد للفرار من أبجدياته، وثالثاً سيصبح بإمكانها إملاء سياساتها على دول المنطقة إلى الحد الذي يمس سيادة دولها، وسينجر ذلك إلى مسيرة السلام الشرق – أوسطي، ومستقبل الكيان الصهيوني الذي سيجد في الوضع الدولي الجديد مدعاة لاستشرائه، وتفجير مرحلة خطيرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي. إذن في ظل الهاجس الأمني الخير الذي تعيشه دول البحر الأحمر، والقرن الأفريقي، وربما الإقليم برمته، لم يكن البحث عن ضمانات عسكرية هو الحل الأمثل، أو الصائب- بأي حال من الأحوال- بالنسبة لدول مثل اليمن، والسودان، وأثيوبيا، والصومال، وجيبوتي، وارتفاع نسبة الأمية، وثقل مواريثها من العهود السابقة، ومشاكل جمة لا تؤهلها لخوض أية مواجهات كبيرة، أو حتى بناء ترسانات دفاعية ضاربة تدك بها الأخطار الكبيرة المحدقة من كل صوب. في ظل تلك الظروف القاهرة كان التسليم بالأمر الواقع يعني معايشة قلق دائم، والركون إلى خيار غير منطقي، ومناطٍ بالكثير من المحاذير الوطنية، وقد يعني استسلاماً للعجز السياسي؛ لذلك اتجه التفكير صوب امتلاك القدرة انطلاقاً من تحرير الذات القطرية للدول بمساعدة أدوات عصرية فاعلة، ومدروسة بعناية، مثلت قاعدة الفلسفة السياسية اليمنية في عهد الرئيس علي عبدالله صالح – في حدود معرفتي الجيدة بالتاريخ السياسي اليمني- وضعفها بالنسبة للأطراف الأخرى في تجمع صنعاء. فمن الواضح أن المشاكل الاقتصادية، التي كانت تعاني منها الدول الآنفة الذكر قد زجت كل منها في فتن وصراعات داخلية، وساعدت على إيقاعها ضحية للجماعات الإرهابية، وتسببت لها بمآزق سياسية داخلية، وخارجية لاحصر لها. فكان من المنطق المجدي فعلاً أن تعطي الأولوية للبناء الاقتصادي، وسبل توجيه مشاريعه في خدمة السياسات الأمنية والاستراتيجية. لقد حمل (تجمع صنعاء) ذلك المفهوم في الأهداف السياسية التي قام لأجلها. فالتجمع يحاول خلق شراكة اقتصادية، ومشابكة في المصالح بين دول التجمع بالقدر الذي يحرك العجلة الإنتاجية الصناعية، والتجارية، والسياحية، وغيرها، ويجعل من الحرص على ديمومة هذا اللون من الارتباط منطلقاً للحفاظ على أسباب الأمن والاستقرار الإقليمي، وقاعدة تقوم عليها المواقف السياسية إزاء التطورات، والمتغيرات الدولية، بدافع حماية الشراكة القائمة، ومنع كل ما يعكر صفوها، أو يعيق تدفق مصالحها. فكثيراً ما تجعل الدول الكبرى من مفردة (المصالح) مبرراً لتدخلاتها المباشرة هنا، أو هناك. فما المانع لتحويل المصالح المشتركة لعامل ارتباط ، وثيق مع الغير في ظل غياب المقومات الأخرى، كالقومية، أو الديانة..! إن إقامة التكتلات – بمختلف أحجامها- بات الصيغة العصرية الأكثر نجاحاً في البناء التنموي للدول، نظراً لما تتيحه هذه التكتلات من فرص استثمارية مشتركة، وتوجيه واضح للموارد، فضلاً عما تقدمه من تسهيلات لانتقال رأس المال، والتكنولوجيا، والمواد الأولية، والعمالة وغيرها. والأهم من كل ذلك أنها تخلق المناخات الآمنة، والمستقرة التي تمثل شرطاً أساسياً لأي نهضة اقتصادية . وهي – من جهة أخرى- إحدى أدوات بناء السلام العالمي، من خلال الفرص التي تكفلها للشعوب في التداخل، والاحتكاك الثقافي والحضاري. بتقديري، وتقديرات معظم المحللين إن اليمن، والسودان وأثيوبيا لديها الكثير من الأسباب التي تشجعها بحرارة للدخول في شراكة اقتصادية، وأمنية- كما أسلفنا الحديث عن ذلك- وربما لو انضمت إرتيريا، وجيبوتي، والصومال إلى جانبها، لكانت الصيغة أكثر فاعلية، وأجدى نفعاً على الجميع، وأقوى ترسيخاً للسلام، والاستقرار الإقليمي-خاصة وأن التجمع سيضع بين أيدي قادة الدول فرصاً ذهبية لحل خلافاتها الحدودية، وتجاوز صراعاتها الموروثة، علاوة على مساعدة بعضها على تحقيق وفاق داخلي بين المحاور المختلفة، وهو ما يعزز لها وحدة صفها الوطني. وبناء على ما تقدم نجد أن (تجمع صنعاء) يمثل ضرورة تاريخية قديمة أملتها الظروف "الجيوبوليتيكية" التي تقع هذه الدول تحت طائلتها، وفرضتها أيضاً مقتضيات الغايات التنموية الوطنية، والتطلعات الطموحة للزعماء السياسيين. وهي بالتالي حلقة لا تتقاطع مع الحلقات الأخرى التي قد تدخل إحدى دول التجمع؛ بل هي –بكل تأكيد- مدعمة لها،ومعززة لقوتها. ومن المهم جداً أن ينظر المرء إلى كل حالة التقاء، وتقارب على أنها فرصة جديدة مضافة لأسباب استقرار العالم، وسلام البشرية. |