العشوائية في إزالة الأسواق العشوائية لم يَعُدْ يُساورني أدنى شكٍّ في أنَّ هُناك فئاتٍ صغيرةً داخل بعض الأجهزة الإدارية تعمل جاهدةً - إمَّا بجهلٍ وحُسن نيَّةٍ أو بمعرفةٍ وسُوء نيَّةٍ - على زيادة مساحة الاحتقانات في الواقع، وسواءٌ كان هذا الفعل ناتجاً عن الأُولى أو الثانية، فإنَّ النتيجة واحدة، كما أنَّه ليس مُهمَّاً أن تكون هذه الفئات ذات النُّفوذ في قمَّة السُّلطة الإدارية أو في أدنى مُستوياتها، إذ أنَّ المُهمَّ، بل الأهمّ، أنَّها، بأعمالها الطائشة ومُعالجاتها العشوائية، تنخر في أعمدة النظام الإداري وتكسب له في كُلِّ يومٍ مزيداً من الأعداء والناقمين، في وقتٍ البلاد فيه أحوج ما تكون إلى تجميع الصُّفوف وحشد الطاقات للخُروج من الأزمات الحقيقية، وفي مُقدِّمتها الأزمة الاقتصادية التي تُعاني منها كُلّ الأنظمة العربية، لا سيَّما في الأقطار الفقيرة، التي ليس لديها من المال ما يكفي لستر العُيوب وتغطية المُشكلات. ومن تحصيل الحاصل القول بأنَّ هُناك نوايا حسنةً دفعت بالبعض في الأيَّام القليلة الماضية، إلى اتِّخاذ إجراءاتٍ ضدَّ المُخالفات التي تشهدها بعض الأماكن في قلب العاصمة، لكن بأُسلوبٍ فجٍّ يخلو من الحكمة وما تستدعيه ظُروف بعض المُخالفات من مُواجهتها بالرفق أوَّلاً، لتُثبت للمُخالفين أنَّ الذين يقومون بالإجراءات ويسعون إلى إزالة المُخالفة ليسوا أعداءهم، بل إخوانهم وأبناء وطنهم، وأنَّ المُخالف والواقف في وجه المُخالفة أبناء عائلةٍ واحدةٍ هي العائلة اليمنية الكُبرى التي لن تستطيع قُوَّةٌ في العالم أن تعمل على إضعافها أو إيجاد ثغراتٍ لانشقاقها أو التقليل من تماسكها والخُروج بها عن الالتزام بالخُطوط الحمراء التي تفصل بين ما هُو حلالٌ وما هُو حرامٌ في العلاقة الأخوية الوطنية. وما آلمني وأثار استيائي ودفعني إلى كتابة هذه الكلمات، ما سمعته عن الحملة التي قامت بها جهةٌ ما، قد تكون تابعةً لأمانة العاصمة، ضدَّ بائعي الخُضار والفواكه في الطُّرقات أو الأسواق العشوائية التي كانت قد فرضت نفسها لسنواتٍ وأصبحت أسواقاً يذهب إليها المُواطنون يومياً من أنحاءٍ كثيرةٍ من العاصمة لشراء حاجاتهم اليومية من بطاطس وطماطم وكراثٍ وبصلٍ وفواكه... إلخ. والمُثير للألم هُو ما رافق تلك الحملة من قسوةٍ وإفراطٍ في استخدام القُوَّة إلى أن صارت حديث المدينة ومُنتدياتها، وما نال بعض البائعين من إجحافٍ غير مسبوقٍ في دهس الخُضار والفواكه أو حملها بالقُوَّة إلى السيَّارات وإلقائها في الزبالة. لا اعتراض على تنظيم العاصمة ونظافتها وحماية الطريق العام من الزحام المُصطنع، وقد تكون الحملة ضرورةً لا مناص من القيام بها، لكنَّها، وبالصُّورة