حضرموت ...التي لم يخلق مثلها في البلاد< سيئون الطويلة> (2) لم أستطع أن أقاوم هدهدة السيارة وهي تتسلق عقبة عبدالله الغريب متجهة بنا إلى حضرموت الوادي ولم أستيقظ من النوم إلا على الهواء اللافح في مدينة سيئون عاصمة إقليم حضرموت الوادي والصحراء.. تنسب هذه المدينة كالحديدة إلى امرأة كانت تضيف تجار القوافل أما النقش الذي يعود إلى القرن الرابع ق.م فيقول أن قوات ذمار على يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات حاصرت"شبام", رطغتم، سيئون، مريمة ثم عراهل. وتريم وحطمت ستين ألف عمود كانت تحمل العنب" ولكنها ظلت تتبع تريم منذ صدر الإسلام ثم شبام إلى أن أعلنها السلطان بدر أبو طويرق (922-977) عاصمة للدولة الكثيرية وأقام حولها سورا ذي ثلاث "سدد" بوابات وأقام قصر السلطان على أنقاض حصن "الدويل" أما الأستاذ علي بارجاء التسمية جاءت على غرار أسماء مثيلة في المنطقة مثل قيدون ,دمون،وسمعون .لست هنا بصدد دراسة تاريخية حول المدينة وإنما أنا راهب مررت بمعبد للجمال فصليت وأفضل أن أقرأ سطور مفاتنها بروحي دون أي كتاب.. نسيت ثقل أمتعتي وحرارة الشمس اللاهبة وأنا أقف في ساحة قصر السلطان الذي يربض على ربوة صغيرة يطل منهاعلى المدينة المحيطة به.. أبراجه البديعة ,شرفاته ونوافذ غرفه الخشبية المزخرفة بإتقان كنت مأخوذاً بعظمته رغم أنني قد رأيت صوره كثيراً.. هذه الآلات تحمل لك الصورة لكن الروح تبقى في مكانها ولا يمكنك أن تتحدث عن مكان لم تحس روحه وتعش خصوصيته وهي تلك اللذة التي جلبت هذا السائح من أقاصي الأرض ليجلس أمام القصر مرتدياً "المعوز و "الغترة" على رأسه وخداه يوشكان أن ينفجرا بالدم من شدة الإحمرار فهذه المتعة التي يجدها لا توفرها له صورة جامدة في دليل سياحي أو مقطع من شريط فيديو على شاشة التلفزيون أوفي موقع على الشبكة العنكبوتية. كانت صورة القصر في بهو الفندق الذي نزلته مخالفة لما شاهدته حيث يظهر فيها القصر بين منزلين جميلين من الطين يقفان بجواره كحارسي الملك ,وامرأتان بزيهما الحضرمي أمامه تمشيان والمسجد الجامع في غربيه بمئذنته الطينية السامقة يزيده جلالا. لقد تسللت بنايات الأسمنت إلى ساحة القصر وحلت مكان المباني الطينية وهو وباء بدأ يستشري في تلك المدينة وغيرها رغم الحظر الرسمي لذلك لقد استبدل المسجد الجامع بمبنى جديد مبنى بالحجارة والخرسانة المسلحة لكن مكيفاته ومراوحه وحنفيات المياه وبلاط الحمامات الفخمة لم تعوض الناس عن روحانية البناء الطيني ونسائم بساتين النخيل التي كانت تحيط المكان أو عن "جوابي" الاغتسال والوضوء القديمة هذه الجوابي عبارة عن برك صغيرة تتسع لمتر ونصف مكعب من المياه وتتصل ببعضها عبر منافذ صغيرة تسمح بمرور الماء من جابية لأخرى يتوضأ فيها المصلون ويغتسلون بمياهها الباردة في الصيف أمافي الشتاء فيتم تدفئتها من خلال غرف صغيرة تحت الجوابي توقد فيها النار سحرا وهي تقليد معماري في جوامع المنطقة القديمة ما تزال قائمة في "تريم وبور". في عام 1935م زارت السيدة "فريا ستارك" مدينة سيئون وساءها استخدام السيد أبي بكر الكاف للخرسانة في منزله الذي كان يبنيه حديثا في هذه المدينة التي لم تر فيها شائبة تشوب جمالها وتناسقها تقول السيدة ستارك "أي عقاب أكثر فظاعة يمكن تخيله لنقاشي العصر الفيكتوري من أن يروا اختراعاتهم تنتشر مثل السرطان في العالم الذي لم يمسه الفساد بعد " إلى أن تقول:" إننا نتقبل أفكار الآخرين إما بسبب كسلنا وإما بسبب خوفنا من التعرف على أفكارنا الخاصة.. ولا ريب أن السيد العجوز كان يحب أبوابه المنقوشة عندما ينظر إليها ويشعر بالسعادة في مدينة العريقة والوحيدة التي لم أر فيها أية شائبة يمكن أن تمس تناسقها وجمالها ومع ذلك فالسيد أبو بكر الكاف يشعر أنه ملزم بإدخال قبحنا الغربي إلى مدينته ليفسدها إلى الأبد..". لم أجد بعد أكثر من ستين عاما ما أتضامن به معها غير مغادرة الفندق الحديث دون أن أشرح لصاحبه الذي يعلق شجرة اسرته من آل الكثيري بجوار قصر السلطان في بهو فندقه وأتمنى أن يدرك بنفسه أن عراقة الإنتماء ليستبتعليق شجرة العائلة وإنما هي سلوك يحترم عظمة التاريخ بالمحافظة على خصوصيات المكان الذي يربطنا به وانتقلت إلى فندق من الطين كان ضمن ملحقات القصر ورغم أنه لا يقدم خدمات فندقية راقية إلا أنني كنت وأنا