|
لا بد من صنعاء وإن طال السفر لما وصلنا صنعاء سال القلم بما يلي: دخلنا صنعاء، بعد ما قرأنا الدعاء، فوجدنا صالح بن مقبول، ينشد ويقول: * نزلنـا على قيسيّــة يمنيــّة - لها نسب في الصالحين هِجانِ * فقالت وأرخت جانب الستر بيننا - لأية أرض أمْ من الرجلانِ * فقلت لها: أمـا رفيـقي فقومـه - تميـم وأما أسرتي فيمانــي * رفيقانِ شتّـى ألّف الدهر بيـننا - وقد يلتقي الشتـّى فيـأتلِفانِ فقال أهل اليمن: أنت من؟ قلت النسبة أزدية، والملّة محمّدية، قالوا: انزل غير بئيس، ولا تعيس، فإن منكم القرني أويس، قلنا كفاكم قول من جاء بالشرائع الإيمانية، حيث يقول: الإيمان يمان، والحكمة يمانية، قالوا: صلى الله عليه وسلم كلما فاح ورد، وثار وجد، وتلي حمد، وحلّ سعد، قلنا كيف الحال يا معاشر الأقيال، يا أهل الخطب الطوال، ويا أصحاب البديهة والارتجال، ويا رواد الأشعار والأزجال؟ * ألا أيها الركب اليمانون عرِّجوا - علينا فقد أضحى هوانا يمانيّا * نُسائلكم هل سال نعمان بعدنا - وأحبب إلينا بطن نعمان واديا يا أهل اليمن قد قيلت فيكم المدائح، التي سالت بها القرائح، وحفظها عنكم التأريخ، فوصل بها مجدكم المريخ، أنسيتم ما ذكره في مدحكم الهمذاني، وما سجله في مجدكم صاحب الديباج الخسرواني، أليس ينسب إليكم السيف الهندواني، وسمي باسمكم ركن البيت اليماني، وسهيل أحد النجوم الدواني، ومنكم محدث العصر الأمير الصنعاني، والعلامة الرباني الإمام الشوكاني، وتاج العلماء الكوكباني، وسيد الأولياء أبو إدريس الخولاني، ومفتي الديار العلامة العمراني، وابن الديبع الشيباني، وشيخ الشيوخ الأرياني، والقاضي أحمد الحضراني، وخطيب الخطباء البيحاني، وأستاذ الإعجاز الزنداني، وقد أثنى عليكم شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني، لما شرح حديث الإيمان يماني، ومجّدكم ابن رجب بالفقه في المعاني، وحسبكم مدح الرسول العدناني، فإنه خصّكم بعلم الحكمة في المثاني، ومنكم شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسّان، وملك العرب النعمان، وخطيب الدنيا سحبان، ومنكم سيف ذي يزن في غمدان، أما سمعت الشاعر حيث يقول: * ألا لا أحــب الســـير إلا مصــاعـــدا - ولا الـبرق إلا أن يكـون يمــانــيــا فميّز برقكم عن كل برق لأنه صدق، يأتي بالغيث والودق، وذكر امرؤ القيس التاجر اليمني في لاميته فقال: * فألقى بصـــحراء العبـيط بعـاعـه - كفعل اليـــماني ذي العيــاب المحــمّلِ منكم الأوس والخزرج، والملكان الحارث والأعرج، وعمر بن معد يكرب المقدام المدجج، ومنكم الملكة بلقيس، وأسماء بنت عميس، وأبو موسى عبد الله بن قيس، وعلى ألسنتكم تسيل القوافي، وفي ضيافتكم تشبع العوافي، بديهتكم سريعة، وذاكرتكم بديعة، وفيكم الفصاحة والصباحة، والسماحة والملاحة، ودعا لكم المعصوم فقال: اللهم بارك لنا في يمننا، وأقول: ووفق أهل صنعانا وعدننا. قال الزبيري في قصيدة الوطن، يخاطب اليمن: * مزقيني يا ريح ثم انثري - أشلاء جسمي في جو تلك المعاني * وزعيني على الجبال والغدران - بين الحقول والأغصان * وصلي جيرتي وأحباب قلبي - وقصِّي عليهموا ما دهاني * هل بكاني هزارها هل رثاني طيرها - هل شجاه ما قد شجاني * ليت للروض مقلة فلعل الدهر - يبكيه مثلما أبكاني وقد ذكر الذهبي في النبلاء، في سيرة همام بن منبه أحد العلماء، أن رجلا من قريش، صاحب سفاهة وطيش، قال لأحد أهل اليمن، وكان اليمني ثقة مؤتمنا: ما فعلت عجوزكم؟ قال: عجوزنا بلقيس أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وعجوزكم يا قرشي حمَّالة الحطب دخلت النار مع الداخلين، فغلب القرشي وأفحمه، وفي كل كرب أقحمه. والمتنبي شاعر المعاني، أثنى على السيف اليماني، فقال في نونية رائعة، وفي قصيدة ذائعة: * برغم شبيب فارق السيف كفّه - وكانا على العلات يصطحبانِ * كأن رقاب الناس قالت لكفه - رفيقك قيسيٌّ وأنت يماني وقد رفعتم رؤوس العرب، لما انتصر سيف بن ذي يزن وغلب، على أبرهة حامل الكذب، فزارتكم الوفود بما فيهم عبد المطلب، فأشاد بكم أمية بن أبي الصلت في لامية عصماء، أبهى من نجوم السماء يقول: * اجلس برفق عليك التاج مرتفعا - بقصر غمدان دار منك محلالا * تلك المكارم لا