رئيس العلماء في البوسنة: الحياة تستمر بالحوار الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة والهرسك، من المثقفين المسلمين الذين لديهم ملكة الحوار، وممن عرفوا السياسة ودروبها، وخبروا الشرق والغرب وأسرارهما. لذلك فإن الحوار معه كنز لا يفنى، والحديث معه لا يمل. في هذا الحوار يتحدث المفكر البوسني الدكتور مصطفى تسيريتش لـ «الشرق الأوسط» في سراييفو، عن عدة قضايا استراتيجية، في مرحلة مفصلية من تاريخ المسلمين في أوروبا. ومن ذلك مرور 600 عام على دخول الاسلام إلى البلقان، وعن الجديد الذي جاء به الاسلام إلى المنطقة، وفي مقدمته التسامح والتنوير الحقيقيين، والحرية الدينية التي أرسى دعائمها في البلقان، ثم الحوار مع الآخر ـ ولاسيما الأوروبيين ـ وآفاقه، وموجات العداء للإسلام، ولماذا كلما هدأت موجة أعقبتها أخرى؟ وما إذا كان ضعف المسلمين في الوقت الراهن يشجع الآخرين على العدوان ويثير فيهم الأطماع، فالغرب كما يقول البعض يحاورنا بالقنابل وبالتهديد وبالاكاذيب وبالحملات الاعلامية ضد ديننا ومقدساتنا ومصالحنا بل ووجودنا. حول هذه القضايا يدور الحوار مع الدكتور تسيريتش؟ > هناك صحوة اسلامية في البلقان، سواء في تركيا أو في البوسنة حيث تشيد وتقام المؤسسات أو في ألبانيا وبقية الجمهوريات المستقلة فيما كان يسمى بيوغوسلافيا السابقة، كم تم الاحتفال العام المضي 2007 بمرور 600 عام على دخول الاسلام إلى البلقان، لو نعود للبدايات والمآلات؟ ـ هناك رأي يقول إن العثمانيين استخدموا الاسلام لتوسيع نفوذهم في العالم، وآخر يقول أن الاسلام استخدم العثمانيين ليمدد نوره في شبه جزيرة البلقان، وأنا مع الرأي الثاني. وهذا السؤال سيبقى رهن معتقدات الشخص، فإذا كنت تؤمن بالاسلام وبالناموس الإلهي فستقول إن الاسلام استخدم العثمانيين. وإذا كنت تريد تفسير التاريخ ضد هذه الفكرة فستقول إن العثمانيين استخدموا الاسلام للتوسع والانتشار. لكن هذه الحقائق التاريخية خاضعة لفلسفة التاريخ بحيث يفسرها كل شخص كما يريد أو وفقا لخلفياته الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها. وبالنسبة لنا نحن البوشناق، الإسلام نعمة، والإسلام جعلنا شيئا في التاريخ. كشعب لم نكن شيئا، كما أن عددا من الشعوب الأخرى لم تكن شيئا قبل مجيء الإسلام، والإسلام هو الذي جعلها علما بين الامم عندما أخذت به. الإسلام جلب لنا الحضارة. فلم يكن هنا عند مجيء الإسلام سوى بقايا من الحكم الروماني والكنيسة المحلية البوغميلية الموحدة والتي كانت تختلف عن الكاثوليكية وغيرها، وكانت تؤمن بثنائية الخير والشر المطلقين وترفض الحياة الرهبانية والطقوس النصرانية. > هناك من يقول إن التسامح والتنوير الحقيقيين من الامور التي لم تعرفها البشرية سوى في الإسلام، لو تحدثوننا عن الجديد الذي جاء به الاسلام للمنطقة؟ ـ في القرن الرابع عشر كانت أوروبا تعيش في الظلام، وكانت منقسمة وتؤمن بالخرافات. في ذلك الوقت جاء العثمانيون بالحضارة التي كانت متقدمة جدا سياسيا واجتماعيا واخلاقيا وعلى كل الأصعدة. والصرب الذين يشتكون من الحكم العثماني كانوا متعاونين أكثر من غيرهم معهم وتم تأمين كنائسهم ولم يفرض عليهم الإسلام. حتى أن السلطان بايزيد تزوج الاميرة الصربية ابنة الملك لازار الذي قتل في معركة كوسوفو. مجيء الإسلام غير وجه البلقان بثقافته ونظامه الاجتماعي، وكان العثمانيون يحرصون على حماية حقوق الأقليات، منذ دخول محمد الفاتح للبوسنة في عام 1463م وكتب عهدنامة، وهي ثالث وثيقة لحقوق الإنسان في العالم بعد معاهدة المدينة المنورة والعهدة العمرية في القدس. وفي، عهدنامة، تم حفظ الكليات الخمس التي جاءت بها الشريعة الاسلامية للعالم، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض. وفي ذلك العصر لم تكن هناك الامم المتحدة ولا معاهدة جنيف وإنما انطلاقا من مبادئ الاسلام التي لا تعرف الغدر. وأنا معتز جدا بما بينه علماء الاسلام فيما يخص حقوق الذمي التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا حتى اليوم. يجب الافتخار بحقوق الذمي في الإسلام، ففي العهود السابقة كانت هناك تفرقة عنصرية ودينية مقيتة ليس فيها للآخر أي حقوق أو حرمة، وهذا ما يجب تذكير العالم به. فالملوكية في الغرب كانت تعني ملك كل شيء حتى البشر، وفي العهد الروماني كان للرومان امتيازات تختلف عن بقية البشر، وفي اليونان منذ سقراط وقبله كان هناك التمييز بين الناس، ولم يخل عالم اليوم بعد من ذلك االتمييز. بينما المسلم عليه وفق شريعته أن يراعي حقوق الانسان في 5 أو 6 نقاط ارتكازية تقوم عليها حقوق الانسان، هي الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال. يجب أن نعرض محطات تطور حقوق الانسان في العالم لنؤكد على أسبقية الاسلام والمسلمين في هذا المضمار. ولكن للأسف وصلنا إلى درجة حصل فيها انقطاع بين الأجيال، والبعض لعن كل شيء وبدأ يتعلم من الآخرين، ومع ذلك قيم الآخرين لا تطبق على المسلمين. وهناك في عدد من الجامعات الاسلامية تدرس الفلسفة الغربية بدل الاهتمام بالبناء والتصحيح لما أنتجته العقول المسلمة عبر التاريخ. وأنا لست ضد الآخذ من الآخرين ولكن بعد معرفة وإدراك ما عندنا. كما حدثت أخطاء في التاريخ حول ما يُدرَس ويُدرَّس وربما يكون أبو حامد الغزالي مسؤولا إلى حد ما عن ذلك بإعلانه التصوف. أنا أدعو الجيل الجديد للاهتمام بالتراث وكل ما كتبه أولئك الأفذاذ الذين استفاد الغرب من كتاباتهم في الطب والفلسفة والعلوم التجريبية، ليبنوا عليه وعلى ما يمكن الاخذ به من تجارب الآخرين. > في يناير الماضي قلتم إن الحوار ليس خيارا وإنما فريضة وضرورة لو تشرحوا لنا هذا الرأي.. ـ نحن في حوار مع الآخرين سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه لأن الحياة تستمر بالحوار بينما الصراع قد ينهيها ويلحق أضرارا بكلا الطرفين. جميع الصراعات التي تمت في الماضي تؤكد ذلك والنصر والهزيمة لم تكن سوى دورات متعاقبة عبر التاريخ. والقرآن يدعو إلى ذلك في قوله تعالى «قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون» وكلمة سواء لا تكون سوى نتيجة لحوار معمق ونوايا حسنة، وهو البديل الأمثل للصراع، لأن عدم الحوار هو الصدام. التسابق للخيرات من أجل كرامة الانسان، بحيث يكون التنافس بين خيرين وليس شرين أو حتى خير وشر وهذا ممكن، ويصبح العمل من أجل لجم شرور أنفسنا حتى لا تدفعنا للصراع من جديد قبل لجم شرور الآخرين.