أطل من نافذته الخشبية المتقنة الزخرفة أحس أنني أتماهى مع التاريخ وأعبث بدولاب الزمن فأحضر زفاف الأمير الكثيري على ابنة خاله في الغرفة المجاورة وأقرأ البهجة في وجوه النسوة وهن ينظرن إلى الفرقة الموسيقية الهندية التي بعث بها السلطان القعيطي للمشاركة في أفراح الكثيري تعبيرا عن العلاقة الودية بين السلطنتين من جهة وتباهياً من جهة أخرى بأنه السلطان الوحيد الذي له فرقة موسيقية رسمية حديثة من بين جميع سلاطين الجنوب وهي التي أصبحت الفرقة الموسيقية الرسمية للدولة بعد الاستقلال. كان على الجهة المقابلة قبتان فخمتان ذواتا حزامين من الزخارف أكبرهما موشاة باللون الأخضر والبرتقالي والثانية بيضاء تحيط بهما مقبرة المدينة بشواهد قبورها المحفور عليها اسم صاحب القبر وتاريخ وفاته كانت البيضاء قبة الفقيه المتصوف أبي عبدالله شجاع الدين عمر عبد الله بامخرمة المتوفى سنة 952هـ أو 953هـ وإليه تنسب المقبرة بعد أن كانت تنسب لبا رجاء أما الملونة الكبيرة فإنها قبة الحبيب علي بن محمد الحبشي العالم النحرير والشاعر الكبير الولي الشهير المتوفى سنة 1333 وهو أحد المزارات الشهيرة في حضرموت تقام له زيارة حولية في الأيام البيض من شهر وفاته ربيع الثاني ومولد كل اثنين في القبة وآخر كل خميس في مسجد الرياض الذي أنشأه كما يذكر حفيده احمد علوي بن علي الحبشي عام 1303هـ بجوارالرباط الذي أنشأه عام 1296 أما باني هذه القبة ومئذنة الجامع والرباط فهو المعماري المبدع عوض سلمان بن عفيف التميمي الذي بنى مئذنة جامع المحضار الشهيرة بتريم . وقد كتب على القبة قبة صيغت بحسن وضياء ضمنها الكنز الخفي والكيمياء علم العلم الإمام الحبشـي درة الأكوان شمس الأصفياء شيد بناها وذا تاريخهــا كملت فيه رئيـس الأوليـاء وعلى رباط جامع الرياض بناء دونـه الدر النظيــم وتحسـده لرفعته النجــوم بناءٌ صيغ من حسـن ونور فمالياقوت والروض الوسيـم رباط فيه للتقوى ارتبـاط وفيه الخير اجمعه مقيـــم توجه طـالب الأخرى إليه بصدق القصد تدرك ما تروم ولازمه كتل ما تشتهيه وأزخه له سر عظيم وعلى المسجد: أقيمت مبانيـه على البر والتقـى لذا عم منه النفع في البر واليــمّ غدا مركز الأسرار والنور و البها وكم قد تربى فيه من فيصل شـهم وفيه انطوت كل الفتوحات وانمحت به ظلمات الجهل في العرب والعجم به الله أحيا العلم بعد اندراسه لـهذا أتـى تاريخه مظهر العلم وعلى المئذنة هذي المنارة ما رأينــا مثلها هيهـات أن شكل يحاكي شكلها تستوقف الرائي عجـائبها التي فيها اللطـافة والجمـال محلها لو أن ناظرهـا أقـام زمـانه متأملاً في حسـنهـا ماملهـا والله ما يصبر من رأى إحكامها إلا صبـا لجمـالها وبهـائها في قالب الحسن المكمل أفرغت فالحسن لا يعزى غدا إلا لهـا قد جـاء تاريخ القبـول لختمها إستجمعت فيها المحاسن كلها لقد كان يكفي القارئ أن أذكر له هذه التآريخ في نصف سطر لكنني أحاول أن أشركه المتعة التي وجدتها في تكامل الجمال بين اللوحة المعمارية الفنية والمقطوعة الأدبية الرقيقة على هذا النسق الفريد ،وكأن هذا الفنان كان يغمس اللبنات في روحه قبل أن يضعها في مدماك الصرح،فلم يستطع بعد كل ذلك الخلق الإبداعي إلا أن ينفخ الروح في لوحته الفنية مسجلاً ولادتها بلوحة أدبية تحمل مشاعره التي لا يقدر على حملها سطر جامد من الحروف والأرقام كأمر إداري بتاريخ .... الموافق .... إنه يدعوك لأن تحس وليس لتعلم فقط. هذه الحميمة بين الفنان وإبداعه تمتد لتحكم العلاقات بين الناس هنا في هذه المدينة وتتجسد من خلال السقائف " جمع "سقيفة" وهي جسور تربط المنازل المتقابلة على الأزقة تنتقل من عبرها الأسر من بيت لآخر والمارة يعبرون تحتها دون مزاحمة للنساء في الطرقات إنها تقول للزائر أن هذه الأزقة ضرورة مرورية ولا تفصل بين الجيران. " هذا المدينة بيت واحد وأسرة واحدة."