قبعان من لبن شيبا - بماء فعادا بَعْدُ أبوالا وأطعتم معاذ بن جبل، ورفعتموه في المحل الأجل، ونصرتم علي بن أبي طالب، صاحب المناقب والمواهب، فقال: ولو كنت بـوابًا على بـاب جـنـةٍ لقلت لهــمـدان ادخـلوا بســـلامٍ وقتلتم الكذاب الأسود العنسي، فصار في التأريخ المنسي، ومنكم المقدام يوم القادسية، الذي سحق الجموع الفارسية، ومنكم الشاعر وضّاح، الذي هزّ بشعره الأرواح، وأنتم أرق الأمة قلوبا، وأقلها عيوبا، وأطهرها جنوبا، وفيكم سكينة ووقار، وفقه واعتبار، ومنكم أولياء وأبرار، وكفاكم أن منكم الأنصار، مع تواضع فيكم وانكسار، ومنكم مؤلف الأزهار، وصاحب السيل الجرَّار، ومدبج الغطمطم التيّار، ومنكم المحقق الشهير، والمجتهد الكبير، أعني ابن الوزير، صاحب العواصم والقواصم والروض الباسم، خطيبكم إذا تكلم بز الخطباء، وأسرها وسحرها فإما منًّا بعد وإما فداء، وشاعركم إذا حضر غلب الشعراء، وصارت أفئدتهم من الذهول هواء، الضاد بأرضكم ميلادها، والعروبة عندكم أولادها، والحميريّة أنتم أحفادها, عندكم الجبال، والجمال، والسحر الحلال، والبلاغة في الأقوال، مع سلامة صدور، وبعد عن الكبر والغرور، وخفة أرواح، ودعابة ومزاح، وقدرة على الحفظ، وسبك اللفظ، وجودة خاطر، بكل لذيذ عاطر، مع بسمة وبشاشة، ونفوس بالحب جيّاشة، عانقت جبالكم السحاب، واحتضن شجركم الضباب، وقبل ريحانكم التراب ونادت غدرانكم: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، كأن بُنَّكم إذا مزج بالهيل، وخلط بالزنجبيل، فيض من السلسبيل، كأنه يقول للشاربين، جئتكم من سبإ بنبإ يقين، وبأرضكم الأقحوان، يضاحك الريحان، وبلبل البستان، كأنه يتكلم بلسان، في كل صباح يصيح، كأنه خطيب فصيح، من دخل روضكم ظن أنه في إيوان كسرى، يسري به النسيم فسبحان من أسرى: * أرض ثراها لؤلؤ وترابهـا - مسك وطينة أرضها من عنبرِ * يتلو بها القمري آيات الهوى - والطيـر بين مسبـح ومكبـرِ طَلْع الزهر بها كأنه جُمان، ولو سار بأرضها سليمان، لسار بترجمان، تباكرها الصبا الشمالية، لا شرقية ولا غربية، فيا أنصار الرسالة في قديم الزمان، أنتم أنصارها الآن، فعضوا على التوحيد بالنواجذ، فأنتم الأبطال الجهابذ، وانصروا سنة المختار، في تلك الديار، وانهجوا نهج السلف، فإنكم نعم الخلف، وارفعوا للملة العلم، فمن يشابه أَبَهُ فما ظلم، ففيكم علماء وعباد، ولكم نوافل وأوراد، وتديُّنكُم سريع، وفهمكم بديع، وقد قلتُ في صنعاء، من قصيدة لي تحمل الحب والوفاء. ولما تقدم الجيش البريطاني، يريد احتلال أوطاني، في بلد جيراني وإخواني، صاح الشاعر الأرياني، في الشعب اليماني، مخاطبا جيش الغزاة الذي خدعته الأماني: * صنعاءَ صغنا لكِ الأشعار والكتبا - لكِ الوفاء فلا تبدي لنا العتبــــا * على جفونكِ قتلى الحب قد صرعوا - حتى الذين بقوا قتلى ومن ذهبـــا * رواية السحر في عينيكِ أغنيــة - والحسن في وجهكِ الوضّاح قد سكبا * ليت الهوى ترك الأرواح سالمـة - فهو الذي رد بالألحاظ ما وهبـــا * إن كنتِ تبكين يا صنعاء من ولهٍ - فقد سكبنا عليكِ الغيث والسُّحبـــا * استغفري أنتِ مما تفعليـن بنــا - هذا الجمال اليماني يقتل العربـــا * يا بريطانيا رويدا رويـدا - إن بطش الإله كان شديـدا * إن بطش الإله أهلك فرعو - ن وعادا من قبلكم وثمـودا * لا تظنوا هدم المدائن يودي - عزمنا أو يلين بأسا صليـدا * إن تبيدوا من البيوت بطيارا - تكم ما غدا لدينا مشيــدا * فلنا في الجبال تلك بيوت - نحتتهـا أجدادنا لن تبيـدا * فالنـزال النـزال إن كنتموا ممن - لدى الحرب لا يخاف البنودا * لتروا من يبيت منّا ومنكم - موثقا عند خصمه مصفودا * أفترجوا إنكلترا في بلاد الله - أرضـا وموطنا وخلـودا * كذبت والإله ما كان حتى - نملأ الأرض والسماء جنودا * بعد أن تسفك الدماء على الأرض - وتروي سهولهـا والنجودا * ما خضعنا للترك مع قربهم في - الدين منا فكيف نرضى البعيدا * وهم في الأنام أشجع جيشٍ - فاسألوهم قد صادفونا أسودا * يا بني قومنا سراعا إلى الموت - فقد فاز من يمـوت شهيدا * والبسوا حلة من الكفن الغالي - وبيعوا الحيـاة بيعا مجيدا * سارعوا سارعوا إلى جنة قد - فاز من جاءها سعيدا شهيدا = نقلا عن الشرق الاوسط |