خواطر في ذكرى تأسيس الموتمر الشعبي العام ينضم المرء أحياناً الى حزب سياسي أو ينتمي إلى أيديولوجيا معينة لأسباب قد تكون نتجت عن قناعة بكاريزما القيادة لهذه الأحزاب أو المتبنين للأيديولوجيا؛ وفي أحيانٍ كثيرة يكون اختياره نتيجة الانصياع للعاطفة والتأثير الإعلامي، وهؤلاء للأسف الشديد هم من يكونون وقود الصراعات وضحاياها.. لذلك حرصتُ منذ بداية تجربتي السياسية على ألاّ أترك للعاطفة مجالاً في قراراتي، ولذلك عندما رأيتُ انهيار أول حركة سياسية أنتمي إليها تحترق بالصراع على السلطة قررت التخلي عن أي نشاط سياسي لأن ما كان يهمني هو التمسك بقناعاتي وثوابتي المتأثرة بقِيَم الإسلام والوطنية وحرية الفكر والمواطنة المتساوية، بمعنى التطلع لدولة تمثل قِيَم العدالة والولاء لله ثم الوطن.. ولهذا هاجرتُ من عدن في غُربة لعشر سنوات انتهت بدعوة لي للعودة إلى جامعة صنعاء لتأسيس كلية الطب، تاركاً عملي كمدرس في جامعة دالهاوسي في كندا.. شاءت الأقدار أنه بعد ستة أشهر من وصولي إلى صنعاء بدعوة من وزير الصحة الدكتور عبدالملك الدغيش -رحمه الله- لكي أتولى التحضير لإنشاء كلية الطب في جامعة صنعاء أنْ فُوجئت بإعلان اسمي عضوًا في لجنة الحوار الوطني التي شكَّلها الرئيس علي عبدالله صالح رحمه الله.. استغربتُ الأمر وظننتُ أنهم كانوا يقصدون ابن عمي أبوبكر صالح -رحمه الله- المعروف في صنعاء، وليس أنا الوافد الغريب إليها والذي لا يعرفه أحد، ولكن أكد لي أنني أنا المقصود.. وضعني القرار أمام خيار صعب بين القبول والرفض لأنني عندما غادرتُ عدن عام 1971م، قررتُ التخلي عن أي نشاط سياسي بعد خيبة أملي مما آلت اليه الأمور بعد استقلال الجنوب اليمني وبدء الصراع بين رفاق السلاح، وكنت من المنتمين للتيار القومي وفِكْر عبدالناصر.. ولا أعرف حتى اليوم من الذي قدم اسمي إلى الرئيس صالح، ولكني اعتبرته قدراً سماوياً عليَّ القبول به.. وجدتُ نفسي بعدها مشاركاً في لجنة الحوار الوطني مع نخبة من رجال اليمن يمثلون الطيف السياسي ومشائخ القبائل ورجال الدين والشخصيات الاجتماعية والأكاديميين والمثقفين.. شعرتُ في البداية بالرهبة منهم خاصة عندما عرفت تأريخ بعضهم وتجاربهم وانتماءاتهم الأيديولوجية.. ومرت أسابيع وأنا أحضر الاجتماعات كمجرد مراقب أسمع وأقيّم وأتعرف على المواقف حتى شعرت بالأمان في التدخل وإبداء الرأي حول القضايا التي يتم بحثها.. أذكر هنا مداعبة من الأستاذ أحمد جابر عفيف -رحمه الله- عندما قال لي أحسنت لأنك بعقلية الطبيب لم تتداخل إلا بعد أن شخَّصت داء من حولك.. كانت لجنة الحوار نموذجاً يُحتذى لأنها جسدت بأعضائها روح المسؤولية عندهم ولذاك الميثاق الوطني.. لم يأتِ الحوار لإنهاء حقبة الصراع السياسي وإنما أيضاً لرسم وفاق حول مبادئ وقِيَم بناء الدولة ودستورها ومقراً بإجماع كامل الطيف السياسي والديني والمدني بإرادة حرة، وبما يحقق السلام الاجتماعي وشراكة الجميع في السلطة رغم ما شاب ذلك من القصور، كما أُخضع الميثاق لاستفتاء شعبي جعل منه