هكذا قلت وأنا أمشي بجوار منزل آل الحبشي الذي تتجسد فيه روعة الفن المعماري في هذه المدينة بمدخنته التي كانت ضمن مكونات البيت الحضرمي، كما يذكر ذلك الأستاذ علي با رجاء كنت أتوجه إلى مسجد طه ومسجد "الحبعلي" أي الحبيب علي بن عبد الله السقاف، صاحب الرباط أو الخلوة، المسماة "دار الابتهاج" , مسجد الحومرة , مسجد حنبل , مسجد .. مسجد .. لا يضاهي النخيل كثرة في حضرموت غير المساجد وأضرحة الأولياء الذي شادوها من الطين وأناروها بالعلم وإقامة شعائر الدين منتهجين التصوف التي يلخص طريقتهم فيه الحبيب عبدالله بن علوي الحداد المتوفى في تريم سنة 113هـ بقوله: والزم كتاب الله واتبع سنة واقتد هداك الله بالأسلاف معظم هؤلاء الأولياء من آل بيت النبوة الذين ينحدرون من سلالة أحمد المهاجر بن عيسى بن محمد النقيب بن علي العريضي بن جعفر بن الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب. لقب بالمهاجر لأنه هاجر من البصرة التي ولد بها سنة 273هـ، ونشأ بها إلى المدينة المنورة عام 273هـ ومعه الشريف محمد بن سليمان جد آل الأهدل في التهايم والشريف أحد القديمي في وادي سردد. وإن كان المقحفي يجعل القديمي من ذرية المهاجر وبعد أن أدى فريضة الحج قصد حضرموت وبلغ قرية "الجبيل" بوادي دوعن عام 308هـ، وأنتقل إلى "الهجرين" ثم قارة بن جشيب واستقر في "الحسيسة" إلى أن توفي فيها عام 345هـ، وله مزار مشهور معروف بشعب أحمد أقامه حفيده الحبيب أحمد بن محمد الحبشي الذي يهتف الناس بقولهم "يا ولى الشعب يا أحمد" عندما يمرون بقبته ومزاره أسفل مشهد جده المهاجر . خرج المهاجر من جحيم السياسة في العراق التي التهمت جده الحسين الشهيد وابن عمه زيد بن علي ثمّ محمد النفس الزكية واقتفى طريق السجاد والباقر والصادق فجاء إلى هذا الوادي حاملاً معه بذرتي العلم والمحبة بعيداً عن المطامع السياسية وتعهد أبناؤه من بعده غرسه فنما على امتداد الأجيال . عرف الحق فعرف به وعرف له حقه ، وهو ما لم تقدر عليه طوائف الشعية من إمامية وإسماعلية وزيدية وإباضية , ترك للساسة ملك الأجساد وتوارث عنه بنوه ملك القلوب والأرواح فكلهم هناملقب بالحبيب "الحبشي، السقاف، الجفري، الحداد، المحضار، العيدروس، العطاس , بالفقيه، البيض, الكاف إلخ ليتبناها أخيراً الحبيب عمر بن حفيظ صاحب دار المصطفى بتريم فأرتفعت على امتداد حضرموت قباب مزاراتهم التي غالباً ما ترتبط بمسجد الحبيب ورباطه العلمي. الولاية وإن غلبت هنا في الأسر العلوية إلا أنها لا تقتصر عليهم ،وإنما يشاركهم فيها علماء من أسر أخرى كالعمودي في قيدون وبا مخرمة في سيئون وعمر باوزير، الذي ينسب إليه غيل عمر في " ساه " يقول الأستاذ محمد عمر الزبيدي " كانت زيارة هذا الولي مهرجاناً للتراحم، والعطف على المساكين يؤمه الناس من كل مناطق الوادي تلاشى الآن بسبب جيل الميني جوب , كانت الذبائح في ساحته توزع على الزائرين من الفقراء أما أصحاب المرضى فيحلمون مرضاهم على "الحضّة" المحفة وهم يرددون " صبحنا يالله وبالشيخ الكبير عسى "المارود" يسرح مع إخوانه يسير كان والدي يقول أن الذين كانوا يتطوعون بذبح الهبات وتوزيع لحومها يبسطون رداءً يلقي فيه كل واحد بحصاة وعلى عدد الحصى يقسم اللحم فلم يكونوا يعرفون الحساب ولكنهم كانوا أكثر مهارة في إدارة علاقاتهم الاجتماعية والتعامل مع بيئتهم ويحسنون تقدير الأمور أكثر من الأجيال الجديدة. أوافقه الرأي وأختلف معه في أنهم كانوا يجهلون الحساب فهذه الطريقة في التوزيع تحتاج إلى الحساب أيضاً وأعتقد أنهم كانوا يتحرون العدالة في التوزيع حين يقسمون على الحصى بدلاً من الشخوص . لا يشترط في وليّ الله هنا عراقة الأسرة فقد يكون إنساناً بسيطا يعمل في حقله مثل سعد السويني المتوفى سنة 857هـ في مدينة تريم الذي يتداول الناس من كراماته أنه كان ذات يوم يسقي مزرعته في تريم والعيدروس في عدن يمسك بسواكه ويعبث بساقية السويني يطلب من إيقاف العبث ممازحا فأخذ السويني قطعة من الطين وقذف بها العيدروس إلى عدن الذي ما أن رآها قادمة في الهواء حتى أحنى رأسه لتستقر في جدار المسجد , ثمّ رفع العيدروس رأسه ضاحكا وحدثً طلبته أن الذي قذفه بها هو سعد السويني من تريم , بعض المؤرخين يذكر أن العيدروس كان يحتفظ بحذاء السويني في صندوقه الخاص وقد ألف علي بن أبي بكر السقاف (818-895هـ) كتابا سماه الدّرالمدهش البهي في مناقب الشيخ سعد بن علي المعروف بسعد السويني ومثل كراماته يتداول الناس حكمه الزراعية وأمثاله الشعبية التي كثيرا ما تختلط بالحكيم الشعبي " أبوعامر " وقد جمع منها روبرت سارجنت في كتابه "شعر ونثر من حضرموت" 84 قولاً يتداولها الناس حفظون له من مثل قوله: إنك بغيت الحرث يا بن يعشوث شتاك بالبلدة وبرّك الحوت أي موسم الذرة في منزلة البلدة وموسم القمح في منزلة