الزكاة علاج فريد لمشكلة الفقر رغم عظمة الإسلام وسمو تشريعاته وعدالة أحكامه ووسطية منهجه في الحياة. فإن الافتراءات والأكاذيب الغربية التي تحاول النيل منه، وصرف المسلمين وغير المسلمين عنه تتواصل وتتكرر على ألسنة السياسيين ورجال الدين وأدعياء الفكر والثقافة، ولا يمل هؤلاء من التكرار ولا يتوقفون عن ترديد الأباطيل والأكاذيب على أمل أن تتحقق أهدافهم وينتشر باطلهم، وينصرف الناس عن دين الله الخاتم. لكن الإسلام الذي وعد الحق بحفظه وحمايته كان وسيظل شامخا قادرا على الصمود والتصدي لكل الأباطيل والأكاذيب والأوهام. ويكسب كل يوم رغم حملات التشويه قلوبا مؤمنة وعقولا مستنيرة هداها الله إلى طريق الحق والخير. نحن من خلال هذا الباب نستعرض أبرز الافتراءات والأكاذيب، ونعرضها على العلماء بحيدة وموضوعية لكي يردوا عليها بالأدلة والبراهين التي تقنع العقل وتنير الطريق للحائرين والمترددين والمخدوعين بكل ما يفد إلينا من الغرب حتى ولو كان اتهامات باطلة لعقيدتنا وشريعتنا. من الافتراءات والأكاذيب التي يرددها خصوم الإسلام للنيل من مصداقية العبادات الإسلامية الزعم بأن الزكاة فريضة تشجع على السلبية وتنشر البطالة داخل المجتمع، حيث تشجع العاطلين والفقراء على عدم العمل والإنتاج وتجعلهم يعيشون عالة على المجتمع، وعلى من يعملون وبرهانهم على ذلك انتشار الفقر والبطالة في مجتمعات المسلمين أكثر من انتشارهما في المجتمعات الأخرى. هذه الفرية يفندها موقف الإسلام من العمل والإنتاج، وهو موقف مثالي بكل المقاييس. فالإسلام كما يوضح المفكر الاقتصادي د. محمد عبد الحليم عمر مدير مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر يعتبر العمل أحد واجبات الإنسان الأساسية التي لا يجوز له أن يتخلى عنها بأي حال من الأحوال، والذي لا يعمل وينتج ويأكل من عمل يده منبوذ في شريعة الإسلام، وليس من المقبول في فلسفة شريعتنا أن يستخف الإنسان بقيمة العمل وأن يعيش عالة على الآخرين، سواء أكانوا من أفراد المجتمع الذين يكفلونه ويوفرون له الحد الأدنى من العيش الكريم، أو كان هؤلاء آباءه وأجداده الذين عملوا وكدحوا وكونوا له ثروة يعيش منها دون عمل مفيد وإنتاج نافع له وللآخرين. “وقل اعملوا...” ولو رجعنا إلى النصوص الإسلامية التي تحث على العمل والإنتاج لوجدناها كثيرة ومتنوعة فالقرآن الكريم يحض في كثير من آياته على العمل ويؤكد ضرورة إتقان هذا العمل ومن بين النصوص القرآنية الكثيرة التي وردت في هذا الشأن قوله تعالى: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”، ويحض القرآن كل إنسان على أن يمارس كل عمل يتناسب مع قدراته وإمكاناته ومواهبه حتى ولو كان بسيطا أو هامشيا فيقول: “فكل ميسر لما خلق له”. والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر العمل النافع المفيد للإنسان عبادة وقربى إلى الله فيقول: “العمل عبادة” ويرفض الرسول صلى الله عليه وسلم سلوك هؤلاء الكسالى العاطلين المتواكلين الذين لا يقومون بعمل مفيد يعود عليهم وعلى أسرهم وعلى مجتمعهم بالفائدة، ولذلك أنكر سلوك الرجل الذي تفرغ للعبادة وعاش عالة على الآخرين وقال لمن حوله من الناس في المسجد: “كلكم خير منه”. هذا هو موقف الإسلام من العمل والإنتاج الذي لا يحتاج مزايدة ولا طعنا من خصوم الإسلام فهو موقف واضح وحاسم ويؤكد عظمة هذا الدين وحرصه على الارتقاء بالحياة، والنهوض بالمجتمع، والحفاظ على كرامة كل أفراده. عبادة مالية أما القول بأن الزكاة فريضة تشجع على السلبية ونشر البطالة في المجتمع فهو يكشف عن جهل خصوم الإسلام وتعاملهم مع تشريعات الإسلام وفرائضه وأحكامه بمنطق “ولا تقربوا الصلاة”، فالزكاة بضوابطها وفلسفتها وأهدافها النبيلة لم ولن تكون وسيلة لنشر روح السلبية والبطالة والتواكل بين المسلمين، بل هي تشريع عادل يؤكد عظمة الإسلام في تحقيق التكافل الاجتماعي والإنساني بين أغنيائه وفقرائه. فمن بين أهداف هذه الفريضة كما يقول د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع عن طريق مساعدة الغني للفقير، لأن الناس في كل مجتمع متفاوتون في تملكهم للمال، إذ منهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم القادر ومنهم غير القادر، فكان من الواجب أن يعطف القادر على غير القادر، وأن يقدم الغني للفقير ما يساعد هذا الفقير على إشباع حاجاته الضرورية لحياته. وفي الزكاة أيضا تحقيق معنى التراحم والتعاطف بين المسلمين الذين جمعت بينهم عقيدة واحدة، وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. والزكاة تضاعف من مشاعر المودة والمحبة بين الناس، فإن المحتاج لضرورات الحياة عندما يشعر بأن الغني قد سد له حاجته، وقدم له ما يغنيه عن السؤال تزداد محبته لهذا الإنسان الغني، ويتولد