ملتقى صنعاءالـ2 قمة عربية شعرية مصغرة " ماذا أستطيع أن أقول عن صنعاء..؟ متوقفاً عن الابتهاج كنت.. ذابلاً فارقت أحلامي كإكليل زهر خلفه الأموات في المقابر.. مستسلما لفداحة الأحزان.. ما كنت أحسب أن صنعاء ستخرجني من حزني العربي.. ومن كآبتي العربية.. ومن قلقي الوجودي.. ما كنت أحسب أبداً أن تدخلني هذه الباذخة في جمالها.. إلى مملكة السحر.. وتعيد إليَّ صباحاتي الجميلة.. وتمنحني الجنسية الشعرية.. وتمنحني الهوية العاطفية.. وتتوجني سفيراً لكل عشاق العالم..". هكذا بلغة الشعر وسحر البيان عبَّر الشاعر التونسي، عادل مغيزي عن انطباعاته خلال مشاركته في ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب العرب الذي نظمته وزارة الثقافة اليمنية خلال الفترة (22- 26) إبريل الماضي، وشارك فيه قرابة (350) شاعراً وشاعرة من اليمن ومختلف الأقطار العربية. وفي الملتقى الذي حضره أيضاً نخبة من النقاد والمثقفين والمهتمين عاشت العاصمة صنعاء خمسة أيام شعرية مفعمة بكل معاني الحب، وأشكال الغزل ومصبوغة بكافة الألوان الشعرية المتعددة. محاولة انقلاب على الرواد وحول جدوى الملتقى يرى عادل مغيزي صاحب ديوان " أحبك حين أحبك" أن ملتقى صنعاء أتاح لهذا الكم الهائل من الشعراء العرب الشباب استكمال رؤاهم ونحت مرجعياتهم في محاولة لتغيير المشهد الشعري العربي وكسر تلك النمطية التي قال إن الشعر العربي وقع فيها منذ الرواد. وفيما اعتبر مغيزي ملتقى صنعاء للشعراء العرب منعطفاً تاريخياً هاماً في تاريخ الشعر العربي لفت أيضاً إلى أن جيل التسعينات من الشعراء الشباب مثل ظهورهم لحظة تاريخية فارقة وتحولاً كونياً جعل هؤلاء الشباب في حيرة من أمرهم".. فهم يحاولون كتابة شيء جديد، ما زال حتى النقد الأكاديمي لم يستوعبه ولم يؤطره". ويقول الشاعر التونسي إنه قبل هذا الملتقى لم يكن يعرف عن الشعر في اليمن غير عبدالله البردوني، وعبدالعزيز المقالح، فيما الآن أتاح له الملتقى التعرف على الشعر اليمني بمختلف تفرعاته وتجاربه. وأثناء انتقال الشاعر مغيزي من مقر فعاليات الملتقى بوسط العاصمة صنعاء إلى مقر الفندق الذي خصص لضيوف اليمن كتب مغيزي وهو يسترق النظر من نافذة الباص قصيدة انطباعية عن صنعاء ضبطنا بين أنامله المقطع التالي: " ما كنت أحسب أبداً.. أن تعيد إليَّ توازني، وتعيد العصافير إلى شفتيا.. وتعيد البحر إلى عينيا.. وتعيد إليَّ الفراشات.. ما كنت أحسب أن تغار الكلمات من الكلمات إلا عندما التقيتها ذات مساء وغازلتها ذات مساء.. وبايعتها البديلة الاستثنائية للحرية.. حتى خجل الليل من ظلمته.. وحتى انبلج الفجر .. طوبى لي بها.. وطوبى لها بي". ليست مهمة صعبة أن تستطلع رأي أي زائر لصنعاء.. فملامح اندهاشهم وعلامات سعادتهم دائماً ما تبدوا بوضوح على محياهم، لكن الأصعب من ذلك حينما يخالجك - وأنت تستمع لحديثهم – الإحساس في أننا لم نعط هذه الدرة النفيسة حقها. الفلاح: مشهد يمني زاخر واشتمل برنامج ملتقى صنعاء الثاني للشعراء العرب المنعقد خلال الفترة (22-26) إبريل 2006م على 10 جلسات شعرية و3 نقدية، وحفل تكريم للدكتور كمال أبو ديب؛ بالإضافة إلى أمسية فنية ورحلة سياحية إلى محافظة المحويت، هذا غير حفلي الافتتاح والتكريم الختامي. وليس بعيداً عن تونس، نلتقي الشاعرة والإعلامية خلود الفلاح من ليبيا التي أكدت أن ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب العرب أتاح لهم فرصة كبيرة للالتقاء والتعرف على تجارب شعراء يمنيين كانت تعرفهم أسماءً وصوراً فقط. وقالت" أطلعت على تجارب شعرية رائعة هنا في اليمن