الحوت العجيب أنه رغم ما له من الولاية في اعتقاد الناس فإنهم لا يستنكفون أن ينسبوا إليه مثل هذا البيت: مرة طبيني جتني الظهيرة عطيتها شوطين في المطيرة ولعل ضيق المزارعين من استبداد "الطباين" المؤجرين حينها جعلهم يرون أن إتيان زوجة الطبين سفاحاً مرتين في الظهيرة مسألة لا تتعارض مع ولاية السويني إن لم تكن جزءاً منها وقد تكون المقولة منسوبة إليه، وأياً كان الحد الذي يترتب على رواية هذا القول فليقم على الأستاذ علي با رجاء الذي رواه لي وهو صاحب دراسات في التراث الشعبي الحضرمي ومنها كتابه "الشاعر الحكيم أبو عامر" عموماً رحم الله السويني وجميع من مات على شهادة التوحيد، أهم شيء هو أن الولاية هنا ليست حكراً على الذكور فقد نالت هنا سلطانة بن علي الزبيدي (780- 843) من المكانة الدينية والسيادة الروحية ما جعل منها رابعة عصرها وجعل المؤرخين يستفيضون في ذكرها ويعدونها من أكبر رجال العلم والدين في أواخر القرن الثامن وبداية القرن التاسع الهجري يقصدها كبار علماء عصرها يتبركون بها ويأخذون العلم عنها. أما الذين يتوافدون على ضريحها للتبرك وقراءة القرآن على روحها من الرجال والنساء على مدار العام أو الذين يقصدون زيارتها السنوية التي تبدأ في الثاني من "سعد الخباء" مطلع سبتمبر ويهتفون لها. يا بنت علي يا عذرا يا ملقحة الأجمال فإنهم يروون " أن الولي عبدالرحمن السقاف باراها في الكرامات فرفع فضلة ضفيرها" إلى السماء مثل عمود فضربت بيدها ظهر جمله ليضع على الفور ناقة.. سلطانة التي تمخض الجمل على يدها فأولد هذه المرة ناقة لا فأراً كما يقول المثل العربي يروون أنها كانت تقتات من حليب شاة فجاء أهلها ضيوف،ولم يكن لديهم ما يكرمونهم به فأعطتهم شاتها وطلبت منهم أن يذبحوها للضيوف ويحرصوا على ألا يكسروا عظماً من عظامها وبعد أن فرغ الضيوف من أكلهم ضربت عظام الشاة فعادت حية.لقد أعجبني من سيرتها ما ذكره الشاطري في أدوار التاريخ الحضرمي من أن الحسن بن عبد الرحمن السقاف قال لها وقد رآها بين العلماء. " يا ماسفهش ما بدا بَكرة تباري جِمَال " مشبها دخولها بين أولئك العلماءمثل ناقة تنافس الجمال فاستأذنت من والده، وكانت تجله بالرد وحين أذن لها أجابت قائلة: الِحمل بالحِمل والزايد لبن والعيال أي أن أنوثتها يمكن أن تكون ميزة لا نقيصة فالناقة تحمل كالجمل وتزيد عليه باللبن وإنجاب الصغار فلم يملك السقاف غيرالتسلم بفضلها. التصدي للمشيخة والتدريس لم يكن محظوراً على النساء في حضرموت تقول السيدة فريا ستارك التي زارت سيئون عام 1935م: "وصلتني رسالة من أرملة متعلمة من سيئون تطلب مني فيها أن أزورها وقد قادتني إليها خادمة تجرجر خلفها ذيل ثوبها الأخضر وسط النخيل ثم صعدنا سلماً مطلياً بالنورة الجير الأبيض" قادنا إلى غرفة واسعة ذات أعمدة ومفروشة بسجاد وتحلقت نحو عشرين امرأة يلبسن فساتين قطنية مزهرة وأثلقن أيديهن بالأساور العنبرية حول زعيمتهن الروحية لقد ذكرنني بمتحذ لقات "موليير" أما الأرملة نفسها فقد كانت شابة ومستديرة وكانت عيناها تلمعان وقد تدلت ضفيرتان على جانبي وجهها وعندما رأتني أدخل شرعت في القراءة في نسخة من صحيح البخاري كان موضوعاً فوق خشبة صغيرة أمامها وبينما انهمكت هي في القراءة بصوت له رنين غير معبر كانت النساء حولها يتململن بحرارة وقد انقسمن بين الرغبة في الاستماع للقارئة كما هي العادة والرغبة الجامحة في رؤيتي. ثم تقدمت وسط النساء واقتربت من ربة البيت وبعد أن سلمت عليها رحبت بي بخطاب مؤثر كانت تلقيه وكأنه ينساب من حنفية وفي الوقت نفسه ظلت تراقبني وتمسكني بإحدى يديها وتشير بالأخرى لجذب انتباه قطيعها وكانت تنقط جملها بأصابعها القصيرة والجميلة المنقوشة بالحناء ولم تنسَ أن تضّمن حديثها بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النوبية واقتبست كذلك من أقوال الشعراء إذ أنها نفسها كانت شاعرة وشاركت في مساجلات شعرية شعبية وتحصلت في إحدى المرات على طقم أواني للشاي كجائزة وأخبرتني أن النساء يجتمعن عندها يومياً ليستمعن إلى القرآن أو صحيح البخاري أو صحيح مسلم، أو أحد كتابين تقليديين نسيت اسميهما وقد صادف أنني أعرف شيئاً عن صحيح البخاري وعندما استطعت أن استذكر نصف جملة من أقواله شرعت المرأة دون أن تترد ثانية في الحديث عن الفلسفة والقيمة العليا للدين وسألتني لماذا لا تسكني هنا؟ سيكون باستطاعتنا أن نجتمع ونتناقش كل يوم". إلى أن تقول : " وقد غادرت السيدة التي أخبرتني أن هناك سيدات متعلمات أخريات في سيئون وتريم مدينتي الدين، والعلم لكنهن متزمتات جداً أما هي فلم تكن كذلك فذراعاها كانتا مفتوحتين إلى المستمعة المسيحية،وكانت تكن لي مودة مخلصة" وبغض النظر عما ورد في عبارات السيدة ستارك أو المترجم من ألفاظ وعبارات مثل "قطيعها" أو " ذكرتني بمتخذ لقات موليير" وغيرها فالأهم ما ذكرته من اجتماع النساء عند هذه المرأة يومياً تقرأ عليهن القرآن وصحيح البخاري ومسلم، وما عرضته عليها من البقاء في سيئون ليتمكنا من الاجتماع كل يوم والنقاش وكذلك المساجلات الشعرية، ويعتقد الأستاذ با رجاء أن المقصودة بحديث ستارك هي "الحبابة" الجدة أو الشريفة خديجة بنت علي بن محمد الحبشي الولي الشهير، وببغض النظر عمن تكون فالنتيجة هي أن المرأة الحضرمية كانت منفتحة على ثقافة عصرها ومشاركة فيها دون تمييز ذكوري ضدها الأمر الذي اتاح ظهور شخصية كسلطانة بنت علي على شقيقيها محمد وعمر. زيارة الأولياء الحولية لا تقتصر على التبرك بهم وإنما تتحول إلى مهرجان سنوي للتعارف بين أبناء المناطق المتناثرة في الوادي وللتجارة والفنون الشعبية كما هو الحال في زيارة الولي أحمد بن عمر الهدار المعروفة بزيارة القطن وهي تقليد منذ مئات السنين تبدأ في 4/8 لمدة عشرة أيام يتوافد فيها الناس إلى مدينة القطن يتقايضون البضائع نهاراً ويجتمعون ليلاً على حلقات الدان ويؤدون الرقصات الفلكلورية واستمرت ساحة مدينة القطن مفتوحة مجاناً لكل أبناء حضرموت حتى قام بعض المستثمرين باحتكار السوق مقابل دفع بعض الرسوم إلى الدولة وأصبح يؤجره قطعاً صغيرة لمن يرغب في عرض بضاعته "الفا ريال للمتر المربع تقريباً" ولكنه خسر بسبب سقوط الأمطار الغزيرة في الموسم وترك السوق للبلدية التي تقوم بتأجيره مباشرة لكن الأمطار ستظل كما يقول الناس لأنها إنذار غضب من الله على أصحاب هذا القرار حتى يتخلوا عنه ويدعونه حراً ومفتوحاً أمام الناس مجاناً كما خلقه الله وبعضهم يرجع الأمر إلى أنه كرامة للوالي الغاضب من استغلال زواره. أما أنا فقد رأيت في هذا الموسم أن الناس يعانون من شحة الأمطار أكثر من احتكار سوق الهدار. يظل قبر نبي الله هود في وادي برهوت 615كم تقريباً شرق سيئون أهم مزار ديني في حضرموت كلها واليمن حيث يبدأ الاستعداد لزيارته " بالتهويدة " في مدينة تريم ليلة 27 من رجب حيث تتلى سورة هود والقصائد التي تحض على الزيارة من مثل قصيدة الحداد التي منها: أومض البرق في الدجى من أقصى النجود ذكرتني بليال قد خلت من حول هود شعب قبر لنبي مرسل وافي العهود يا ليالي الرضا عودي ليخضرّ عودي باللقا والتداني بعد طول الصدود وفيها تربط الأمتعة وتخضب الجمال والحمير بالحناء فيما يسمى "الخبرة " والمحافظة عليها مصدر فخر للحضرمي القديم حيث يتعرض "الوعيلة" من لم تسبق له الزيارة للسخرية من قبل أهالي المناطق التي تقع على طريق الزيارة حيث " يعبعبون" عليه أي يصدرون أصواتاً تفيد السخرية عموماً فالحضرمي يذهب إلى زيارة هود تدينا من جهة وأجازة يقضيها في ابتهاج وسرور بعيداً عن ضنك العمل وهوماعبر عنه البيت الشعبي القائل: يا فرحة القلب لا قالوا دخل شهر هود ثمانية أيام في راحة ونحنا قعود توجهت إليه من سيئون صباحاً في غير موعد الزيارة التي تبدأ في العاشر من شعبان واستقبلتنا " القرن " بعدأن أصبحت جزءاً من مدينة سيئون بسبب التطور العمراني الذي التهم مزارع النخيل التي كانت تفصل بينهما , طلبت من سائق السيارة أن ينتظر حتى التقط صورة لجامع "القرن " الذي أسسه محمد بن عمر السقاف لكن السائق قال: " أنصحك أن تؤجل النظر إلى ما حولك على جانبي الطريق حتى تعود من مزار هود لأننا لن نصل المزار إلا بعد أيام فما أكثر ما يستحق الاهتمام على طريقنا" وكان محقاً فما هي إلا دقائق حتى ظهرت قبة ومزار الحبيب يوسف بن عابد الحسني" في مريمة ثم حوطة سلطانة بنت علي ومزارها الذي تقف أمامه حافلة وبعض سيارات حملت مجموعة الزائرين من النساء والرجال الذين يقرأون القرآن، داخل القبة التي يقع داخلها ضريح سلطانة. قال رفيقي وهو يشير إلى أطلال "مريمة" القديمة : " كان سكانها في نعمة من الله فبطروا واستجمروا بالتمر أزالوا النجاسة