ولا بد من الدخول في هذه المنافسة وهذه المنافسة بدل العمل على إبعاد الآخر وربما إبادته ومحوه من الوجود. وإذا كان البعض قال ذلك في معرض تهريج سياسي شعبوي، فإن الآخر عمل ولا يزال يعمل على ترجمة ذلك فعليا وقام به في أكثر من مناسبة،وضرب على ذلك أمثلة كثيرة ليس هذا مجال حصرها وذكر ساحاتها فالكل يعلم ذلك. والقرآن الكريم تحدث بوضوح عن مدارج العلاقات الانسانية، وتعامل معها بشكل بعيد عن السياسوية، فالحوار مقدم على كل شيء، ولكن الحوار يحتاج لطرف مقابل يقبل به، وإذا لم يكن هناك ذلك الطرف المقابل يضع القرآن بدائله المعروفة. وقد كان اليهود والنصارى القدامى المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم يتحاكمون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد خلد القرآن هذه الحقيقة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسألهم لماذا يتحاكمون إليه وعندهم الانجيل والتوراة، فيقرون ويشهدون بعدالته. وهذا لم يحدث في التاريخ وهو أن يطلب قائد مظفر من طوائف الآخرين أن يتحاكموا إلى ما عندهم من قوانين بينما يعمل الآخرون اليوم على محو الاسلام من حياة المسلمين بأشكال مختلفة ومتعددة. فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسى بالوحي الإلهي قواعد العدل والتسامح والعلاقات الانسانية البعيدة عن التوترات والصراعات وفرض الخيارات الحضارية والسياسية وما شابهها.وأنا بدوري أسأل لماذا لا يظهر المسلمون هذه الحقائق اليوم ويتكلمون عنها وينشرونها بين الناس. > إلى أي مدى ساهم العدل في نشر الاسلام في الأرض؟ ـ لماذا أقبل ويقبل الناس ومنهم من يصفهم القرآن بأهل الكتاب على الاسلام، لأن الاسلام فتح لهم باب التفكير والعقل ولم يضعهم في فسطاط واحد أو سلة واحدة، وإنما قال إنهم ليسوا سواء، فمنهم أمة مقتصدة، ومن بينهم رهبان وقسيسون، تفيض أعينهم من الدمع لما سمعوا من الحق، كما ذكر ذلك القرآن في آيات عديدة. وبهذا انتشر الاسلام، فالسماحة والحرية هي رسالة الاسلام بل رسالة الجهاد، فلا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وبهذا انتشر الاسلام في البلقان، فعندما أعلن محمد الفاتح الحرية الدينية أدرك أجدادنا أن الثقة المتناهية في النفس التي عبر عنها المسلمون الاتراك تفيد شيئا واحدا هو كونهم يحملون الدين الحق فدخلوا فيه أفواجا فلولا سماحة الاسلام لربما وجدتني اليوم أعبد الأصنام أو الاخشاب أو البشر الذين تم تأليههم بالباطل، بغير وجه حق، وما أنزل الله به من سلطان. > هناك من يريد، كما يقول البعض، أن هناك اتجاها لتقسيم الإسلام إلى اسلاميات، بحيث يتحدثون عن اسلام عربي وآخر تركي وثالث بوسنوي وغير ذلك. وقد رددتم على ذلك بأنه لا يوجد سوى اسلام واحد وذلك أثناء كلمتكم في مؤتمر بفيينا، وقلتم إنها مصطلحات تضر ولا تنفع.. ـ الاسلام دين واحد، ولا يمكن إلصاق القومية بالاسلام بمعنى إعطائه صبغة قومية، أو إقليمية كقول اسلام أوروبي، بينما لا يقولون نصرانية أوروبية. والهدف من إطلاق مصطلح الاسلام الأوروبي هو محاولة للتفريق بين المسلمين وإخوانهم في مشرق الأرض ومغاربها يجب رفض ذلك بشدة، فالاسلام دين واحد له رب واحد ورسول واحد وكتاب واحد وأمته أمة واحدة. لكن هناك شيئا لا بد من الاعتراف به، وهو التجربة، ونحن لنا تجربتنا في أوروبا، وهي تجربة في التنزيل وليس صنع اسلام بديل، معاذ الله. > لو نعود لموضوع الصراع والحوار في الغرب، يقول البعض إنه كلما هدأت موجة من معاداة الاسلام، إلا وتلتها موجة أخرى عبر تصريحات وكتابات وتظاهرات وما