موائد الرحمن .. شرعية أم دعائية؟! رمضان... شهر عبادة وعمل، وعلى الجانب الآخر سوق يزداد فيه العمل الاجتماعي والخيري، غير أن بعض هذه الأعمال بدأت في الآونة الأخيرة تأخذ شكلا من أشكال الدعاية، ولعل من أبرز الأعمال الخيرية الرمضانية الدعائية في كثير من الأحيان -إن جاز التعبير-؛ موائد الإفطار الرمضانية أو ما تعرف بموائد الرحمن والتي باتت سمة واضحة مميزة لمعظم الشوارع المصرية في الشهر الكريم. علامات تعجب كثيرة تحوم حول هذه الموائد -التي جذبت إليها العامة قبل الفقراء والمحتاجين- خاصة أنها أصبحت تصل إلى حد البذخ بل وصل الحال إلى أن العديد من موائد الرحمن الخاصة بالفنانين كانت تقدم دعما ماديا إلي جانب الوجبات الخمس نجوم. المشكلة ليست في الدعاية التي يهدف إليها بعض القائمين على أمر هذه الموائد فحسب ولكن في تشكك البعض من مصادر أموالها خاصة عندما يقوم بإعدادها بعضا ممن يشوب أموالهم شيء من الحرمة. استشارات رجال الدعاية أكدت أن موائد الرحمن إحدى أهم ركائز الدعاية لرجال الأعمال خاصة ممن يسعون لخوض الانتخابات البرلمانية أو المجالس المحلية، والدليل على ذلك تنافس بعض رجال الأعمال المسيحيين في إعداد الموائد وفرش المساجد بالسجاجيد؛ وهو ما جعل من موائد الرحمن مجالا خصبا للمنافسة بين الجميع؛ ففي إحدى المناطق وصل طول مائدة أحد رجال الأعمال إلى كيلومتر وبلغ عدد الوجبات بها 100 ألف وجبة في اليوم الواحد. لجنة موائد الرحمن د. عزة كريم أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة القاهرة أوضحت أن تطور أشكال موائد الرحمن من شكل يقوم به الفرد كنوع من الصدقة أو الزكاة أو التكافل إلى شكل مختلف تدخل فيه فئة الفنانين والراقصات ورجال الأعمال. تلك الفئات التي قد يكون حكم المجتمع عليها أنها خارجة عن الالتزام الديني والاجتماعي؛ وهو ما يؤثر على تغيير نظرة المجتمع تجاه هؤلاء الأشخاص شيئا فشيئا ويصبح هناك تقبل لما يقوم به هؤلاء الأشخاص يخلق نوعا من الارتباط بهم. وأشارت إلى أن مثل هذه الموائد ترسخ الطبقية في المجتمع حيث تتنوع الأطعمة بشكل مبالغ فيه أحيانا وهذا غير مطلوب؛ فموائد الرحمن مطلوب أن تأخذ شكلا معقولا وألا تشعر الفقير بفقره من خلال تقديم نوع من الأطعمة لا يراها الفقير إلا في رمضان فقط. ومنعا للتفاخر والمنافسة غير الشريفة في إقامة هذه الموائد اقترحت دكتورة عزة أن تكون هناك لجان تابعة للمساجد تحت إشراف وزارة الأوقاف والشئون الاجتماعية تقوم بتجميع هذه الأموال وإقامة موائد الرحمن؛ وهو ما سيحقق نوعا من العدالة في التوزيع حيث سيتم إقامتها في الأحياء الشعبية التي يكثر فيها المحتاجون لمثل هذه الموائد بدلاً من إقامتها في المناطق الراقية، وبذلك يتم استغلال الأموال المتبقية في أغراض أخرى مثل توفير العلاج لهم وملابس العيد. الأمور السابقة أكدت عليها إلا أنها خالفت دكتورة عزة الرأي في كون هذه الموائد بإمكانها التأثير على نظرة المجتمع للقائمين عليها، موضحة أن هذه الموائد ليس لها أي نوع من التأثير الاجتماعي؛ لأن رجل الشارع ليس بالسذاجة التي يتصور معها أن يغير رأيه في أي شخص يقوم بفعل منبوذ اجتماعيا لمجرد أنه عطف عليه. لا تضع اسمك ساحة مسجد الحسين وأشهر الموائد في مصر وإذا كان القيام بالدعاية هو الهدف الأساسي لهذه الموائد كما يؤكد د. صفوت العالم أستاذ الإعلام بكلية الإعلام جامعة القاهرة لتحسين صورة صاحبها الذهنية لدى المواطنين وتوضيح أنه يؤدي ما عليه من زكاة تجاه المجتمع ويخرج حق الفقير في هذه الأموال.. يرى الفنان شريف منير أن الوسيلة الوحيدة لتفادي هذه الصورة هو عدم وضع أحد لاسمه على مائدة الرحمن الخاصة به حتى لا يدخل إلى قلبه الرياء أو لا يقول أحد عنه إنه يقوم بالدعاية لنفسه؛ فمن المفترض أن يكون هذا العمل خالصا لوجه الله تعالى لله، مضيفا أن العلانية في مثل هذا النوع من الإنفاق إن وجدت يكون القصد منها أن يقتدي الآخرون. الأصل عدم التباهي من جهته يوضح د. محمد رأفت عثمان أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر أن الأصل في القربات عامة ألا يتباهى الإنسان بها؛ فلا تدفع الزكاة ليقال فلان يزكي من أمواله ولا يصلي الإنسان ليقال فلان يصلي؛ لأن العبادة إذا لم تكن خالصة لله فلا فائدة منها، ويبين ذلك قول الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ}، أما