نموذج أميركي للجيوش العربية ؟ دخلت الخطة "الأمنية" التي أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش بأنها "عراقية" وبأنه يساندها بإرسال أكثر من واحد وعشرين ألف جندي أميركي لـ"فرض القانون" أولا في بغداد ثم في بقية العراق أسبوعها الثاني في أول عملية كبرى ل"الجيش العراقي الجديد" . وهذه فرصة لإستشراف ملامح نوع جديد من الجيوش العربية يحاول الإحتلال الأميركي إنشاءه بولادة قيصرية في القطر العراقي ، تشير معظم الدلائل إلى أنها لن تكون ناجحة ، ليكون نموذجا يجري تعميمه إن نجح في بقية الأقطار العربية . بداية لا بد من إيجاز لماهية "الجيش العراقي الجديد" ودوره وحجمه وعقيدته وبنيته وقيادته ، لكن لا بد أولا من تحفظ : فأي ناقد من خارج العراق حتى وإن كان عربيا ومهما بلغ حبه للعراق لا يمكن أن يكون عراقيا أكثر من العراقيين الذين جندهم الإحتلال بمئات الآلاف فتجندوا لدوافع كثيرة يمكن الجزم بأن خدمة الإحتلال هو في آخرها من الناحية الفردية بالرغم من أن خدمة الإحتلال في المحصلة الجمعية هي النتيجة المحتمة ، في الوضع الراهن في الأقل ، فقد ذكرتقرير للواشنطن بوست في 21 نوفمبر 2005 أن اكثر من 80% من ضباط الجيش الجديد وأغلبية مجنديه هم من ضباط وجنود الجيش الوطني الذي تاسس في السادس من كانون الثاني / يناير 1921 و حله الحاكم الإداري الأميركي الأول بعد الإحتلال بول بريمر في أيار / مايو 2003 . أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي أخر تشرين الأول / أكتوبر الماضي أن تعداد قوات الأمن العراقية بلغ 323.000 مدربا ومجهزا وتوقع أن يرتفع عديدهم إلى 355.000 ، منهم حوالي 140 ألفا في "الجيش العراقي الجديد" موزعين على تسع فرق منظمة في 91 كتيبة مشاة و 5 كتائب مشاة مؤللة و4 كتائب مصفحة وكتيبة شرطة عسكرية بالإضافة إلى 4 ألوية لقوات التدخل الخاصة لكل لواء منها ثلاثة كتائب . فإذا أضيف لعديد قوات الأمن العراقية هذه حوالي 140.000 جندي اميركي وأكثر من ثلاثين ألف من القوات الأجنبية المتحالفة معهم وعدد غير محدد من مسلحي أكثر من 30 مليشيا طائفية قادتها مشاركون في العملية السياسية التي انبثقت عنها الحكومة العراقية الحالية برعاية الإحتلال الأميركي ، ناهيك عن ما يزيد حسب التقديرات الغربية على 35 ألفا من المرتزقة من "ألمتعاقدين" مع "الشركات الأمنية" الأجنبية الخاصة فإن المجموع يزيد على 560 ألفا ، لم يستطيعوا منذ أربع سنوات "فرض القانون والنظام" في العاصمة العراقية ، ناهيك عن العراق كافة ، علما أن تعداد الجيش العراقي قبل الغزو ألأميركي سنة 2003 كان حوالي 420.000 ربعهم إحتياط يتم استدعاؤهم زمن الحرب . ولا مفر أمام أي مراقب محايد من أربع استنتاجات رئيسية يستخلصها من ذلك : أولا أن قوات الأمن العراقية والمحتلة ، الرسمية منها وغير الرسمية ، لا تحظى بثقة الشعب العراقي وتأييده ، أو بمن بقي منه على قيد الحياة في العراق إذ يكاد عديد الشهداء واللاجئين العراقيين إلى الخارج والمهجرين في الداخل والمعتقلين و"المقاومين" يعادل عديد من تروج دعاية الإحتلال أنهم شاركوا في إنتخاب الحكم الحالي أواخر عام 2005 ، مما يشكك فعلا في شرعية هذا الحكم . ثانيا أن المقاومة الوطنية التي استطاعت تحييد إجمالي تلك القوات وتعطيل الدور المناط