المعارضة وثقافة الحوار السياسي يصف الإنجليزى (ستيغن لابروس) السياسة بأنها (منطق تعيين الأفكار)، ويرى أنها (تفقد قيمة أفكارها متى ما افتقرت للجدل، وتصنعت وجودها بمحض افتراض فلسفي لم يتكلف عناء اكتشاف الآخر، فليس من سياسي يصنع منطقا بمفرده). ومن واقع ذلك القول لا تبدو السياسة أكثر من خلاصة جدل فكري، وحوار ثقافي تتعين بمقتضاه تصورات الحراك الداخلي والخارجي لهياكل الدولة.. إلا أن حدوث الجدل ضمن أفق الفلسفة الواحدة ظل ظرفاً عقيماً عن الإيحاء الإبداعي بعناصر فكرية جديدة، وأدوات عمل دقيقة يتبلور بهما المشروع الوطني للدولة. وهو الأمر الذي يستوجب توافق الفلسفات المتعددة في جدلية صناعة الرؤى السياسية. إن منطق تعيين الأفكار الذي يتحدث عنه "لابروس"يصطدم بإفرازات التحولات الناشئة للديمقراطية في بعض البلدان، إذ أن الانطواء على مسميات الحالة السياسية الجديدة – بين حاكم ومعارض- وتعليق مسئوليات الصناعة الفكرية السياسية بالحاكم وحده، لا بد أن يذيب البعد المنطقي في ممارسات غير مكتملة الوعي، أو نقيضة لحاجة الآخر، وأحياناً تتقاطع مع مفاصل العملية الديمقارطية – رغم أنها قد تصيب مبتغاها في أحيان أخرى. ولعل هذه الإشكالية تتفاقم بتعقيداتها إذا ما تمسك أحد الطرفين بالبقاء خارج دائرة الجدل والحوار الفكري، إذ أنه حينئذ يضع نفسه ندا لمفاهيم الديمقراطية، ويعيق نماءها، بنفس القدر الذي يعيق به الحراك التنموي للدولة من خلال ما يمليه من شروط لفرض "أنانيته" الحزبية على مسارات العمل السياسي والتنموية، انطلاقاً من تكهنات، وظنون، وقصر نظر شديد لآفاق العمل السياسي التعددي.. وهو بذلك يتحول إلى عبء وطني بدلاً من أن يكون عنصراً تفاعلياً مع الإرادة الوطنية. إن تذبذب رغبة بعض أحزاب المعارضة في تلبية دعوة الحزب الحاكم للحوار تنم عن جهل معرفي بمدلول العمل السياسي، وهي- طبقاً لتعريف المفكر لابروس- تفقد قيمتها الفكرية، وتحاول أن تصطنع وجودا لذاتها الجوفاء دونما تكلف مشقة اكتشاف الآخر، والتأمل بما يحمله لها، والتيقن من جدواه أو عدمه، وبحث إمكانية موائمة الرؤى السياسية وتوفيقها ضمن صياغات محددة.. الخ. يبدو جلياً أن طبيعة الإشكالية ناشئة عن اتجاهين: الأول- هو ضعف ثقة الأحزاب المعارضة للحوار بقدراتها السياسية، ووسائلها الديمقراطية، الأمر الذي تجد بدائله في قوالب الامتيازات المطبوخة بمواصفاتها، أو تحين فرص ابتزاز الآخر، من غير اكتراث بمنطق التوافق مع أبجديات العمل السياسي الوطني. أما الاتجاه الآخر، فهو الحاجة الملحة لغرس ثقافة الحوار السياسي في الأرضية التي تقف عليها تلك القوى، من خلال إقناعها بالمدلول الأساسي للديمقراطية، والمقومات التي تستمد منها منطق القبول لدى شعوب العالم. إلا أن مثل هذا الإقناع يبدو صعبا في ظل انغلاق البعض على فلسفته، وتصوراته الخاصة، وتقوقعه داخل حلقات ضيقة تتهيب النفوذ من محيطها إلى الآخر، وإقامة الحجة عليه. لا شك أن السياسة (منطق تعيين الأفكار)- كما وصفها لابروس – ولأجل بلوغ تلك الغاية، يستدعي الأمر أولاً طرح جميع الأفكار التي تحملها القوى الوطنية على طاولة الحوار، وإبداء الرأي، ليتسنى في النهاية انتقاء الأكثر منطقا للقبول منها، وبلورة رؤى متوازنة للمشروع السياسي الوطني. يؤكد المفكر الإنجليزي (ستيفن لابوس) أن: (قوة فعل السياسة قرينة لقوة الفكر وتعدد موارده، وعمق جدلياته..) ويشير في كتابه الشهير (ميكانزم السياسة) إلى :(أن الجدل ثقافة والجدل في السياسة من أصعب الثقافات الإنسانية لأنها تتولى تعيين المنطق الفكري للدولة، التي هي بالوجه الآخر مصير ملايين الناس المنضوية تحت حكمها.. وصعوبة الأمر تأتي من ندرة العقل السياسي المدرك لتلك الحقيقة). * كاتب وصحفى عراقى مقيم فى اليمن |