إذا كانت نية الشخص فعلا أن يقتدي به غيره في هذا العمل فهذا يجوز شرعا مع تحسب دخول نية المباهاة والتفاخر علي العمل. وينتقل د. رأفت عثمان للحديث عن موائد الرحمن، مشيرا إلى أنها زكاة يقدمها أصحابها؛ زكاة عن أموالهم و تقربا إلى الله عز وجل بالصدقات، إلا أنه توقف عند كون الزكاة لا بد أن تخرج بنية التقرب إلى الله عز وجل، وبما أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فلا بد أن يكون هذا المال حلالا، لكن بالنسبة للمآدب التي تقيمها بعض الشخصيات التي تتكسب عن طريق حرام كالراقصات مثلاً، فلا يمكن أن تكون قربة والوسيلة الوحيدة للتخلص من هذه الأموال الحرام هي التصدق أو إدخالها في الأعمال الخيرية بها فلا يجوز رميها في البحر، وإطعام الطعام وسيلة من وسائل التصدق. وردا على قول البعض بأن المال الحرام لا تقبل منه الزكاة أجاب دكتور عثمان أن المال الحرام يجب التخلص منه، وهنا يمكن أن يكون لصاحبي موائد الرحمن -مع أن أموالهم ليست نقية من الحرام- ثواب من الله عليها؛ لأن صاحب المال وصاحبته كان من الممكن أن يبقي عليه فإذا تخلص من بعضه عن طريق الزكاة فهو تخلص مما يجب أن يتخلص منه. تطهير الأموال أولى الشيخ جمال قطب الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر أوضح أنه يجوز للصائمين أن يأكلوا من هذه الموائد، خاصة أن الدولة لا توفر للمساكين مصادر لإطعامهم؛ فالمساجد لا تتوفر لها الإمكانيات لكي تقيم موائد للمساكين على هذا المستوي ولا يعقل أن نحرمهم من الأكل فيها، من أين سيأكلون إذا حرمناهم؟. أما الدكتور عبد اللطيف عامر أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة الزقازيق فقد اختلف بشكل واضح مع الدكتور محمد رأفت عثمان في كون هذه المآدب من الممكن أن تعود بالثواب على القائمين عليها، مشيرا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، ومضيفا أن امرأة سيئة السمعة عرضت صدقة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الأولي بها ألا تتصدق. ويؤكد على أن صاحب هذه الأموال إذا كان يريد أن يطهر أمواله، فعليه أن يتوب أولاً، ثم يوظفها في أي أعمال البر إن شاء، لكن إذا لم يترك عمله فما ينفقه لن يقبل. ويستطرد دكتور عبد اللطيف مختلفا أيضا مع الشيخ جمال قطب -الذي أباح تناول الطعام في هذه الموائد- قائلا: بالنظر لموائد الرحمن نجدها حاليا أصبحت ظاهرة اجتماعية، الغرض من معظمها التظاهر، فإذا عرفنا أيضا أن من يقيم هذه الموائد اكتسب أمواله من حرام فأحرى بالمسلم الذي عرف ذلك ألا يأكل خاصة مع وجود بديلها الحلال، فكل لحم نبت من حرام النار أولى به. الحكم بالمقاصد والمآلات أما مسعود صبري الباحث الشرعي بكلية دار العلوم فيرى أنه من الواجب ألا ننظر إلى تلك الموائد أنها تطعم الفقراء والعمال في الشوارع؛ فالحكم على الأفعال موقوف على مقصده وما يترتب عليه من مآلات، وتلك الموائد التي يقيمها من يخالفون في أعمالهم شرعا الله صراحة، سواء أكانوا من الفنانين والرقصات أو حتى رجال الأعمال المعروف عنهم الفساد، فمثل هذه الموائد لا يجوز أن نطلق عليها "موائد الرحمن"، بل هي أقرب إلى موائد الدعاية للفساد؛ لأن الراقصة تحاول أن تكسب عملها شرعية من خلال هذا العمل، وتتقرب إلى الناس به، فتنسي الناس حكم عملها، وتجعلهم يشاركونها أعمالها الفاسدة. ويشير صبري إلى خطر هذا على المجتمع أن يصبح المفسدون صالحين، وأن تتحول المفاهيم لأجل لقمة عيش هي مسمومة المقصد وإن كان ظاهرها أحلى من الشهد والعسل. ويرى صبري أن تلك الموائد دعاية أيضا لرجال الأعمال الذين يتحكمون في السلع، ويرهقون الناس ظلما وعدوانا بتحكمهم فيها، ثم بعد ذلك يضحكون على الناس بتلك الموائد في رمضان وكأنهم من أهل الصلاح، وهم أفسد ما يكون من خلق الله. ويخلص إلى أنه إن الظاهر أن مثل هذه الموائد لا بأس بإقامتها والطعام منها، إلا أنه نظرا لفقه المآلات فإنه لا يجوز إقامتها ولا يجوز الأكل منها، بل الواجب مقاطعتها، حتى يبقى الفساد فسادا والخير خيرا. أما الصالحون من رجال الأعمال الذين لم يعرف عنه غش أو تدليس والتزموا منهج الله تعالى في التجارة، فأولئك الأكل من طعامهم مباح، بل نحسبه طعام الصالحين. -------------------------------------------------------------------------------- ** من أسرة إسلام أون لاين.نت |