السلفية: إشكالية منهج أم مفهوم لم يرض محدثي عن فهمي لحديث افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قسم الناس في هذا الحديث إلى فرقتين فقط حين قال "كلها في النار إلا واحدة " وهو ذات التقسيم الذي نص عليه القرآن " فريق في الجنة وفريق في السعير "فكل الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية التي لم تنكر معلوماً من الدين بالضرورة أو نصا قطعي الثبوت والدلالة هي فرقة واحدة مهما اختلفت اجتهاداتهم وفق فهمهم أو قبولهم لظنيات الدلالة والثبوت من نصوص الكتاب والسنة في الإطار العام لكليات الدين وأساسياته؛ لأن ذلك هو ما كان عليه الرسول وصحابته وعليه مضى فقهاء التابعين ومن تبعهم من أئمة المذاهب ومجتهدي الفقهاء الذين حرصوا على التجرد من الذاتية وشخصنة الحقيقة واحتكارها؛ من عرفوا الرجال بالحق وليس الحق بالرجال "اعرف الحق تعرف أهله "فجاء اختلافهم إثراءً لفقه الظنيات من النصوص عن طريق استلهام كليات الدين وغاياته والاستفادة من إبداعات العقل البشري في التعامل مع واقعهم ومستجدات حياتهم، واقفين عند مقتضى الأخوة في الإسلام التي كفلت فيها شهادة التوحيد خمس كليات ضرورية هي: النفس، والعرض، والدين، والعقل، والمال – على غير ترتيب- وراعت حاجياتهم برفع الحرج وندبتهم إلى التحسين لمعيشتهم بمنظومة القيم التي اشتمل عليها هذا الدين. وكان ذلك هو السنة والجماعة التي عصمت دماء المنافقين مع استيقان كفر بواطنهم، وجعلت عليَّا يقول للحرورية -الذين كفروه- "أنتم في حلٍّ ما لم تاتواحداً أو تريقوا دماء" وتلك هي منهجية الفقه التي لم تنكر على من صلى العصر في المدينة إيمانه بالله واليوم الآخر، ولم تحصر السنة فيمن صلاه في بني قريضة، ورد علي وعمر حديث الأشجعي وحكما بالسكنى للبائن عملاً بالآية دون غضاضة أن يقال لهما: عصيتما رسول الله أو كذبتما صحابياً ولم يشتهر عن فقيه أن قصر الحقيقة على فهمه أو أخرخ مخالفه عن الفرقة الناجية، أو قصر السنة والجماعة على مذهب. حتى أن أحمد بن حنبل كذَّب من يقول بالإجماع، فكان الجميع باحث عن النجاة دون أن يصبح اعتقاد النجاة من فرقة مبرراً لإهلاك المخالفين له إلا عند مدرستين – إن جاز التعبير – الأولى مدرسة التأويل القمعي لظنيات النصوص وتقديس الشخصيات من قبل فقهاء السلطة خدمة للاستبداد السياسي وتبريراً لخروقات الساسة للمنهج في مقايضة قصر فيها علماء السلطة حق الحكم على نخب اجتماعية قصرت عليهم بالمقابل حق العلم والفتيا. وهكذا قال عبدالملك: بأمر الله قتلته وقال ابن أبي داوود: اقتله يا أمير المؤمنين ودمه في عنقي يوم القيامة. لقد كان لا بد أن يتأول المضطهد النص دليلاً للعصيان كما تأوله الحاكم دليلاً للاستبداد وكما كان "جبر" كان هناك "قدر" و "إرجاء" ومن ثم سيوف وأنطاع ودماء تسيل وخلافةٌ تطحن خلافة.. وكما جعل فقيه الخليفة العباسي حق الخلافة لبني العباس؛ باعتبار تقدمة العم علي ابن العم في الإرث، قام الفقيه الجعفري بتقدمة ابن الأخ الشقيق في الميراث على العم لأب انتصاراً للعلوية.. أما المدرسة الثانية فهي مدرسة الركود الفقهي -في عصور الانهيار والتقاليد الأعمى- من علماء المتون والشروح والحواشي الذين حصروا فقههم في "قال أصحابنا" والذي عليه الجمهور من مشائخنا" وامتلأت مؤلفاتهم بالألقاب والأوصاف من مثل " وحيد دهره وفريد عصره". و شيخ الإسلام" و "الحافظ الجهبد" والحبر العلامة القدوة الفهَّامة "و"تاج العلماء وإمام الفقهاء" والصدر الأعظم" و "القطب الأوحد" و دَّرة الخواص ،وانتقلت مائدة معاوية ونفسية "شبيب" و"عمرو بن حطان" القتالية وجدلية "النظام" و "بشر بن غياث" من الواقع إلى أغلفة الكتب، "الصوارم الحداد" و" السيف المسلول" و"الصواعق" و"البوارق" و "التهافت " و"القواصم" والتبر المسبوك" , "الجواهر اللماعة" و"الحلي المرصعة" و" العسجد" و"الوشي" إلى غير ذلك من مسجوعات العناوين التي –غالباً- ما تفتقر إلى مضمون. شذ عن ذلك بعض المغاربة وابن تيمية الحراني، وتلميذه ابن قيم الجوزية وسلفهما ابن الجوزي في المشرق وفقهاء الهادوية في الجنوب. وعموماً فقد اتسمت هاتان المدرستان -خلافاً لمدرسة الرسول والصحابة والتابعين- بالآتي: 1) الانشغال بتخريج الأحاديث وروايتها عن فقهها ودرايتها، وقلة الاهتمام بعلوم القرآن وفقه أحكامه كأساس لكل مصادر التشريع " ما العلم إلاّ حدثنا ". 2) ظهور اصطلاحات الإهلاك، والفرقة الناحية، والسلفية، والسنة، والجماعة وعبارات " أشد على الإسلام من أعدائه" و " زنديق" و "فاسق"و "فاسد العقيدة" و "السنة والجماعة" و" الفتوح" و" الأنوار". 