تعديل المناهج السعودية ..مساس بالسيادة أم ضرورة يمليها التطور العالمي؟ مصطفى الأنصاري، حسن المصطفى، عادل خضير من الرياض، جدة: تحتل المناهج الدينية كمفردة من مفردات الحوار الدائر في الساحة السعودية أهمية كبرى بين أفراد وقطاعات المجتمع بتنوعاتها المختلفة, بدءاً برجل الشارع العادي, ووصولاً إلى النخب المثقفة, لما تمثله هذه المناهج من رأس مالٍ رمزيٍ لكل طرف, سواء المدافعين عنها ممن يعتبرون المساس بها مساساً بالسيادة الدينية والوطنية, أو المنتقدين الذين يرون فيها محرضاً على العنف ونبذ الآخر. وبلغ السجال ذروته في الأشهر القليلة الماضية, على رغم أن عملية تطوير المناهج وتعديلها ليست وليدة الساعة, بل تعود إلى ثماني سنوات عندما صدر أمر ملكي بالموافقة على درس واقع التعليم ومستقبله, وتألفت لجنة وطنية موسعة ومتنوعة التخصصات للنهوض بمسؤولية تقويم واقع التعليم ومستقبله, مما يعني أن التغيير لم يحدث بين عشية وضحاها ولم يأتِ كخطة أميركية لتغيير التركيبة الفكرية والعقدية لأبناء المملكة, كما يقول المعارضون. وعليه, يطرح السؤال البدهي, عن سبب كل هذا الضجيج بين النخب المثقفة ورجالات العلوم الشرعية والناس العاديين, بين مطالب بالتغيير بقوة ومندد ومتمنع. "الحياة" استطلعت آراء عدد من المفكرين والمثقفين والتربويين حول طبيعة التوجه نحو تعديل المناهج. يؤكد الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية في الرياض الدكتور عبد الرحمن الزنيدي ان تعديلات كثيرة وتجديدات متنوعة أدخلت في المناهج الشرعية, وفي وزارة التربية والتعليم وكالة خاصة للتطوير التربوي كما أنشأت الوزارة لجنة "الأسرة الوطنية" التي تضم نخبة من المختصين في العلوم الشرعية والتربويين ومدرسي المناهج الشرعية والعاملين في "وكالة التطوير التربوي", مهمتها متابعة المناهج لتطويرها في ضوء ما يرد للوزارة من ملاحظات. واعتبر الزنيدي ان "المشكلة أجّجت نارها جهات خارجية على رأسها المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة, والتي استغلت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) لشن حرب على المملكة والتهجم على مناهجها الدينية ووصمها بزرع الكراهية والتطرف والإرهاب". ويرى الدكتور زين العابدين الركابي انه لا ينبغي نفي المطالب الخارجية بالتغيير, معتبراً أنها "رغبات لا تمكن مصادرتها لأن الناس أحرار في ما يعبرون", مشدداً في الوقت نفسه على عدم إمكان "الاستجابة لكل رغبة, لأن العد التنازلي لهذه الرغبات لن ينتهي إلا عند الصفر الأيديولوجي أو العقدي". وقوبلت المطالبات الأميركية بالتغيير بمعارضة شديدة في الداخل, خصوصاً في أوساط التيار السلفي الرافض لأي تعديل يطال المناهج الدينية ويرى في ذلك بداية انهيار, ومحاولة لتغيير البنية الدينية للمجتمع وإلغاء أسس شرعية بحجة "تجفيف منابع العنف". ويعتبر هؤلاء أن الدعوة إلى تعديل المناهج تهدف أساساً إلى اجتثاث فكرة الجهاد وحذف بنية الولاء والبراء من عقول الناشئة. وبرز هذا الموقف بوضوح في البيان الذي أصدره 156 من رجال الدين وأساتذة الجامعات من التيار السلفي اعتبروا فيه أن ما حدث في مناهج العلوم الشرعية من حذفٍ (مثل حذف موضوع الولاء والبراء وبعض أنواع الطواغيت وبعض نواقض الإسلام) و"تحريف" بعض التعريفات العقدية و"انحراف خطير" مثل التمهيد للاختلاط بتوحيد بعض المقررات بين الذكور والإناث التي تحمل صور الجنسين, وتقرير مناهج الطالبات على الطلاب