|
العيـد..(تَنْصير)بالحجرية،و(بالَه)في يافع،و(جبل حبشي)تخزن في بيت اليتيم (بَرَع) في صنعاء،و(تَنْصير) بالحجرية، و (بالَه) في يافع، و(جبل حبشي) تخزن في بيت اليتيم.. إنه العيد.. ولا شيء آخر غيره يطرق أبوابنا باكراً بأنامل الفرح، ليرصع الوجوه بالبسمات وأطياف الحب.. ويجوب الأزقة يفرق (العسب) على الصغار، ويطرز ثغورهم بشدو عذب.. هو العيد الذي تترقبه الصبايا خلف النوافذ ليكحلهن بالأنوثة، وينتظره اليتامى خلف الأبواب ليكفكف دموعهم بثوب جديد، وبعض حلوى كانت بعض أحلامهم.. وهو في ربوعنا قصص، وحكايا لذيذة بنكهة البن اليمني، نتوق لسردها كما يتوق الآخرون لاكتشاف لذة أيام العيد السعيدة حين يكون المرء في بلاد السعيدة.. * أولى مظاهر العيد بمجرد تداول (خواتم مباركة) بعد 15 رمضان تبدأ مظاهر العيد بالدبيب في عروق الحياة اليمنية، وينقلب الحديث من (صرفة رمصان) إلى (صرفة العيد). فالأسواق تجدد عروضها، وتكتسي الواجهات بأزهى الثياب، وترتفع يافطات (تخفيضات هائلة)، وتنتعش أماني بعض الكادحين بفرص افتراش الأرصفة، والمتاجرة ببعض مستلزمات العيد. فيما تتريث البقالات حتى دخول العشرة الأواخر من رمضان، لتباشر تدريجيا سحب الأطعمة الرمضانية من الواجهات، واستبدالها بلوازم العيد من: عصائر، وحلوى، وبخور، وحناء، ومكسرات بأنواعها، فضلاً عن المعجنات الجاهزة، ولوزام تحضيرها منزلياً. أما في القرى البعيدة عن مركز المدن، فقد جرت العادة أن يتسابق إليها (الدلالون)، صور الثياب واللوازم تعتلي ظهورهم، فتتداعى إليهم النسوة من كل البيوت.. وقد شاع حديثاً سيارات (بيكب) ذات صندوق خلفي، كما لو كانت سوقاً متنقلاً. ** إعلان حالة الاستنفار! العيد يقرع الأبواب: وتقاليد الكرم اليمني تستدعي إعلان النفير في استقبال الضيف، دون السماح لأحد بالتخلف عن الآخرين، ابتداء برب الأسرة، وانتهاء بربات البيوت. فالآباء سيكتفلون بتدبر كسوة العيد لأبنائهم الذين لن يقبلوا بكسوة ناقصة، وربما يشتاطون غضبا إذا ما نقص عليهم (شورابا)، أو قطعة من الملابس الداخلية، ويحرصون على استكمال كل شيء في وقت مبكر. أما الصبايا فهن أكثر قناعة، ويفرحهن كل شيء، وتتعاظم سعادتهن بإضافة حقيبة اليد، وأطواق الرأس الملونة.. فيما لا تكترث معظم الأسر البسيطة لشراء كسوة العيد لربات البيوت (النساء الكبيرات) في عيد الفطر، إلا أنهن سيتصدرن الأولويات في عيد الأضحى، لتخفيف العبء عن ميزانية الأسرة. لكن العيد في بلاد السعيدة لا يتوقف عند الملابس، فبعض الأسر تحرص على تجديد طلاء البيت، فيما واظبت الغالبية العظمى على أن تقوم النسوة بحملة نظافة عامة، تشمل تنظيف السقوف مما علق بها بواسطة (السعف)، أو أي شيء آخر يؤدي نفس الغرض، إضافة إلى غسل أرضية البيت بالكامل، والشراشف، ونشر البطانيات والفرش تحت أشعة الشمس، وغالبا ما يكون ذلك ليلة العيد، أو التي تسبقها. وفي سياق حالة النفير، فإن المطبخ اليمني سيشهد نشاطا محموما ايضا إذ تتولى النسوة إعداد كعك العيد قبل يوم أو اثنين، وفي