بنعمة الله فغضب عليهم وأهلكهم ." كل شيء وحدث هنا يرتبط بأسطورة تفسره بما يتفق مع تدين الحضرمي ويحفظ قيمه، لم التفت يسارا إلى حيث كان يشير لي السائق بأنها " بور " فقد كنت مأخوذاً بروعة ما أشاهد على يمين الطريق حيث بدا قبر المهاجر أحمد بن عيسى في شعب أحمد .. مشهدٌ صغيرٌ في حضن الجبل كشف عنه عبدالله بن أبي بكر العيدروس الملقب "بسلطان الأولياء " (811-865هـ) تصعد إليه أكثر من مائة درجة بيضاء بعد التسيلم على حفيده الحبيب أحمد محمد الحبشي المتوفي سنة 1038هـ والمدفون في القبة أسفل الجبل والباني للصرح وبيوت الزائرين بجواره قد يرهقك صعود كل تلك الدرج ولكنك ستعرف به أية معاناة كأنت المرأة الحضرمية تكابدها وأية لوعة جعلتها تصعد هذا الدرج وتنزله مرات دون توقف وهي تنادي زوجها الغائب محمد مرددة. يا محمد خُب خُب حُطّ رجيلك في العُطُب متوسلة إلى الله بهذا الولي أن يسمع زوجها نداءها الحار فيعود مسرعاً وطريق العودة لينة على قدمية كالعطب. سرعان ما يوقظك من سرحانك بأبي حضرم اللي تغرب وساح المثل الشعبي الذي يقول : "من خلّف ما مات " تذكرته وأنا أنظر إلى قبرَيّ "جديد و بَصرِي" أبني أحمد المهاجر في ربوة صغيرة في " تاربة " لاقباب لهما ولا مزار لأنهما لم ينجبا ذرية تتأكد من ذلك حين ترى في شرقي " تاربة " قبة ومزار ابن أخيهما علوي بن عبيد الله المتوفى سنة 412هـ والذي ينحدر من ذريته كل أشراف حضرموت الحسينيون. لم يكن جديد وبصري إبنا المهاجر هما المندثر الوحيد في " تاربه " فقلعة " الصناهجة " التي تعود إلى القرن السابع الهجري لم يبق غير أطلالها وفتى يسقي مزرعة النخيل أسفل منها يفسر خراب القلعة بقوله : " غضب الله على سكان البلد فأخرب ديارهم " لم أسأله لماذا؟ كيف؟ وإنما أدّخرت أداتي الاستفهام ومضيت مع رفيقَيّ ولم ألقها إلا بعد أن تجاوزنا مدينة " السّوم " بقليل عند مفترق طريق الاسفلت الذي يأخذك إلى المهرة فعمان وبين الطريق الممهد الذي سلكناه إلى قبر النبي هود، وهناك استبدلت الاستفهام بعلامة التعجب حين شاهدت قمة الجبل أمامي منحوته على شكل كاس من الضوء مرفوع في السماء، ولو لم تكن الطريق إلى قبر نبي لظننته يرفع نخب الزيارة. قطعنا مياه الوادي الضحلة الأشبه بالمستنقع قال سائق السيارة أنها كانت تجري على مدار السنة لم أشأ إلا أصدقه وشغلت نفسي بالنظر إلى تلك القرى المتناثرة بين النخيل تارة وفي المسافات القاحلة أحياناً . كان أكبرها " فُغمَة " حيث يبيت زائرو قبر النبي هود فيها يرددون أهازيجهم والأناشيد الدينية قبل أن يصلوا إلى القبر فهي للزائر كمزدلفة للحاج هذه المناطق مناطق بدو يعيشون على التنقل ولم يفكروا بالاستقرار إلا حديثاً بعد تحسن حياتهم المعيشية. كانت الإبل السائمة في الوادي تعلك أغصان الشوك وهي تنظر إلينا بازدراء ولا مبالاة مصطنعة يطل منها الامتعاض ونحن نسير بجوارها مسرعين بسيارتنا لم أستطع أن أخرج لساني أو أنكس إبهامي لأغيظها لأنني أدرك أننا وهذه الآلة التي نركبها دخيلين على مملكتها هذه.. صحيح أنني كنت قد ضقت من الجو القائظ في السيارة غير المكيفة لكني لا أظن أن قطع هذه المسافة تحت الشمس على ظهر جمل يمكن أن تروق لي وإن كنت مع الوفاء لهذه الكائنات الصبورة التي أحرقت أقدامها وهي تقطع بآبائنا هذه المفاوز تحمل أثقالهم وتغذي بألبانها ولحومها أبدانهم ومنهم كليب بن أسد الحضرمي الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا له هدية أمه ثوباً من نسج يدها ثم أنشده: من وشي " برهوت " تهوي بي غذافرة أتيت ياخيـر من يحفى وينتعل شهرين أُعمِلها نصاً على وجــــلٍ أرجو بذاك ثواب الله يــارجل كان مشهد النبي هود قد بدأ يظهر في حضن الجبل والمدى ينحسر عن القبة البيضاء كخوذة على هامة التاريخ الذي ينبثق من الأرض رويد رويداً موشىً بالأساطير وسط إطراقة القلوب الخاشعة حواليه. لم يكن في المزار غير البنائين وعمال التجهيزات الذين يُعدّون لاستقبال الزائرين في شعبان والذي يمكنك أن تعرف عددهم من خلال المدينة الخالية المحيطة بالمزار التي ستزدحم بهم وتعرف بلدانهم من الخدور التي تتألف منها المدينة الخالية خدر منطقة كذا وخدر آل فلان فلكل أهل بلد جزء من هذه المدينة أقاموه ليسكنوه أيام الزيارة بتصريح من آل با عباد الذي يحتكرون حق منح تراخيص البناء تحيط