والعكس... "لم يأت استجابةً لدواعي التطوير والارتقاء بالمناهج وإنما هو استجابة مباشرة لمطالب العدو التي قرأناها وسمعنا عنها منذ سنة 1411هـ. ومن ذلك توصية مجلس الأمن القومي الأميركي التي نصّت على فرض تغيير مناهج التعليم في الدول الإسلامية, ومنع وصول المتدينين إلى المناصب العليا في وزارات التربية والتعليم, وغيرها من الوزارات ذات التأثير في توجيه الأمة". ولا يعير المعارضون الاتهامات التي توجه اليهم بالجمود أي اهتمام. ويقول عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان: "لا نلتمس رضا الناس بسخط الله", موضحاً أن "تغيير مقررات التوحيد والفقه والحديث والتفسير إلى مقررات لا تبين العقيدة الصحيحة والعقائد المضادة لها, هو مما يسخط الله, ولو رضي عنه كثير من الناس". لكن منتقدي الفوزان يعتبرون أن ما يؤلفه من مناهج دليل كافٍ على ضرورة التغيير لما يسببه من اثارة طائفية. ويرى هؤلاء أن عملية التصحيح التي أقدمت عليها الدولة عندما غيرت مقرر مادة "التوحيد" الذي ألّفه الفوزان أتت استجابة لضرورات داخلية ومصلحة وطنية محضة, ويعتبرون ذلك دليلاً على أن عملية التغيير ليست فرضاً أميركياً كما يحلو للبعض أن يروج, خصوصاً أنها أتت قبل 13 عاماً من الآن. ويقول الدكتور عبد العزيز الرويس, المدير العام لإدارة المناهج في وزارة التربية والتعليم ان تغيير المناهج هدفه "تقديم مواد تعليمية تتضمن تكاملاً بين المعارف والمهارات توظف فيها التقنية وتركز على المفاهيم المفتاحية من دون إغراق في التفصيلات". وهذه "أهداف كبرى يسعى أي نظام تعليمي حديث لتحقيقها للنهوض بمستوى تلاميذه, لأن هناك حاجة ملحة لتطوير التعليم في الدول النامية لملاحقة الجديد في المجالات العلمية والاستفادة من الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وتحقيق ربط أكبر بين التعليم ومتطلبات التنمية ومواجهة التحديات المستقبلية", بحسب المدير العام لمكتب التربية العربي لدول الخليج الدكتور سعيد بن محمد المليص الذي يرى أن "الدعوة لتطوير المناهج عالمية ولا تقتصر على عالمنا العربي". ولكن ما هو سبب التركيز في الإعلام الأميركي على تغيير المناهج في البلدان الاسلامية خصوصاً الدينية منها إذا كانت هذه الدعوة عالمية فعلاً؟ يجيب المليص "ان من التداعيات السلبية لأحداث 11 أيلول وضع النظم التربوية في بلادنا في قفص الاتهام, وفصل منظومة التطوير التربوي وتغيير المناهج عن سياقها التقني وأهدافها التنموية, وربطها بقضايا الأمن الدولي, واعتبار السياسات التعليمية عنصراً من عناصر السياسات الأمنية. وهكذا أخذت الضغوط تتزايد والتقارير تنشر عن دور المناهج في توليد الإرهاب وتغذيته, وانطلقت الدعوات لتغيير المناهج علماً انها بريئة من كل هذا, إلا أنها تحتاج إلى التغيير والتطوير لأسباب تربوية ذاتية لا علاقة لها بالخارج". لكن عضو مجلس الشورى السعودي الدكتور عبد العزيز الثنيان يرى أن "الحديث عن المناهج يراد به النيل من فكر الأمة الأصيل الذي لا يستطيع أحد أن يدجنه والمستمد من كتاب الله وسنة رسوله ومنهج السلف الصالح", معتبراً أن التطاول الخارجي وصل من الجرأة أن "تخرج علينا الصحافية الأميركية جودي ميلر وتملي على السعودية ما يجب عليها أن تفعل إذا كانت تريد العيش في العالم الجديد, فتطلب تعديل المناهج ونشر التسامح مع اليهود والمسيحيين, وتعليم مبادئ الموسيقى وآراء فرويد". لكن الثنيان, على رغم دفاعه المتحمس عن المناهج الدينية, لا يدعي