عشية العيد يتم التحضير لـ(السبايا) و (بنت الصحن) وما شابه من معجنات ليتم طهيها فجراً. كما تعمل الأسر جميعا على توفير (جعالة العيد) من زبيب، وقلة، وزعقة، وتمفاش، ولوز، وفستق، وجكليت (مليم)، وأية حلوى أخرى مما سيتم تقديمه للضيوف، فضلا عن القشر (القهوة)، والعصائر، وكذلك تحضير البخور الذي لا يخلو منه بيت يمني، ويعتبر عنوان كرم الضيافة في بلاد السعيدة. *** تقاليد ليلة العيد: يقول المثل اليمني (ليلة العيد تبان من بالعشي)، فاليمنيون أكثر شعوب الأرض استمتاعاً بالتحديق في كبد السماء لمراقبة ظهور الهلال.. وإذا ما ثبتت الرؤيا فيكفي أن تكون على قيد الحياة لتعلم أن العيد يوم غد. فالمساجد ترفع التكبيرات بعد صلاة العشاء، والمصلون يبتهلون ملء القلوب لله بأن يرحمهم باجر الصيام، ومن لم يخرج زكاة الفطر بعد تراهم ينسلون إلى بيوت الفقراء والمحتاجين لإيفاء الفريضة.. وتتنوع التقاليد اليمنية المتبعة عشية العيد.. ففي العديد من مدن المناطق الوسطى جرت العادة أن يقوم الأطفال والفتيان بتحضير كميات من الرماد، ثم عجنها بقليل من النفط (القاز)، ليتم بعد ذلك نشرها على سطوح المنازل بشكل أكوام صغيرة أو داخل علب صغيرة فارغة وإشعالها، فتكتسي تلك المدن بحلة من المشاعل التي تخطف الأبصار بمشهدها الاحتفالي الجميل- خاصة وأن ذلك يرافقه إشعال الإطارات على قمم وسفوح الجبال.. وهو ما يسميه أهالي الحجرية وبعض مناطق تعز بـ(التنصير)، فيما يطلق عليه أهالي الضالع اسم (تهشيل). ولا يكون ذلك إلا بعد المغرب. وتشترك (الطاسة) في إحياء هذه الليلة، إذ يقوم البعض باستدعاء صاحب الطاسة، ليصعد إلى السطح، ويداوم على الضرب بالطاسة حتى تبدأ نيران المشاعل بالانحسار، ثم يُعطى له بعض المال أو العطايا الأخرى.. وأحياناً يقوم صاحب الطاسة بالدوران على البيوت والنقر على طاسته عند كل باب، فيمنحه الناس عطية ما، مقابل إدخال السرور لأنفسهم.. وفي الوقت الذي يتزاحم الرجال على صالونات الحلاقة في تلك الليلة، فإن النساء في البيوت ينشغلن بالحناء والخضاب، إذ يقمن بنقش الأيادي والأقدام بزخارف جميلة للغاية، باتت اليوم تغزو البلدان الغربية كآخر تقليعة.. كما تحرص الصبايا على وضع طلاء الأظافر في هذه الليلة أيضاً. كل شيء يجب أن يكون جاهزاً عشية العيد، وكل فرد لن يهدأ له بال حتى يتأكد أنه لم ينس شيئاً، ثم يقوم بتعليق ثيابه في مكان مرئي، وبالقرب منها بقية الحاجيات.. وحينها فقط سيكون بإمكان الجميع الخلود إلى النوم. **** أسفار العيد في ربوع اليمن جرت العادة في كثير من مناطق اليمن أن يتوافد الرجال من القرى الصغيرة إلى المدينة لصلاة العيد.. وعموما فالحدث يجتذب الأطفال أيضاً للاستعراض بثيابهم الزاهية، وللفوز ببعض الريالات التي يهبها الأقرباء والجيران بالمناسبة (عوادة) أو (عسب). بعد صلاة العيد يهنئ الجميع بعضهم البعض، وكان في مناطق معينة يتوجه الرجال إلى زيارة بعض الأولياء الصالحين مرددين الزوامل، ثم العودة لوجبة الفطور (الصبوح) لتبدأ بعدها جولة