التي حكى الناس عنها، تبدو حملةً ظالمةً وفي غير أوانها، وهي لا تقلُّ عشوائيةً عن تلك الأسواق العشوائية أو الهامشية التي تُشبه أحياء اللَّيل التي نَمَتْ وتطوَّرت وأصبحت جُزءاً مُشوَّهاً من العاصمة. وأغرب ما يُقال عن الحملة أنَّها تمَّت دُون إنذارٍ مُسبق، كما لم يسبقها إعداد خطَّةٍ مدروسةٍ في اختيار الأُسلوب الأنسب لإزالتها ودراسة مصير هذا العدد من البائعين والعواقب التي تترتَّب على تشريدهم وإمكان تحوُّل عددٍ منهم إلى عناصر إجرامٍ لا تُعيق جوانب من الطريق العام فحسب، وإنَّما تُفسد أمن المدينة كُلّها. يُضاف إلى ذلك أنَّ الأسواق الهامشية أو العشوائية، التي تمَّت إزالتها بالقُوَّة، لم يتمّ إيجاد البديل لها، ولم تَعُدْ تخصّ البائعين فيها وحدهم، بل تخصّ المُستفيدين من وجودها، وهُم الغالبية العُظمى من سُكَّان العاصمة، الذين كانوا يجدون فيها احتياجاتهم بأسعارٍ زهيدةٍ تصل إلى أكثر من نصف الأسعار التي تعرضها البقَّالات الكبيرة وأصحاب الدكاكين الذين يطمعون بأرباحٍ عاليةٍ يُسدِّدون منها الإيجارات الباهظة، بينما كان البائعون المُهمَّشون يعرضون بضائعهم على عربات اليد أو على الأرض، ويقنعون بأقلِّ الأرباح. وفي الأخير : إنَّ الخطأ في الاجتهادات الإدارية واردٌ ومُحتمل، لكن بعد أن يكون الخطأ ناتجاً عن اجتهادٍ مدروسٍ يأخذ في الاعتبار كُلَّ الأُمور الصغيرة والكبيرة، على مُستوى الحارة والسُّوق أو على مُستوى الوطن بأكمله. الأُستاذ الدُّكتور أحمد مُطهَّر عقبات في أحدث كُتبه < لم يَعُدْ الإعلام، بأشكاله ومجالاته المُختلفة، صناعةً بدائيةً ارتجاليةً تقوم على الاجتهاد الشخصي أو المُحاكاة، فقد صار علماً قائماً بذاته، وأصبحت له أُصوله ومبادئه وأساتذته وإبداعاته، والأُستاذ أحمد عقبات واحدٌ من أبرز أساتذة الإعلام في بلادنا، وهُو من القلائل الحاصلين على درجة الأُستاذية في هذا المجال، وأُستاذٌ بكُلِّيَّة الإعلام، وعميدٌ سابقٌ لها، وكتابه الجديد «الإعلام التلفزيوني ... المبادئ العامَّة للإنتاج»، إضافةٌ جديدةٌ إلى حقل هذا العلم الجديد، ومُحتوياته لا تهمّ الدارسين في مجال الإعلام بقدر ما تهمّ كُلّ مُثقَّفٍ يُريد أن يعرف أبعاد هذه الوسيلة الإعلامية بالغة النُّفوذ والتأثير، وهي التلفزة. يقع الكتاب في (154) صفحةً من القطع الكبير، ومن منشورات دار الفكر المُعاصر. تأمُّلاتٌ شِعْرِيَّة : ألوذُ بحُزني وأفزعُ من هفوات الصغار إليه فلا الكلمات العتيقة تمسكني لحظة الانشطار الذي يسبق الهول أو لحظة الانهيارْ. ألوذُ بحُزني من العثرات الكبيرة والعثرات الصغيرهْ. أشكو له، أستريحُ إليه أمدُّ له أضلعي حين لا اللَّيل ليلٌ هُناك وليس النهار نهارْ!! |