بها والحيلولة دونها ودون "فرض" قانونها ونظامها ومنع حكومتها من الحكم لا بد وأن تكون قوات موازية يؤهلها دورها وموقعها في مواجهة الإحتلال ، غير مسلحة بغير السباحة في بحر الشعب لحمايتها وإمدادها ، للمطالبة بدور الجيش الوطني للعراق ، خصوصا وأن مخضرمي الجيش الوطني الذي حله الإحتلال هم عصبها ووقودها وسلاحها من سلاحه ، بغض النظر عن عديدها وأخطائها وتفرق فصائلها والحرب الدعائية والنفسية ضدها . ثالثا أن الجيش العراقي الجديد في عديده ودوافع مجنديه للإلتحاق به وكون أغلبيتهم من منتسبي القوات المسلحة الوطنية المحلولة مؤهل في قطاعات كبيرة منه للتعاون مع قوات المقاومة وللإلتحاق بجيشها الوطني في اللحظة المناسبة ، وهذا يقود إلى الإستنتاج التالي . رابعا أن تجربة السنوات الأربع الماضية من فشل قوات الأمن العراقية التي أنشأها الإحتلال ونجاح المقاومة الوطنية تؤشر إلى استحالة الحفاظ على وحدة هذه القوات فعوامل تفكيكها تزداد وتتعمق مثلها مثل أسباب ثقة الشعب بها بينما المقاومة تتعزز وتتسع عبر الطوائف والمذاهب والقوميات والمحافظات وتزداد ثقة الشعب بها وكذلك عوامل وحدتها في الوقت نفسه الذي بدأت تتخلص من شوائبها أو تبعد نفسها عن الممارسات التي اتخذ الإحتلال منها ذرائع للنيل من رصيدها الشعبي . ومما له دلالاته في هذا السياق التقرير الذي نشرته "مؤسسة جيمستاون" في العشرين من الشهر الجاري عن إنضمام فرق صوفية إلى المقاومة مثل القادرية التي أسست "كتائب الشيخ عبدالقادر الجيلاني" والنقشبندية التي أعلنت عن عمليات ضد قوات الإحتلال الأميركي . وحتى أواخر شهر تشرين الأول / أوكتوبر الماضي كان يوجد أربعة آلاف مسشار قتالي أميركي مندمجين في الوحدات العراقية ، التي ما زالت خاضعة لقيادة "القوات متعددة الجنسيات" ، وهي أميركية ، طبقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1511 الصادر في 16 أوكتوبر 2003 الذي أنشأ هذه القوات ، وليس من المتوقع أن ينتهي دور هؤلاء المستشارين في المدى المنظور حيث كل المؤشرات تدل على أن الإحتلال باق حتى تكنسه المقاومة ، فقادة الحكم العراقي "الجديد" ، خصوصا الأكراد منهم ،أعلنوا مطالبتهم ببقاء قواعد أميركية دائمة , وعديد من القادة العرب طالبوا ببقاء القوات الأميركية في العراق في الأمد المنظور بحجة منع تقسيمه والحيلولة دون إندلاع حرب أهلية فيه ، بينما تكاد واشنطن تنتهي من بناء أكبر سفارة اميركية في العالم في "المنطقة الخضراء" ببغداد ويجري التستر على خطط توقيع معاهدة دفاعية عراقية أميركية بانتظار تمرير قانون النفط والغاز العراقي الجديد كأولوية كما يجري التستر على تغلغل إسرائيلي يبدو أن هناك توافق غير معلن على التعتيم عليه . إن أي قوات عراقية تعمل ضمن هذا الإطار الإستراتيجي غير واعية أو تعمل واعية في خدمته تحتاج إلى تعريف سياسي وقانوني جديد لوصفها بالوطنية غير ما هو متعارف عليه حاليا للسيادة الوطنية في القوانين والأعراف الدولية . كما أن وصف قوات الأمن العراقية بما فيها "الجيش العراقي الجديد"بالوطنية لا يمكن إلا وأن يتحدد أيضا بالمهمة الأولى والرئيسية التي كانت تؤديها طوال السنوات الأربع الماضية كرديف لقوات الإحتلال تأتمر بأوامر قادته وتنفذ المهمات الي يحددها هؤلاء القادة والمتمثلة في