وذكرت منهم أحمد السلامي، نبيل سبيع وعلي المقري. وترى الشاعرة والإعلامية خلود الفلاح وصاحبة " بهجات مارقة 2004م" أن المشهد الثقافي في اليمن يزخر بالعديد من الإصدارات والأصوات وخاصة في قصيدة النثر. كما أنها تعتقد أن المشهد الثقافي - في اليمن - ومن خلال مثل هذه الملتقيات سيطوِّر من نفسه وتنمو مفرداته. وجمع ملتقى صنعاء كوكبة من الشعراء الشباب في الوطن العربي على اختلاف إيديولوجياتهم وتوجهاتهم الفكرية، حيث أفضى كل شاعر منهم بما جادت به قريحته الشعرية المتميزة دون خوف أو رقيب وهو ما مثل ظاهرةً فريدة انفردت بها صنعاء والحرية والديمقراطية، ويصعب أن تتكرر في بلد عربي آخر. الجرادي ظاهرة إيجابية ويرى الشاعر الباحث الدكتور إبراهيم الجرادي أن الملتقى بحد ذاته ظاهرة إيجابية تميزت هذا العام بالاحتفاء بالناقد كمال أبو ديب. وقال: " اعتدنا أن العواصم العربية لا تكرم شاعراً لشعره، ولا ناقداً لنقده؛ فدائماً ما تكون هناك عوامل مساعدة تجعل من هذا الناقد أو الكاتب محور التكريم.. وصنعاء تخلصت من هذه الشكليات فكرمت أبو ديب لجهوده. وعن تقييمه للمشهد الثقافي اليمني يشير الجرادي إلى انبهار العرب بالبردوني والمقالح من اليمن، لافتاً إلى أسماء أدبية جديدة تستطيع أن تفرض نفسها على الساحة الأدبية العربية ذكر منهم ( محمد حسين هيثم – أحمد العواضي – محيى الدين جرمه – هدى العطاس – هدى أبلان). ومن وجهة نظر نقدية لما قُرئ من شعر خلال الملتقى يشدد على ضرورة أن يَخِّفْ الانبهار بالتجارب التي لا تمثل واقع اليمن" يعني هناك تأثيرات لأدباء لبنانيين لهم وضع خاص فهناك تسمع عن البيانو والجينز في القصائد، وتسمع عناق مع المرأة وهذا ما لا يحتمله المجتمع اليمني فالمكان والزمان لا يسمح بهما هنا في اليمن". جائزة الزبيري ودعا الناقد الجرادي لاستحداث جائزة عربية للملتقى باسم الزبيري تجعل من صنعاء محور اهتمام الثقافة العربية ويرافقها دراسات نقدية عن صاحب الجائزة. ويقول إن هناك العشرات في سوريا نالوا الماجستير عن دراسات أدب البردوني والزبيري. ويأخذ الجرادي على الملتقى الثاني تكرار بعض مظاهر العام الماضي، وقصر الوقت المحدد لكل شاعر مفترضاً أن تتوزع نشاطات وفعاليات الملتقى على الجامعات وبعض المدن اليمنية الأخرى. وأصدرت وزارة الثقافة على هامش أيام الملتقى دليلاً تعريفياً بالسير الذاتية للمشاركين وضيوف الملتقى من اليمن ومختلف البلدان العربية، وذلك في كتاب تجاوزت محتوياته الـ200 صفحة، وعنون بـ(الينابيع تغدو نهراً)، وهي عبارة أخذت من تقديم الوزير والأديب اليمني خالد الرويشان للكتاب التعريفي، والتي قال في مستهلها بلغته المعهودة (مرة أخرى.. تعود نوارس الشعر الغريبة، المغتربة.. أصواتها تملأ الفضاء.. وتصفيق أجنحة شوقها ترتج له الآفاق). جرمه: الناس تصفق للقافية الشاعر اليمني محيى الدين جرمه يعتبر من جانبه الملتقى خطوة إيجابية تتحاور فيها التجارب الشعرية المختلفة لكنه يفترض وضع المعايير الفنية فيما يتعلق بعملية انتقاء المشاركات " فهناك جلسات أساءت للشعر وأصحابها حسب تعبيره. ويفترض جرمه وهو صاحب ديوان " صنعاء.. جيولوجيا شعرية " أن تتحول الجلسات النقدية إلى جلسات تقيميية للمشاركات في مختلف اتجاهات الشعر، ورغم أن أغلب ما قرئ في الملتقى من النثر هو في الحقيقة أشبه بقصائد نثر عمودية يؤكد أن أغلب الناس في القاعة صفقوا للقافية وليس للشعر. ويقترح الشاعر محمد خضر-المشارك من السعودية- أن تتحول بعض جلسات الملتقى إلى ورشات عمل أدبية وفنية لما فيها من الفائدة، متمنياً أن يكون هذا