زيارة الأرحام، إذ يزاور الرجال أرحامهم من النساء، ويعطوهن بعض المال، في الوقت الذي ينهمك الأطفال بجولة مماثلة للأقارب والجيران، وكل بيت يزورونه يهبهم مبلغاً بسيطا، أو بعض الحلوى والزبيب وغيرها، فيعودوا مثقلين بالهبات. وفي يوم العيد لا تكف الطاسة عن الصدح بإيقاعاتها الجميلة التي تفتح شهية الرقص عند الرجال، شاهراً كلاً منهم الجمبية، محركين الأقدام بتناسق موزون كما لو أنهم تمرسوا عليه معا لشهور، وهو ما يسمونه بـ(البرع). ومن تقاليد بلاد السعيدة أيضا الخروج إلى الفضاء المفتوح، والرماية بالبنادق على هدف معلوم، يتم الاتفاق عليه (نصع).. وكان في السابق إطلاق الرصاص عشية العيد تقليداً متبعاً، إلا أنه اليوم أخذ بالانحسار. وفي منطقة (جبل حبيش) وربما مناطق أخرى، يتبع الأهالي تقليد بأن يجعلوا مجلس القات (التخزينة) في يوم العيد في بيت شخص يتيم، أو آخر من أقام عزاء الموت، أو شخص حزين لسبب ما، من أجل تطييب خاطره، وإدخال السرور في نفسه. كما داومت الكثير من المناطق على إقامة أمسيات (البالة)، التي يجتمع فيها الرجال بصفين، متكاتفي الأيادي، فيزجلون الشعر، وكل فريق يرد على نظيره. وغالبا ما تتناول هذه المساجلات الشعرية قضايا اجتماعية، أو هموم وطنية، ولا تخلو من الفكاهة والمرح أبداً.. وكانت قديماً في بلاد يافع وما جاورها تشترك النساء بصف نظير لصف الرجال، إلا أنه مع تقادم الزمان استقل كل فريق بنفسه، وما زالت حتى اليوم تقام أمسيات (البال) الرجالية والنسوية في (حمام يرهد) من بلاد يافع في الأعياد، وتستغرق من بعد صلاة العشاء حتى منتصف الليل. وفي صعدة والجوف، فإن الناس تخصص لكل يوم من أيام العيد مكاناً محدداً لزيارته في مواكب جماعية، ترافقهم الطاسة، والبرع، والزوامل. اما أهل البيضاء فيوزعون أيام العيد بين المدينة وثلاث قرى أخرى، وكل يوم يكون الاجتماع إلى أحدها، وإقامة احتفالية الرماية، والزوامل، والبرع، وتوزيع الأطعمة والمشروبات. في حين يجد أهالي عدن مهجتهم على شاطئ البحر، وزيارة الصهاريج وغيرها من المواقع التاريخية، مصطحبين معهم عوائلهم، وطعام الغذاء، ولوازم التسلية، والمرح. وتشهد بعض أرياف اليمن طقوسا مماثلة لتلك التي تقيمها المسارح الكوميدية الإغريقية، من خلال عروض (الطاهش) أو المهرج الذي يلبس القناع ويؤدي أدواراً بهلوانية بين الناس، تجعلهم غارقين في الضحك. ربما اختلفت بعض العادات في المدن في الوقت الحاضر، وبات لليمنيين حدائقاً، وملاهي، وحدائق حيوانات، ونادي فروسية، والعديد مما يستحق ارتياده، إلا أن ذلك كله لا يكاد يقارن بشيء مع الرغبة الجامحة في الخروج إلى الأودية، والغيول، وينابيع الماء، والقلاع، والحصون الأثرية، التي ظلت وحدها القادرة على ترجمة حجم تشبث اليمنيين بالأرض، والتاريخ، وأصالة الأجداد. حتماً أنه العيد الذي داوم طرق أبوابنا باكراً، عاود الكرة هذا العام ليتوج أفراحه في ربوع اليمن، ويطل من الشفق قائلاً: أيامكم سعيدة يا من حللتم ربوع بلاد السعيدة. [email protected] |