بالبناء والمزار مياه الوادي حيث يقوم الحبيب أو منصب كل جماعة أو بلد بسقي الناس منه تشبهاً بالسقيا من حوض الكوثر الذي يسقي رسول الله صلى الله عليه وسلم منه المؤمنين يوم القيامة يصعد الزائر بعد الوضوء في مياه الوادي ويصلي ركعتين في "حصاه" عمر وهو مصلى الحبيب عمر المحاضر نقيب العلويين المتوفي 893هـ الذي نصب المشهد ثم يتوجه بعدها إلى "بئر التسلوم" او التسليمة وهي حفرة أِشبه برأس البئر عليها قمة صغيرة مقامة على أربعة أعمدة ويبدأ بالتسليم على نبي الله هود والأنبياء قائلاً "السلام عليك وعلى آدم، السلام عليك وعلى إدريس، السلام عليك وعلى نوح" وهكذا حتى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. ثم يصعدون بعد أن تبدأ المراسيم بزيارة آل أبي بكر بن سالم وآل شهاب الدين احمد عبدالرحمن السقاف وعند حصأة "الناقة" يقام المولد وهي صخرة يعتقدون أن ناقة هود دخلت فيها وبجوارها أثر على الأرض يسمونه "الدحقة" أي موضع قدم الناقة ثم يتوجهون الى القبر ليقرأوا سورة هود والفاتحة ويسلموا على نبي الله هود والأنبياء والقبر شق بين صخرتين صغيرتين قام الشيخ الفقيه حكم بن عبدالله بافشير المتوفي سنة 879م ببناء مشهد عليه وقبة ثم قام أبو بكر محمد بالفقيه ببناء قبة ضخمة على جانب الحجرة المتصدعة 1097هـ) وقام علوي عبدالله الكاف ببناء الدرج وبني حول الصخرة (الناقة) مشهداً للزوار وهذا الشق هو ما أعتقد باني المشهد أنه قبر نبي الله هود الذي وصفه الحضرمي للإمام علي بن أبي طالب وهو أضيق من أن يدخل فيه النحيل ولو مجانبا كما في الرواية ويمتد القبر في الجبل بضعة أمتار ولعل بانيه كان واقعاً تحت تأثير الأساطير التي تملأ بعض كتب التاريخ التي يحب مؤلفوها أن يقولوا ويرووا فقط مثل أن قوم عاد وثمود والفراعنة كان طول الواحد منهم ستين أو أربعين ذراعاً وأن هناك رجل قتله موسى كان طويلا بحيث يقف في المحيط ويأخذ سمكة ويشويها في الشمس وهي أساطير تجاوزت أحيانا كتب التاريخ الى بعض كتب التفسير التي تعتمد في تفسير قصص الأولين على الإسرائيليات وأحاديث لا يصح نسبتها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما قوي سندها من مثل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن "الزهرة" لأنها كانت فاجرة ببابل أغوت الملكين وسرقت منهما اسم الله الأعظم لتخترق السموات، وإن كنت أعتقد أن الذي بنى القبر بهذا الامتداد كان يتحرى أن يحجز أصغر مساحة يمكن أن تكون الجثة فيها لعدم تيقنه من مكانها على سبيل القطع. لم أكن ملزماً باستكمال طقوس الزيارة فلم انتظر "النفرة" ولا انتظار "الشعبانية" الاحتفال بليله النصف من شهر شعبان فلهذا المزار طقوس أشبه بالحج "المبيت" "الوقفة" "النفرة" والقادمون يذكرون الله كثيراً و يشهدوا منافع لهم بالتجارة وغيرها وهذه الطقوس نتاج ما روج له الحاضون على زيارة القبر الذي يجعلون من زيارته ثماني مرات تعدل حجة . كما أصبح هذا المزار عند زائريه بابا للجنة فإنه غير بعيد عنه إلى الجنوب على امتداد الوادي يقع "باب جهنم" كما يسميه الناس المعروف بـ"غار برهوت" أو بئر برهوت وهو غار في منتصف الجبل مظلم طوله تقريباً 120 قدما وعرضه 45 قدما وعمقه 600 قدم يتداول الناس عنه قصصا مخيفة عن أرواح الأشرار التي تسكنه والتي تطفئ أي نور ونار تدخله ما لم تكن من جريد النخل المشتعل , لم تكن نفسية ساكن المناطق المنبسطة وراء هذا التفسير المخيف لغار في جبل وإنما ساهم في نسج هذه الأسطورة ما روى الهروي عن علي ابن طالب وأخرجه الطبراني في المعجم عن ابن عباس أن رسول الله (ص) عليه وسلم قال "شر بئر في الأرض برهوت" ولا أدري كيف يخرج محدث في كتابه مثل هذا . أما ابن هشام فيذكر من أخبار يعرب بن قحطان انه أتاه آت فقال له يايعرب هلا جعلت نقباً في الجبل الأغر من أرض برهوت فإنه معدن من عقيان وأنقر شرقيه فإنه معدن لجين إلى أن يقول "ولهذا كثر العقيق والفضة في اليمن" وهو استنتاج عجيب .