الملتقى علامة وبداية لظهور ملتقيات أخرى في دول عربية أخرى. ويقول (أنا مبهور حقيقةً.. وفوجئت بوجود تجارب يمنية كانت خفية علياَّ، وجود فكر جميل ووعي جديد). ويعتقد محمد خضر أن الجدل القائم بين التيارات الأدبية أو الفكرية يثري في حد ذاته المشهد الثقافي ولابد من وجود أفكار وأفكار متضادة أو متنافرة في نفس الوقت. ويضيف متحدثاً عن صنعاء الشعر والثقافة: (صنعاء دائماً لها حضور.. واحنا بنقول الحكمة يمانية، وأكيد ما دام الحكمة يمانية، فالشعر أحياناً بيكون يماني). وإلى المغرب حيث ترى الإعلامية منى وفيق أن الملتقى كان ناجحاً بكل المقاييس.. فمجرد جمع شمل هذا العدد الكبير من المبدعين العرب يشهد لصنعاء بالريادة وسبق عواصم عربية لا تذكر منى أن هناك وزارة ثقافة عربية تقوم بهذا الدور. ولدى منى رغبة جامحة في التعرف على مفردات المشهد الثقافي اليمني بشكل دقيق وهو ما أتيح لها من خلال الملتقى لتقول باختصار بأنه (لا بد من صنعاء..)". جمال وتفرد صنعاني وتعتبر الشاعرة والإعلامية الأردنية سميرة عوض ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب العرب بأنه مثل قمة عربية مصغرة رأسها الشعر، وأن مثل هذا الملتقى يدل على مقدار ما يحظى به الشباب هنا من دعم وخاصة الشعراء. وأعاد ملتقى صنعاء الثاني إلى الأذهان ما شهدته العاصمة اليمنية صنعاء العام 2004م حين توجت عاصمة للثقافة العربية من حراك ثقافي وفني تجسدت في مئات الإصدارات والمعارض التشكيلية والندوات الفكرية والأمسيات الفنية والمؤتمرات والملتقيات والأسابيع الثقافية والفنية العربية والأوروبية التي احتضنتها صنعاء في حوار (يمني-عربي- أوروبي)، تجاوز حدود الزمان والمكان وكشف عن ثراء إبداعي وزخم ثقافي يمني يتنوع ويتعدد باختلاف التضاريس اليمنية وتعدد السهول والوديان والجبال في عموم التراب اليمني وهو ما دفع بعض المسئولين عن الثقافة العربية حينها لإطلاق أمنياتهم ببقاء صنعاء عاصمة أبدية للثقافة العربية. وتقول رئيسية تحرير مجلة " أنت" وصاحبة ديوان " أبجدية القوس" 2001م إن الشيء الهام الذي لفت انتباهها في صنعاء ولا يمكن أن يمحى من خيالها هو لوحة المنازل الصنعانية الجميلة في صنعاء القديمة "البناء المعماري في صنعاء وهذا التفرد الجميل والفني بالتفاصيل.. الشبابيك.. الوحدة المعمارية.. لم أشاهدها في أي مكان في العالم..". وتعتقد أن الأهم في الصورة الكرنفالية والمرسومة لصنعاء هو الإنسان اليمني نفسه الذي قالت إنه استقبلهم بمحبة وأشعرهم وكأنهم في منازلهم وهو رأي مقارب لرأي السيدة ربيعة الناصر – ضيف شرف الملتقى في الأردن – والتي استغربت ما وصفته بالعدد الكبير لأنواع الفنون والتراث والرقص في اليمن، وتظن ربيعة في حديثها عن المشهد الثقافي اليمني أن أي زائر لليمن لا بد أن يتحول إلى شاعر. وذهلت ربيعة بالعمارة اليمنية حيث كانت ترغب للانتقال من الفندق إلى منزل قديم بصنعاء القديمة للبحث عن تفاصيل أزقة الحارات ونوافذ المنازل " كل هذه العمارة شاهدنا نحن العرب لأننا كنا أصحاب حضارة قبل كل الحضارات وأصحاب مدنية وخاصة في اليمن"، وقالت: أزعم من خلال ما قرأت عن اليمن وزيارة اليوم أن أول حياة مدنية بالعالم كله كانت في اليمن".. ورغم مآخذ البعض الشكلية على فعاليات ملتقى صنعاء الثاني يبقى ظاهرة ثقافية عربية فريدة، وملاذ آمن لمختلف الاتجاهات الشعرية، وصوت وجودي قادم لأجيال شعرية طالماً غيبها النسيان وتجاهلتها ملتقيات عربية عديدة، وفاتحة مبشرة بأن ثمة اتصال وتواصل بين جيل أدبي سابق يعترف بكهولته وجيل لاحق لا مبرر لصمته. |