بأنها خالية من كل العيوب والنواقص, معتبرا أنها "في حاجة إلى تعديل وتطوير دائمين, والإمام الشافعي يقول: إن الفتوى تتغير بالمكان والزمان, فما كان في مناهجنا قبل مدة قد يكون كثير منه في حاجة إلى التعديل في الوقت الراهن, خصوصاً في الأمور الاجتهادية غير القطعية. ومن هنا فإن تطوير المناهج لتتواكب مع واقع الحال هو مطلب". ويعتبر كثير من المطالبين بالتغيير موقف الثنيان متناقضاً لأنه "مشوب بالخوف والتوجس من الخارج, وتحديدا الأميركي, مما يعطل البدء الحقيقي في الإصلاح الذي يتبناه الثنيان ولو في شكل موارب". وفي هذا الصدد, يدعو الأستاذ في معهد الإدارة العامة في الدمام منصور القطري الى أن يتم التعاطي مع مسألة تغيير المناهج "بعيدا من عقدة الوصاية أو العقلية التآمرية. بل يجب أن نتعاطى مع الدعوة إلى التغيير على أنها فرصة حقيقية للمفكر العربي/المسلم للتأمل في نقاط الضعف, كما أنها هدية ثمينة ومجانية يقدمها الطرف الآخر لنا", مضيفا أن "التوقيت في الدعوة إلى التغيير يجب ألا يشكل الهاجس الأقوى في الدفاع عن قضية تتعلق بمستقبل الوطن. ولا يمنعنا شنآن قوم على ألا نعدل. ولذا يجب أن نعدل في التمييز بين دعوتهم التي قد يحق للبعض أن يشكك فيها, وبين أن تكون الدعوة الى التغيير فرصة حقيقية لنبش المناهج التي كانت في شكل مباشر أو غير مباشر حاضنة للعنف والتعصب وإقصاء الآخر". نظرة القطري هذه يتوافق معه فيها الكاتب والناشط السياسي محمد سعيد طيب الذي يرى أن "سنة الحياة قائمة على التغيير, ويجب ألا تؤخذ كلمة التغيير بحساسية مفرطة تقود إلى مجابهة الإصلاحات المنشودة, وذلك من أجل التواصل مع العالم والدخول في العصر". وهذه الحساسية التي يدعو كل من القطري وطيب الى التخلي عنها, كانت محل جدل حقيقي في الحوار الوطني الأخير. اذ طالبت مجموعة بأن يشمل البيان الختامي عبارة "تغيير المناهج", فيما رفض فريق آخر هذه الكلمة وطالب بعدم إدراجها مقترحا عبارات بديلة أقل شدة. والاختلاف على المفردة قد يكون طبيعيا وبسيطا لو توقف عند هذه الحدود, ولكنه تعداها الى خلافات أكبر بين معارضي تغيير المناهج ومؤيديه, خصوصا في أوساط المتشددين من التيارين السلفي والليبرالي. اذ اتهم المتشددون من السلفيين المطالبين بالتغيير بـ"التبعية للغرب والتأثر بالفكر الأميركي", واصفين إياهم بـ"المخدوعين", كما جاء في البيان الذي وقعته 156 شخصية سلفية سعودية, وجاء فيه: "وتبعهم في ذلك المخدوعون من المتأولين أو المتبعين لأهوائهم. وقد جاهرت الحكومة الصهيونية الصليبية في أميركا على لسان مجامعها ووزرائها وإعلامها بالمطالبة بتغيير هذه العقيدة, وإبطال الجهاد بل حظر الحديث عنه, وإلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلاد الحرمين ومأرِز الإيمان. واستجاب لهم أولياؤهم فطالبوا بذلك كتابةً ومقالاً ورسماً وتمثيلاً في كل وسائل الإعلام المتاحة لهم حتى انخدع بهم بعض الجهلة من المسلمين, فاتهموا المناهج الدراسية بل تطاولوا على الحلقات القرآنية". وهو الاتهام الذي يرفضه العالم الشيعي الشيخ حسن الصفار, معتبرا أنه "ليس صحيحا ما تثيره بعض الجهات من الطعن في نيات ومقاصد كل المطالبين بإصلاح مقررات التربية الدينية وتعديلها, واتهامهم بأنهم أقل حرصا على الدين أو أنهم يستجيبون لضغوط الخارج ويتفاعلون معها", مضيفا أن "الاتهام سلاح العاجز عن تقديم الرأي الأفضل, وهو وسيلة لإثارة المشاعر والعواطف, وقد يكون محاولة للحفاظ على المكاسب