قد يكون الكهف أحدى مستوطنات الإنسان الأول أو سفراً جيولوجيا ينتظر من المختصين أن يسهموا مع الأسطورة في لفت نظر السائح إليه.. أما أنا فلم أر شيئاً يخرج من الغار غير وجه سالم نائب مدير مشروع حضرموت المقطب الجبين يستعجلنا بالعودة بالسيارة التي أذن بها ليوم واحد فقط بعد جهد جهيد رغم توجيه وكيل المحافظة الجنيد بها ثلاثة أيام وبرر رفضه بأن الناس في المناطق الغريبة ينهبون السيارات وهو اعتذار خير منه الرفض لما فيه من إساءة لأبناء هذه البلاد الودودين بالفطرة بدوهم قبل الحضر.. قفلنا راجعين من وادي برهوت وما أن تجاوزنا " السّوم " بقليل حتى وصلنا مدينة " قَسَم " وهي متحف معماري وتاريخي آخر يقع على بعد 56 كم تقريبا شرقي سيئون يتدلى من مئذنتي مسجد عبدالرحمن السقاف والجامع الذي بناه إبراهيم السقاف عام 1338 بعد أربع سنوات من بناء قصره وهو تحفة معمارية في متحف حضرموت الكبير ولا ينافسه في المدينة غير قصر بن يماني الذي عتقته السنين وزينت سدته بهاتين البيتين : أقبل السعد عيانا باليقين في بيوت زينت للناظرين كتب السعد على أبوابها أدخلوها بسـلام آمنيـن وتاريخ البناء عام 1296هـ أكثر من الاثنين قدماً وحاجة للاهتمام والترميم قصر " بَالحَايمر " في الواسطة و " رقبة حيدر" أما الناس هنا فإنهم يتمنون لو يعود سد "النقرة" الذي سقى الناس هنا أزماناً وساهم مع بقية السدود وحواجزالمياه في حضرموت على جمع 10000 مليار متر مكعب من المياه الجوفية تحتاج الى سياسة مائية تحسن استغلالها وإقامة السدود والحواجز لرفدها وتغذيتها.. تبقى "عينات" التي اختطها الكثيريون عام 629هـ أهم ما نسيت زيارته على يمين طريقنا الى هود فهي من أهم المزارات الدينية في حضرموت بقبابها السبع التي تحوى توابيت الشيخ أبي بكر سالم المتوفي سنة 992هـ وأحفاده مزخرفة بالآيات القرآنية والأدعية والأبيات الشعرية المحفورة على الخشب بإتقان مكسوة بالقطيفة الخضراء والبخور والطيب ليتنوع من جنباتها تحس من هذه الفخامة أية مكانة يحتلها هذا الشيخ وذريته في النفوس لدرجة جعلت وقفة الزائرين قبر نبي الله هود لا تبدأ إلا بزيارة آل الشيخ أبي بكر بن سالم ودفعت بالذي صنع تابوت علي بن سالم بن احمد بن حسين بن أبي بكر بن سالم أن يكتب عليه مؤرخاً ياضريحاً ضم من تبكي السماء عليه والأرض أيها السائــــل عن تأريـخه حبـه فرض لن تعرف سر هذا التعظيم ما لم تذهب إلى جامع الشيخ أبي بكر بن سالم الذي بناه عام 946هـ ثم تتبع الأستاذ أنور باوزير الذي ورث إمامة الجامع عن أسلافه وهو يأخذك إلى الغرفة البسيطة فوق الجامع خلوة الشيخ أبي بكر وجامعته الخاصة أو تصعد معه درجات منزل الشيخ المتواضع قريبا من الجامع فتعرف أثاث منزله المكون من سرير بسيط وعدة القهوة "محماس الخزف- المنحاز- الجدية- بعض الأكواب" وفي أسفل الدار "ضوحة" حجر لطحن نوى التمر علفا للماشية ورحى صغيرة بجوار تنور الطين الصغير.. ذلك هو سر عظمة الرجل الذي نهل العلم من معين آبائه ورفده بعلم جده لأمه الفقيه محمد علي مولى الدويلة صاحب مسجد الفقيه المعروف في عنيات ثم جسّد هذا العلم سلوكا ساميا خلده في القلوب وأعلا ذكره بعد مماته على الألسن قبل القببب والتوابيت عاشت عينات فترة ازدهار اقتصادي بحكم توسطها طرق القوافل القادمة من الشحر عبر عنه المثل الشعبي "رطل لحم في عينات بأم ست وعانيه بقرش" أي أن أجرة الذي سيأتي باللحم أضعاف أضعاف ثمنه لوفرته لكنها فقدت تلك الميزة الاقتصادية وبقيت مزاراً دينيا.ً على يمين طريقك الى هود مآذن المساجد وقباب الأولياء وعلى يمين عو دتك حصون وقلاع . رددت وأنا أشاهد حصن " النجير قول أبي دهبل الجمحي أعرفت رسما بالنجير عفا لزينب أو لسارة لعزيزة من حضرموت على محياها النضارة ورأيت في قارة " العُر" أغمات أخرت ومعتمد بن عباد ثانٍ هو السلطان عبدالله بن راشد القحطاني الذي قضى سجينا بين جدران هذه القلعة وهو يردد بتعبيره الخاص معنى بيتي المعتمد قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً فردك الدهر منهيا ومأمورا من بات بعدك في ملك يُسرّ به فإنما بات بالأحلام مغروراً. جدد هذا المبنى في عهد السلطان بدر بن عبد الله الكثيري عام (855هـ) ليكون سجنا للسلاطين وأنتهى به الأمر جاثياً على الربوة وحيدا تصفرفي جنباته الرياح ينتظر بعد نظرات الخوف منه نظرة اهتمام من مار على الطريق أسفله أو من مسئول في الهيئة العامة للآثار ترد الاعتبار الى جلال سنيّ التاريخ على سحنته ارحموا من أذل الأعزة فقد ذل.. وصلت سيئون ولم أملكٍ إلا أن أردد ما يقوله زائر هود بعد عودته إن قيل عدتم بما رجعتم يا سيد الرسل ما نقـول قولوا رجعنا بكل خيـر واجتمع الفرع والأصول |