3) تمجيد الأشخاص وتقديس الآراء وشخصنة الحقيقة في أبي عبدالله وأبي الفضل وإمامنا ولا نعلم شيخنا قال بخلافه... الخ. 4) تأويل النصوص في خدمة السلطان وقمع المعارض من مثل " وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم" التي جعلوا منها أمراً بالتثليث في رسالة التوحيد، رغم أن الآية لم تأمر بطاعة أحد غير الله لأن طاعة الرسول داخلة فيها بأمر الله "من أطاع الرسول فقد أطاع الله" لاستحالة التعارض بينهما. وما أولي الأمر سواء أكانوا حكاماً علماء، أم كل من ولي من أمر المسلمين شيئاً فطاعتهم إما في طاعة الله، فهي طاعة لله، وإما في معصيته، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهو ما حددته الآية نفسها "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول.. الآية". يدخل في الجمع: الحاكم والمحكوم، العالم وطالب العلم، رب الأسرة ومن يعول؛ لأن الجميع ملزم بمنهج لا بشخوص وهذا هو التفسير الذي فهمه الصحابه ووفقاً له رجع عمر عن تحديد الصداق حين حاكمته المرأة إلى كتاب الله الذي أطلق قدره. 5) الجدل في غيبيات الأصول من صفات الله وأحواله. مجيئة ونزوله واستوائه ومكانه ومعنى "ناظرة" و "يكشف عن ساق" وغير ذلك مما أمرنا بالتسليم به في إطار " ليس كمثله شيء" أو أحكام لا علاقة لها بنا بأمر أو نهي وإنما هي خاصة بالله من مثل "أهل الفترة" و "مرتكب الكبيرة"و فقء موسى لعين ملك الموت" إلى غير ذلك. أو تفريعات الفروع من "دفن النخامة في المسجد" و" طريقة الضم في الصلاة" و "قتل الذباب في الحرم" و"المسافة بين القدمين في الصف" وغير ذلك من الشكليات. 6) غلبة الطابع الوعظي والبكائيات على خطابهم من ذم الدنيا. والتفان في وصف آلات التعذيب في النار واسماء أودية النار أو مظاهر النعيم في الجنة من حور وغلمان وفواكه وطيبات وترغيب الناس عن المال والحكم لأنهما مهلكتان. والدعاء لأصحابهما بالنجاة لأنهم ضحوا بأنفسهم حين تصدوا لهما ووقههم شرهما، وعلى ضوء ما سبق نسأل: لأي سلف تنتمي سلفية العصر سلفية المنهج "الرسول وأصحابه وفقهاء التابعين وأئمة المذاهب، علي طريق؟ المجددين لها من ابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن العربي وابن حزم والشوكاني والصنعاني والوزير؟ أم سلف الخلاف والاختلاف من الوعاظ وعلماء الفقه السلطوي أصحاب مدرسة الإلغاء والشتائم والمؤلفات الحربية المسجوعة، والذهبية اللماعة؟ سؤال يجب على المنتسب أو الناسب للسلف أن يسأله لنفسه قبل أن يسمي كتابه "اسكات الكلب العاوي" ويتذكر " ولقد كرمنا بني آدم" أو الصواعق في تحريم الأكل بالملاعق" ويتذكر "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" أو يقول " ضليل" ويتذكر " قل إن الهدى هدى الله.. الآية" أو يقول "أجهل من حمار أهله" ويتذكر " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" أو يقول " زنديق فاسد العقيدة" ويتذكر" هو أعلم بمن اتقى" أو يقول " طعنة في خاصرة الإسلام" ويتذكر " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" أو " يقول: خرج عن طريقنا" ويتذكر " ولا تزكوا أنفسكم" أو "حمى الله به الإسلام ونصر به السنة" ويتذكر" بل الله يمن عليكم أن هداكم للإسلام" أو يقول "عقلاني لا خير فيه" ويتذكر " هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب" أو يحلف عشرات الإيمان في خطبته أو محاضرته ويتذكر " واحفظوا إيمانكم" .. وعلى كل مسلم أن يسأل ذات السؤال ويتذكر كتاب الله قبل أن يهتف للركب طالت اللحية أو قصر الثوب؛ خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار عوامل تبرعات أهل الخير في تحديد الفرقة الناجية ضيقاً واتساعاً وطبيعة العلاقة السياسية بين نظام دولة هذا الشيخ ونظام دولة الشيخ الآخر –خصوصاً- إذا كان شيخ مشائخ فرقة رئيس مخابرات دولة لها نزاعات حدودية مع دولة شيخ مشائخ الفرقة الثانية. ....................... سلفية معاصرة من كتاب "السنن والمبتدعات" بتصرف. قال المؤلف بعد أن ذكر صحة الأحاديث عن البول واقفا "فإن صنعت كل ذلك بعدها ونهاك أحد عن البول واقفاً فبل على وجهه" ولم أجرؤ على اتباع توجيهه واكتفيت بالأحتراز من النجاسة والبول مستتراً دون أن استشير أحداً عن الطريقة الأفضل. * من أقوال السلف" إذا رأيت الرجل يكثر من قول "والآخرة خيرو وأبقى"فأعلم أن في بيت جاره وليمة لم يدع إليها" سفيان الثوري. |