وبسط النفوذ, تحت شعارات الدفاع عن العقيدة والحرص على الدين", مضيفا أننا "كمجتمع مسلم نحرص على تعليم أبنائنا مبادئ الإسلام وأحكامه, بخاصة أننا نعيش تحدي الحفاظ على هويتنا الحضارية وقيمنا الدينية في وجه هذا الطوفان الإعلامي والثقافي المتعدد الاتجاهات". ويرى الكاتب والمفكر السعودي الدكتور زين العابدين الركابي ان "هذا السجال الصاخب يفتقد الى المنهجية", معتبرا أن أسوأ ما في هذا السجال كونه "غير موضوعي وغير عقلاني. لأن تناول قضايا علمية وتربوية بهذا النزق أو الاضطراب أو الخفة, لن يؤدي إلى نتيجة صحيحة نافعة, لأن النتائج السديدة المفيدة لا يُتوصل إليها بالضجيج الصاخب الهائج", الذي يرجعه الركابي إلى سببين رئيسين: "الأول هو الجهالة. فكثير من الذين يخوضون في هذه القضية لا علم لهم بالمناهج. بمعنى أنهم لم يدرسوها دراسة نقدية تقويمية وفق المعايير العلمية المعتمدة في المسح والاستقراء والنقد والتقويم واستنباط البدائل. أما السبب الثاني فهو الأحكام الجاهزة أو الفكر المعلب, الذي يضغط كل قضية عامة ويختصرها في ما يرى وفي ما يهوى فحسب. وهذان السببان أديا إلى إنتاج نوعين من الذهنيات الحادة التي تعاملت مع الحدث كل من مكانه". وهاتان الذهنيتان, كما يصفهما الركابي, هما: "أولاً ذهنية الخوف الشديد من التعرض للمناهج الدينية بالدراسة والتقويم ابتغاء البحث عما هو أرقى وأفضل, وهو خوف مبني على أن مناهج التعليم الراهنة بلغت الكمال, وأي تعرض لها بالمراجعة يعني انتقاصها للكمال, وهذا وهم. وثانيا, ذهنية تطرح القضية طرحاً يوحي بأن المراد هو هدم هذه المناهج واجتثاثها من الجذور بحسبانها أصل البلاء, ولا سيما بلاء العنف والإرهاب, وهذا غلو في التغيير يساوي الغلو في المحافظة أو الجمود". وللخروج من هذه الثنائية يعتبر الركابي أن "المنهج الصحيح هو التسليم العقلي والمصلحي بمبدأ التقويم والتطوير والإصلاح, تسليماً مقترناً بمنهجية النظر في ما ينبغي تقويمه وتطويره وما ينبغي استبقاؤه وتثبيته من المعلومات والمفاهيم". وتتقاطع وجهة نظر الدكتور الزنيدي مع الدكتور الركابي, اذ يرى أن هذا الضجيج "أدى إلى خلق حال من التصعيد والتصعيد المضاد, بحيث تناهت إلى طرفين متباعدين لدى كل من التيارين المؤيد والمعارض لعملية تغيير المناهج, وعليه توالت التهم في شكل عشوائي, فالبعض اتهم المناهج الدينية بكل السوءات غلوا وتطرفا وإرهابا وانقطاعا عن العصر وتجميدا للعقل مما يقضي بالتغيير الجذري لها إن لم يكن الاستغناء عنها, في مقابل إضفاء نوع من القداسة على المناهج وتأكيد تميزها الساحق على مناهج الآخرين وعظمتها مما يقتضي عدم المساس بها", معتبرا أن "ما يحتاجه الوطن في هذه المرحلة هو تخفيف هذا الانفعال التقابلي وترشيده بعقلانية النظر والمواقف, والشروع عن التذرع بهذه القضية لتصفية الحسابات بين تيارات نخبوية محدودة, على حساب ملايين من أبناء الوطن". ودعا الزنيدي في الوقت نفسه منتقدي المناهج الى "الكف عن التهويش العام والمطلقات", مطالبا إياهم بـ"تقديم دراسات نقدية لما يرون ضرورة تغييره, سواء بنشرها في الصحف أو تزويد الوزارة المعنية بها", من دون أن يغفل دعوة المدافعين عن المناهج إلى ضرورة "تجاوز العمومية المتمثلة بالتحذير من المساس بالمناهج وما يستتبعه ذلك من ويلات", ولذا ينبغي "تحديد ما يمكن عمله في المناهج من تطوير في الجوانب العلمية والفنية وما لا يجوز المساس به". وربما كانت وجهة النظر الممانعة للتغيير واضحة ومختصرة في جملة واحدة: "لا للمس بالمناهج الدينية". ولكن ماذا عن دعاة التغيير وعلى ماذا يستندون وبماذا يحتجون وما هي دوافعهم لتغيير المناهج الدينية؟ كثافة الجرعات الفقهية التي لا يستوعبها الطلاب, على سبيل المثال, في المناهج الدينية, هي إحدى السلبيات التي يأخذها منتقدو المناهج عليها, وهذا ما ذهب إليه الكاتب الصحافي محمد صادق ذياب حين كتب: "لنأخذ موضوع زكاة الإبل المقرر على طلابنا في المدارس كمجرد مثال فقط. فتدريس هذا الموضوع لطلاب الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية كان له أهمية حضوره المنهجي في سياق زمن كانت الإبل تشكل فيه مقومات حياة شريحة كبيرة من المجتمع, لكن المتغيرات التي طرأت أخيراً على أنماط حياتنا تستوجب تحويل هذا الموضوع من المقررات الدراسية العامة في المدارس إلى الدراسات التخصصية في الكليات والمعاهد العليا, واستبدال ذلك بموضوعات دينية أكثر ملامسة لواقع حياة الطلاب الذين لا تعرف شرائح كثيرة منهم شيئا عن الإبل ولا تصنيفاتها كالجذعة وبنت لبون وابن مخاض والحقة". وهذا الرأي يمثل وجهة نظر فئة كبيرة ترى أن ترحيل بعض المواد الدينية إلى مراحل متقدمة أمر ضروري للاستفادة من الوقت الذي يستقطع للمواد الدينية على حساب المواد العلمية التطبيقية. ويسجل الصفار على المناهج الدينية ملاحظتين لا يراهما متوافرتين في المناهج, "أولاهما أخذ المتغيرات الحياتية والتطور الاجتماعي بالاعتبار في اختيار المادة الدينية وأسلوب عرضها. فالجيل الحاضر من أبنائنا يعيش عالما يختلف عن العصر الذي عاش فيه الشيخ ابن تيمية أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب, ولو كانا معاصرين لركزت دعوتهما على قضايا تتناسب ومشكلات هذا العصر. وثانيتهما مراعاة وحدة الأمة الإسلامية والوحدة الوطنية". وربما بات تعديل المناهج الآن أمرا واقعا, اذ شرعت فيه الدولة تدريجا ممثلة بوزارة التربية والتعليم, وهو ما نصت عليه إحدى فقرات البيان الختامي للقاء الثاني للحوار الوطني الذي عُقد في مكة المكرمة, اذ نصت الفقرة التاسعة على ضرورة "تطوير مناهج التعليم في مختلف التخصصات على أيدي المتخصصين, بما يضمن إشاعة روح التسامح والوسطية وتنمية المهارات المعرفية للإسهام في تحقيق التنمية الشاملة, مع التأكيد على ضرورة استمرار المراجعة الدورية لها". كما أن الإدارة العامة للمناهج وضعت مشروعا عمليا لتطوير المناهج وقسمته الى ثلاث مراحل, اختصت الأولى بدرس الواقع وتحديد الأسس والمعايير الخاصة بالتطوير, وانتهت هذه المرحلة. واختصت المرحلة الثانية بإعداد وثائق المنهج لجميع المواد الدراسية, وهذه المرحلة انتهت أيضاً. وبقيت المرحلة الثالثة من المشروع, وهي المرحلة الحالية التي يجرى فيها العمل, وتطبق من خلال عدد من المناطق التعليمية في المملكة بإشراف الوزارة, من خلال مجلس التطوير التربوي ولجانه المختصة, والإدارة العامة للمناهج, كما أوضح لـ"الحياة" المدير العام لإدارة المناهج بالنيابة الدكتور عبدالعزيز الرويس. وللمنتقدين من جهتهم اقتراحاتهم لتجاوز السلبيات, فالشيخ عبدالعزيز القاسم المحامي والقاضي سابقاً يرى "ضرورة إعادة النظر في المقررات الدراسية وتنقيتها من آثار المعارك الكلامية والسياسية في تاريخ الجدل العقدي, لتتركز على تقرير مقتضى النصوص برصانة ورفق, وتجنيب الطالب المعارك الكلامية التي يمكن أن تترك للمختصين. وتنقية المقررات من النزعات التكفيرية والتركيز على ما دلت