إلى ذلك مما يقدم الدليل حسب البعض على أن الغرب أو جهات كثيرة فيه لا تريد الحوار، منها الرسوم الدنماركية المسيئة، وتصريحات بابا الفاتيكان، ومنع الحجاب في المدارس الفرنسية، وتداعيات ذلك في بريطانيا والمانيا وغيرها، ثم تصريحات بابا الفاتيكان الذي ألغى لجنة حوار الأديان، ثم تصريحات سكرتيره التي قال فيها إن أوروبا يجب أن تخاف من الاسلام، ثم تصريحات اليمين المتطرف في النمسا وما سبقها من تصريحات لرئيس وزراء ايطاليا الاسبق برلسكوني التي قال فيها إن الحضارة الغربية أرقى من الحضارة الاسلامية، والتظاهرات ضد الاسلام في أميركا والقائمة طويلة جدا، ولا أريد أن أجعل من السؤال مقالا، ما تعليقكم؟ ـ بابا الفاتيكان أعاد لجنة حوار الأديان، وليس له من خيار غير ذلك. الذين يرفضون الحوار ليس لديهم بدائل، الحوار ضروري للحياة. والتصريحات والمواقف التي ذكرتها ليست سوى دليل ضعف أصحابها، فالضعيف يلجأ للهجاء عندما تعجزه الفكرة وتخذله الايديولوجيا. إذا كنت قويا فليس لديك حاجة لتنكر الآخرين، وإذا كنت ضعيفا وغير واثق مما في يديك فستخاف وتعبر عن خوفك الذي هو انعكاس لضعفك بتصريحات من تلك القبيل. ونحن كمسلمين يجب ألا تخيفنا هذه التصريحات، ولكن يجب أن تخيفنا بعض ردود أفعال المسلمين عليها. فلا يمكن مواجهة اللاعقل بنفس الأسلوب وإنما الرد على اللاعقل بالعقل. بل الاستبشار بذلك بالدعوات التي انتشرت بعد حملات مناهضة لها بل محاولات استئصال طالتها وطالت منتسبيها، ومن يقرأ التاريخ يفهم ذلك جيدا. > هل لأوضاع المسلمين حاليا سياسيا واقتصاديا دور في العدوان الذي يستهدف الاسلام والمسلمين، وبطريقة أخرى هل حالة الضعف والتمزق تساعد الآخرين على العدوان علينا بمختلف الاساليب؟ ـ هناك حقيقة لا يدركها كثير من الناس، وهي أن المسلمين أكثر وحدة في الدين من أي ديانة أخرى على وجه الأرض. المسلمون لهم كتاب واحد هو القرآن الكريم، ولهم رسول واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الأنبياء والمرسلين، ولا يختلف اثنان من المسلمين حوله: هل هو رسول الله أم إله ابن إله؟ وللمسلمين قبلة واحدة وليس هناك اختلاف بين المذاهب حولها. وللمسلمين عرفة واحد ويصلون بالفاتحة في الصلاة. سواء كنت صينيا أو عربيا أو تركيا فأنت تصلي بالفاتحة، هذه النعمة لا توجد في أي دين من الأديان. وهناك اختلاف في الترجمة، وإضافات في بعض النسخ من التعليقات إلى النص الأصلي وهكذا. وبابا الفاتيكان يقترح أن تكون الطقوس في الكنيسة تقرأ باللاتينية أما نحن فلدينا لغة واحدة للصلاة هي اللغة العربية، وإذا لاحظنا تاريخ النصرانية بل تاريخ المدنية نجدها تأثرت بالاسلام. الاسلام بركة عظيمة وهو الأساس المتين الذي يمكن البناء عليه، وبالتالي نحن أقوياء فعلا وأقوياء جدا، والآخرون هم الضعفاء رغم الصورة المعكوسة في أذهان البعض. ومشكلة المسلمين ليست في ثقافتها وإنما في سياساتها وأنا أقترح أن يكون هناك لجنة للتقريب بين السياسات على غرار لجنة التقريب بين المذاهب. وللأسف فإن البعض من المسلمين يثقون في غيرهم أكثر من ثقتهم في أنفسهم. بل يثقفون فيمن يتربص بهم جميعا. ومستقبل الاسلام والمسلمين في تقريب السياسات. نحن مسلمون ويجب علينا تجاوز العقل القبائلي والمذهبي بمفهومه السيئ. يجب أن نتقدم إلى الاسلام بدل العودة إلى الجاهلية. |