بينهما الشعور بالثقة والمحبة والمودة وينعدم الشعور بالحقد والكراهية. وهكذا تكون الزكاة التي شرعها الإسلام عبادة مالية لها أهدافها الاجتماعية والإنسانية النبيلة، وهكذا تكون الزكاة من جوانب العظمة والقوة في التشريع الإسلامي وليست ثغرة يحاول خصوم الإسلام التطاول عليه من خلالها. الزكاة والرسالات السابقة والزكاة بمفهومها البسيط إعانة الفقير بجزء من المال عبادة قديمة عرفت في الرسالات السابقة، وذكرها الله في وصاياه إلى رسله وفي وصايا رسله إلى أممهم، حيث يقول القرآن عن الخليل إبراهيم وابنه إسحاق وحفيده يعقوب عليهم السلام: “وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصلاةِ وَإِيتَاء الزكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ”. ويمتدح إسماعيل عليه السلام بقوله: “وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصلاةِ وَالزكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبهِ مَرْضِيّاً”. ويذكر الله في مواثيقه لبني إسرائيل: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلا اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلناسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصلاَةَ وَآتُواْ الزكَاةَ”، ويقول على لسان المسيح عليه السلام وهو في مهده: “وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا”، ويقول في شأن أهل الكتاب عامة: “وَمَا تَفَرقَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَينَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصلاةَ وَيُؤْتُوا الزكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيمَةِ”. هذه هي الزكاة في ديانات السماء، وما كان لهذه الديانات أن تنسى هذا الجانب الخلقي من رسالتها.. جانب البر بالفقراء والإحسان إلى المساكين. لكن الزكاة التي جاء بها الإسلام كما يقول الداعية والفقيه د. يوسف القرضاوي متميزة ومبتكرة لم يسبق إليها دين سماوي، ولا تنظيم أرضي.. إنها ركن من أركان الإسلام ودعامة من دعائم الإيمان، وإيتاؤها مع إقامة الصلاة والشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عنوان على الدخول في الإسلام واستحقاق أخوة المسلمين. والزكاة في الإسلام ليست تبرعا يتفضل به غني على فقير أو يحسن به واحد إلى معدوم كما هي الحال في التبرعات والمعونات التي تجمعها الهيئات والمنظمات الخيرية في الغرب. إنها جزء مهم من نظام الإسلام الاقتصادي، ذلك النظام الفريد الذي عالج مشكلة الفقر أو مشكلة المال على وجه العموم، قبل أن تعرف الدنيا نظاما عني بعلاج هذا الجانب الخطير من حياة الإنسان. وقد حدد الإسلام الأموال التي تجب فيها الزكاة والحد الأدنى لما تجب فيه الزكاة، ومتى تجب الزكاة على المال، والمقدار الذي يجب إخراجه على كل منها والحكمة في تفاوت المقادير المطلوبة من الزكاة أنه كلما كان جهد الإنسان في المال أقل، وعمل القدرة الإلهية أظهر كانت النسبة الواجبة أكثر والعكس بالعكس. شهادات منصفة ولعظمة تشريع الزكاة في الإسلام رأينا كثيرا من الكتاب والباحثين الموضوعيين في الغرب ينوهون بها، ويشيدون بفضل الإسلام في شريعتها: يقول “ليو دوروش”: لقد وجدت في الإسلام حل المشكلتين اللتين تشغلان العالم. الأولى: قول القرآن “إنما المؤمنون إخوة” فهذا أجمل مبادئ الاشتراكية. والثانية: “فرض الزكاة على كل ذي مال”. وينقل لنا صاحب “الإسلام والنظام العالمي الحديد” عن “ماركس” غير كارل ماركس اليهودي الشيوعي قوله عن الزكاة: “وكانت هذه الضريبة فرضا دينيا يتحتم على الجميع أداؤه وفضلا عن هذه الصفة الدينية، فالزكاة نظام اجتماعي عام، ومصدر تدخر به المحمدية ما تمد به الفقراء وتعينهم، وذلك على طريقة نظامية قويمة لا استبدادية تحكمية، ولا عرضية طارئة. وهذا النظام البديع كان الإسلام أول من وضع أساسه في تاريخ البشرية عامة، فضريبة الزكاة التي كانت تجبر طبقات الملاك والتجار والأغنياء على دفعها لتصرفها الدولة على المعوزين والعاجزين من أفرادها هدمت السياج الذي كان يفصل بين جماعات الدولة الواحدة، ووحدت الأمة في دائرة اجتماعية عادلة، وبذلك برهن هذا النظام الإسلامي على أنه لا يقوم على أساس الأثرة البغيضة”. وينقل عن “ماسينيون” المستشرق الشهير: “إن لدين الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكرة المساواة، وذلك بفرض الزكاة التي يدفعها كل فرد لبيت المال، وهو يناهض الديون الربوية، والضرائب غير المباشرة التي تفرض على الحاجات الأولية الضرورية، ويقف في نفس الوقت نفسه إلى جانب الملكية الفردية ورأس المال التجاري وبذلك يحل الإسلام مرة أخرى مكانا وسطا في نظريات الرأسمالية البرجوازية ونظريات البلشفية الشيوعية”. *نقلا عن الخليج |