عليه النصوص واستقر عليه كبار فقهاء الأمة بغية تعميق مفاهيم الحقوق الشرعية للإنسان وتقرير قواعد التعامل مع المخالف كالعدل والرحمة والمجادلة بالتي هي أحسن, وبيان أسباب رفع الملام عن أئمة المسلمين وعلمائهم, مما سيؤدي إلى إعادة التوازن إلى مضمون المقررات الدينية لتتناسب مع حاجات المتلقي بتقرير مقتضى النصوص وتجنب المجادلة وتجنيب الناشئة مزالقها". وهي مفاهيم كلية عامة تمثل مقاصد الشريعة الإسلامية, ومن شأنها أن تخلق روحا إسلامية منفتحة في حال تطبيقها. أما الكاتب جهاد الخنيزي فيرى "اننا إذا أردنا تعليما تربويا لا بد لنا أن نعترف بحق الآخرين كما نعترف بحقنا, إلا إذا جعلنا معيار القوة والسيطرة وفرض الآراء أساس المفاضلة, وهو منطق غريب على روح الدين الذي يدعو للعدالة وبسط الحقوق بين المسلمين على حد سواء. وينبغي التركيز على المشترك من دون زج الطلاب في خلافات مذهبية ليسوا مسؤولين عنها ولم يبتدعوها وغير ملزمين بها". ويرى عبد الرحمن اللاحم, انطلاقا من عمله كرجل قانوني وحقوقي, أنه "بما أن الحكومة اتجهت الى مراجعة شاملة للمناهج الدراسية واتخذت في هذا الصدد قرارات جريئة فعدلت من المناهج التعليمية كل ما من شأنه التشجيع على التطرف أو بث العداء للآخر, وذلك في سياق المراجعة الثقافية والفكرية الشاملة وتشجيعاً لمبدأ التسامح واحترام الأديان, ولتكون في الوقت نفسه ملائمة لمتطلبات التنمية وسوق العمل, وحتى تخرج مواطنين يحترمون أصالتهم ويكونون منفتحين ومؤمنين بمبدأ الحوار الذي لا يلغي الرأي الآخر, ويعزز في الوقت ذاته ارتباطهم بالقيم الإسلامية, لذا وفي ظل هذه الأجواء فإن من المناسب الآن أن تواصل الحكومة مسيرة التصحيح التربوي وتعمل على إدخال مواد جديدة متعلقة بقيم حضارية وإنسانية كقيم حقوق الإنسان التي أصبحت قيماً عالمية غير مرتبطة بمنطقة جغرافية معينة ولا حقبة تاريخية محددة, بل هي منتج إنساني تراكمي لا غنى عنها لأي دولة تجد لها مكاناً في هذا الكوكب". ولا تقتصر مقترحات التعديل والتطوير على جانب محدد, بل تتنوع بتنوع الداعين اليها. فكاتب وأستاذ لعلم الاقتصاد كالدكتور عمر باقعر ينادي بتخلي الدولة عن دورها التربوي لصالح الأسر, معتبرا أن الحكومات "ليس لها مكان أو دور في سوق خدمات التعليم إلا في إطار البناء المادي, ووضع المعايير بشكل تحديد الكم ونوع التحصيل المعرفي والمهاري, وتقديم يد العون المادي المباشر لمن لا تمكنهم أوضاعهم المادية من تعليم وتدريب أبنائهم, ومن هنا فإن قناعتي الشخصية هي أنه ينبغي أن يكون للآباء والأمهات الصوت الأعلى واليد الطولى في تحديد نوع المناهج الدراسية لأبنائهم وبناتهم, ومكوناتها". ولا تقتصر هذه "النظرة التصحيحية" على مناهج التعليم الديني بل تمتد الى مختلف الفروع والعلوم كما يطرح باقعر, وهو بذلك يتقاطع في فكرته الشمولية مع الدكتور الركابي الذي يرى ضرورة إصلاح التعليم كله وليس المناهج الدينية فقط. ذلك أن "النهضة التعليمية الجديدة يتعين أن تكون شاملة. كما أن مناهج التعليم الدينية يمكن أن تكون أفضل وأجمل بمفاهيمها السوية ومقاصدها النازعة إلى تكوين أجيال تحب ربها ونبيها حبا أحق وأعمق, وتأتلف مع مجتمعها ودولتها ائتلافا أكثر قوة وودا, وتؤدي واجباتها بشهية متجددة وأمانة مضاعفة, وتنظر إلى العالم والعصر نظرة استواء وتوازن وتفاعل وتمكن", مشددا على ضرورة أن "ينبني ذلك كله على المنهجية العلمية الهادئة المجردة من الضجيج والصخب والهيجان والغليان |