ميثاقاً ملزماً لكل اليمنيين. انعكست نتائج هذا الإنجاز في الأمن والاستقرار وإنهاء العنف الذي تحقق بعدها؛ وتحقيق التنمية ودرجة من الشراكة في الحكم بتعيين وزراء من خارج تنظيم المؤتمر الشعبي (الذي كان يمتلك السلطة) في الحكومة وفي مناصب الدولة العليا ومؤسساتها.. كما حققت تلك الفترة درجة من الثقة بين الخصوم واستيعابهم لاختلاف الروئ بينهم؛ وكنت أرجو أن يستمر الجهد من خلال الحوار إلى تجذير التجربة وبناء الثقة وتوسيع الشراكة والممارسة الديمقراطية وأن يصبح المؤتمر محفزاً للأحزاب التي استظلت بفكر الميثاق مع المكونات السياسية وكل الحريصين على بناء دولة مدنية للجميع لجمعها على التنافس معًا لتطوير الدولة لحماية حقوق المواطنة ومنع سياسات الإقصاء والتمييز وحماية الحريات والحقوق، إلا أن قيام الوحدة المباركة جاء ليغيّر هذا الجانب من الإنجاز، بخلق واقع جديد نتيجة التعددية السياسية. رغم أن تحقيق حلم الوحدة الذي كان مطلب كل يمني وكل الحريصين على بناء الدولة اليمنية الحديثة، إلا أن الصراع على السلطة عصف بها إضافةً إلى الأحقاد وثأرات متعددة الأسباب والتي كان المؤتمر هدفها الرئيس تحت شعار إسقاط النظام فأدى إلى المأساة التي يدفع ثمنها المواطن اليمني اليوم مع من انصاع خلف الفوضى بعواطفه.. ولكن بالرغم مما تعرض له المؤتمر من أزمات وإقصاء وهيمنة على قراره وتهميش لدوره فإن مكونات المؤتمر متماسكة وستبقى وفية لفكرها الميثاقي الوسطي النابع من الأرض اليمنية ومبادئ الثورة اليمنية وتوافق طيفه السياسي والمجتمعي وحريصة على تجاوز الظلم والثارات لأنها تدرك أن الأحقاد لا تبني أوطاناً، وأن الظلم والقهر لن يدوم. لذلك على قيادات الموتمر ومكوناته في الذكرى الثانية والأربعين لتأسيس المؤتمر الشعبي العام أن تعتز بميثاقها الوطني الذي وحَّد ولم يفرّق، وحقن الدم اليمني وحقق تنمية وبُنىً تحتية وجامعات واكتشاف ثروات وغيرها.. لاشك أن أخطاء قد ارتُكبت؛ وبما أن كل الذين اتهموا المؤتمر بالأخطاء والفساد قد تولوا السلطة من بعده فهل حققوا شيئاً مما حققه المؤتمر.. وهل قضوا على الفساد؟. أطرح هذا السؤال للتذكير بالواقع وبهدف الاستفادة من الأخطاء وتصحيح المسار لأن التغيير الذي لا يحقق إنجازاً ولا يستفيد من أخطاء من سبقه مصيره الانحدار إلى وضع أسوأ مما سبقه. لذلك علينا في المؤتمر ألا ننجر إلى مربع المهاترات والعِداء والإساءة لأن هذا يخدم من يريد تدمير اليمن وتمزيق وحدته.. مهمتنا في المؤتمر هي التمسك بالثوابت الوطنية وفي مقدمتها الوحدة والسيادة وبالدستور والقانون وبعدها التماسك في مواجهة محاولات المساس بالمؤتمر كياناً وكوادر من خلال محاولات تقسيمه. كان المؤتمر حريصاً دوماً على تجنب الحرب، وعندما فُرضت عليه سعى قدر استطاعته لمنعها أو وقفها بعد بدئها؛ واليوم نحن أكثر حاجةً إلى وقف كافة أشكال الصراع التي يدفع ثمنها كل يمني وتحرق الأخضر واليابس، وعلى قادة الصراع اليوم إنهاؤها وسيكون المؤتمر وكلُّ حريص على اليمن سندا لهم. |