إقتحام المدن العراقية ومحاصرتها وقصفها بالطيران ودكها بالمدفعية بحجة مقاومة "الإرهاب" المتسلل عبر الحدود الوطنية التي تركتها هذه القوات مفتوحة هي ومعابرها دون حراسة ، محملة دول الجوار المسؤولية عن حراستها ، بينما هي منشغلة في تطويق مدن العراق وقراه بالسواتر الترابية والحواجز العسكرية وتحويلها إلى سجون كبيرة لا يمكن الدخول إليها والخروج منها إلا عبر مداخل محددة مثل ألأكثر من 26 منفذا التي تكاد تخنق حاليا أكثر من خمسة ملايين مواطن في العاصمة بغداد . لقد أصدر بريمر أمره بإنشاء "الجيش العراقي الجديد" في السابع من آب / أغسطس 2003 كقوة محترفة غير مسيسة "للدفاع الذاتي الوطني عن مستقبل العراق الحر" . وإذا كانت "حرفية" و"عدم تسييس" الجيش العراقي ، بل أي جيش ، ليسا موضع جدل فإن إنشاء هذا الجيش كقوة "دفاعية" بمفهوم القادة السياسيين والعسكرييين للإحتلال بحاجة إلى وقفة لأن هؤلاء القادة في التطبيق العملياتي خلال السنوات الأربع المنصرمة قد وجهوا هذا الجيش إلى الداخل بدل توجيهه إلى درء المخاطر الخارجية وزجوه في معارك لا تتوقف ضد الشعب المفترص أن يدافع عنه . وإنها حقا لمفارقة مضحكة مبكية أن يدرس اطفال العراق في المستقبل القريب تاريخ السنوات الأولى لهذا الجيش كفتوحات لمدنهم وقراهم شملت فظائع التهجير الطائفي والعرقي والقتل على الهوية وسقط فيها آباءهم وأجدادهم وإخوانهم وأخواتهم وربما طفولتهم نفسها ضحية لها في حقبة غياب كامل للقانون والنظام كان هذا الجيش نفسه عنوانا لها ومشاركا أساسيا فيها ، من أجل تأسيس "العراق الفدرالي الديموقراطي الجديد" في ظل الإحتلال وبالتحالف معه . أما استبدال "العدو" الأجنبي والإسرائيلي وغيرهما من المخاطر الإقليمية المجربة والمحتملة ب"الإرهاب" كعقيدة جديدة للجيش الجديد فأمر يعد بتحويل هذا الجيش "المحترف" و "غير المسيس" إلى قوة ضاربة في الداخل فحسب لأن "الإرهاب" لم يتطور بعد إلى قوة جيوش جرارة يمكنها أن تمثل خطرا خارجيا عابرا للحدود ، ومن الناحية العملية يعد بتحوله إلى قوة قمعية مرتزقة للحفاظ على الأمن الداخلي خصوصا إذا ما طال أمد الإحتلال أو إذا تمكن هذا الإحتلال من ترسيخ نظام موال له يضمن مصالحه بقوانين نفطية وبمعاهدات "دفاعية" . ومن المعروف أن الإحتلال يستخدم مصطلح "الإرهاب" للإشارة إلى المقاومة المسلحة لوجوده . أما الإرهاب القادم من الخارج فإنه نوعان وكلاهما قدم مع الإحتلال ولم يكن موجودا قبله وكلاهما إرهاب طائفي ، أولهما دخل بالرغم من الإحتلال أو بغض النظر منه عندما ترك الحدود مفتوحة لينشغل بمواجة المقاومة الوطنية له في الداخل وثانيهما استقدمه الإحتلال الأميركي نفسه معه على ظهر دباباته أو بحمايتها ليتفشى كالفطر إلى أكثر من ثلاثين مليشيا طائفية مشاركة في "العملية السياسية" التي يرعاها الإحتلال ذاته . إن التقرير الذي نشرته النيويورك تايمز يوم 19 شباط / فبراير الجاري بعنوان "مشاكل قديمة تقوض الخطة الأمنية لبغداد" يكشف مدى إختراق هذه المليشيات ، وخصوصا الصدرية منها ، للجيش العراقي الجديد حيث كان الضباط العراقيون يتقدمون القوات الأميركية لتحذير السكان بإخفاء ما لديهم من أسلحة وما في بيوتهم من صور ومواد دعائية تدل على انتمائهم للمليشيات المتسترة بالمذهب الشيعي . وقد أحصى