الوسطاء الأشد ضرراً لو كانت الديمقراطية مجرد فرصً لقوى المجتمع لخلق كيانات تتمتع بحق مناهضة السياسات الحكومية، أو حرية انتقادها، وممارسة الضغوط عليها لما وجدنا نظاماً يجرؤ على تبني خيارها ... إلا أن جميع بلدان العالم التي تحولت إلى الديمقراطية وضعت نصب أعينها بناء شراكة وطنية مع مختلف قوى المجتمع، وتفجير الطاقات الجماهيرية الكامنة، بما ينعكس إيجاباً على برامجها التنموية، ويعزز من نفوذها السلطوي. إلا أن الدول الديمقراطية لا ترجو أن تبقى أبواب الشراكة مطلقة، بغير محددات تحول دون انفلات العقد، وتكبح أي جنوح لتجاوز المسئوليات الدستورية للدولة ... وبالتالي فإنها ظلت تعول على القوانين الوضعية في تنظيم علاقتها بالقوى الوطنية المختلفة - سواء كانت تنظيمات أو أفراداً. وبيدو أننا في اليمن مازلنا نواجه إشكالية في تنظيم قواسم العمل المشترك بين المجتمع ممثلا بقواه الوطنية وبين الدولة ممثلة بأجهزتها المختلفة.. إذ نجد في أحيان كثيرة أن هناك قوى اجتماعية أو سياسية دأبت علي محاولة فرض نفسها في الأمور التي تعتبر اختصاصاً صرفاً مناط بالدولة... فعندما مثلا تطرأ مشكلة اختطاف نفاجأ بأن هناك من سبق المجتمع إلى مسرح الأحداث وفرض نفسه كطرف وسيط، يناقش ، ويتحرى ، ويقترح الحلول والمبادرات ، قاطعاً الطريق على الأجهزة الأمنية في القيام بمسئولياتها الوظيفية. وعندما ينشب خلاف بين قبيلتين أو فئتين، نجد أيضاً أن هناك من يفرض نفسه كوسيط يتحرى ويقترح، ويتعهد، ويزج الأجهزة التنفيذية للدولة في زواية ضيقة، يترتب عليها أحياناً تجاوزات قانونية، أو تعقيد للمشكلة على الصعيد المستقبلي.. وعندما تعترض البلد أي مشكلة طارئة سواء كانت أمنية، اقتصادية، سياسية نجد السلوك نفسه تتكرر، للدرجة التي أصبحت هناك حتى منظمات مدنية تحشر نفسها بصقة الوسيط في شئون وسياسات هي من صلب اختصاص الأجهزة الحكومية، أو تدخل ضمن المسئوليات السيادية للدولة، ولا تخضع إطلاقا لمسألة الشراكة المجتمعية مع الدولة... وفي الحقيقة أن هؤلاء الوسطاء بمختلف مسمياتهم - سواء كان تدخلهم بدافع الوطنية، وحس النية، أو لمآرب أخرى - فإنها تحولوا إلى عبء على الدولة، وأجهزتها بحكم أنهم يعملون على تعطيل التشريعات القانونية أولا، وإجراءات الجهات المختصة ثانياً، وثالثا ترسيخ ثقافة تقليدية «عرفية» لطالما تطلعنا جميعاً إلى تحرير المجتمع منها، والانتقال إلى الثقافة المؤسية القائمة على التخصص، وسيادة القانون والنظام... ولو تأملنا جيدا للمشكلة بمختلف الأدوار التي سبق أن قام بها «وسطاء» لحل مشكلة معينة لوجدنا أن هناك دائما تجدداً للمشكلة بعد حين، وبصورة أكثر تعقيداً مما كانت عليه في بداية أمرها، وذلك لأن كثيراً من «الوسطاء» ممن باتوا يعرفون بهذه الصفة في أوساط المجتمع جعلوا من تدخلاتهم منفذا للتكسب والاسترزاق والابتزاز، دونما أي اكتراث للمصالح الوطنية العليا، وللأمن والسلم الاجتماعي.. وقد يستغرب البعض إذا قلنا أن هناك «وسطاء» في بعض المناطق عندما يجدون الأمن مستتباً، والناس تعيش في وئام يبادرون هم من ذات أنفسهم إلى التحريض على افتعال المشاكل ليمارسوا مهنتهم المعتادة... فعلى سبيل المثال، ليس كل ما نسمع عنه من اعتصام أو إضراب، أو اعتداء على إحدى الشركات النفطية هو أمر له ما يبرره، بل أجزم القول بأن الكثير من تلك الحالات مبينة على خلفية ما يمارسه بعض «الوسطاء» من تحريض أو تأليب للنفوس من أجل معاودة الظهور على ساحة الأحداث «كمنقذ» وابتزاز تلك الشركات .. كما ليس كل ما تثيره بعض الجهات الشعبية أو المدنية من قضايا تحت عناوين حقوقية لها ما يبررها، إذ أن البعض منها يراد بها التكسب الرخيص من قبل القوى أو الكيانات المدنية التي تستغل الحريات والممارسات الديمقراطية في بلوغ ما تصبو إليه من أهداف... ومن هنا، وفي ضوء ما نتطلع إليه كأفراد وكقوى وطنية من ترسيخ لسلطة القانون، والبناء المؤسسي للدولة، يتوجب علينا نبذ هذه الممارسات، وتعزيز إدارة أجهزة الدولة في تطبيق النظام، وبالمقابل فإن الجميع مطالب أيضا بترجمة حقيقية لمفاهيم الشراكة الوطنية، وتنمية الصيغ الايجابية الفاعلة منها التي تعود على المجتمع ككل بالخير، وتعمل على ترسيخ أمنه واستقراره، وحماية مصالح مواطنيه، فمثلما الأفراد وقوى المجتمع بحاحة ماسة إلى الشراكة الوطنية مع الدولة من أجل تحقيق مصالح عامة، فإن الدولة أيضاً لا غنى لها عن هذه الشراكة التي تخفف عنها كثيراً من الأعباء، وتسهم بشكل أو بآخر في دفع مسيرة التقدم والتنمية إلى الأمام. |