التقرير على سبيل المثال مرور أكثر من 150 سيارة دون تفتيش لم تفتح صناديق إلا ثلاثة منها خلال ساعة من الزمن على نقطة تفتيش عراقية في حي الكرادة ببغداد يوم 16 شباط . ثم إن "عراقية" الجيش الجديد الذي يقوم الآن بأكبر عملياته ل"فرض القانون" في العراق بدءا من "خطة أمن بغداد" يأتيها الشك من داخلها . فعلى سبيل المثال استقدم هذا الجيش إلى العاصمة لوائين من كردستان العراق من "البشمركة" الكردية المعبأة بعقيدة الإنفصال عن الوطن الأم والتي يرفض قادتها السياسيون وصفها بالمليشيا والتي يرفضون أيضا توصيف دورها بدور "الطابور الخامس" خلال الحرب مع إيران وكذلك خلال الغزو الأميركي مما دفع الحكومة المركزية إلى عمليات عسكرية كبيرة لتحييد هذا الدور مما تسبب بدوره في مآس كبيرة لمواطنيهم العراقيين الأكراد . وإذا كان عدم معرفة جنود هذين اللوائين باللغة العربية نتيجة لمنع تعليمها في كردستان العراق منذ إنفصالها عن المركز بحماية أميركية عام 1991 عقبة يمكن التغلب عليها فإن المراقب لا يسعه إلا أن يتساءل عن العلم الذي يرفعه اللواءان وهل هو العلم الوطني نفسه الذي يرفعه الجيش العراقي الجديد ، وهو بالمناسبة العلم الذي يرفضه قادة "الفدرالية" الكردية في الشمال العراقي ! ثم لا مناص من التساؤل أيضا عما إذا كان أولئك القادة أنفسهم سوف يسمحون للجيش الجديد بإرسال وحداته إلى فدراليتهم إذا اقتضت الضرورة ل"فرض القانون" فيها ، وكانوا قد أعلنوا رفضهم لذلك من حيث المبدأ ، أم أنهم سوف يأمرون نفس اللوائين بمقاومة ذلك بالقوة ؟ والملاحظ أن قوات الأمن العراقية بما فيها الجيش الجديد محصنة ضد الملاحقة القانونية مثلها مثل القوات الأميركية . ويكفي هنا الإستشهاد بمثالين الأول القضية الي رفعتها أمام المحاكم الأميركية زوجة وابن المواطن الأميركي من أصل أردني شوقي أحمد عمر ، 45 سنة ، في عام 2004 لمنع تسليمه إلى المحاكم العراقية بعد إعتقاله لأكثر من سنة دون توجيه تهمة له أو السماح له بمشورة قانونية بحجة أن القوات الأميركية التي احتجزته في العراق ليست خاضعة للقوانين الأميركية كونها تعمل ضمن "متعددة الجنسيات" هناك طبقا لقرارات مجلس الأمن الدولي ! ومن المعروف أن الولايات المتحدة رفضت التوقيع على المواثيق والإتفاقيات الدولية الخاصة بالتعذيب والمحكمة الجنائية الدولية ولجأت إلى توقيع إتفاقيات ثنائية مع الدول لمنع تطبيقها على جنودها حماية لهم من الملاحقة طبقا لها . والمثال الثاني قضية السيدة العراقية صابرين الجنابي التي كشفت بدورها حجم حالات الإغتصاب التي يرتكبها المجندون في "قوات الأمن العراقية" والتي تعد بالآلاف طبقا للشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين والتي وثق عضو في البرلمان العراقي ، "الجديد" أكثر من ستين حالة منها . فقد تبين الآن أن "الجيش العراقي الجديد" ما زال دون أي نظام قضائي للجزاءات العسكرية ، بالرغم من قانون الإنضباط العسكري الذي أصدره بريمر في 7 آب / أغسطس 2003 ، مما يفتح الأبواب على مصاريعها أمام المأمورين وآمريهم لعصيان أوامر قادتهم ولإرتكاب المخالفات والإنتهاكلت دون رادع ، وكان الرقيب في الجيش الأميركي المحتل بول إي كورتز قد ارتكب معصية مماثلة و قضت محكمة أميركية مؤخرا بسجنه لمدة مئة عام لإدانته بالإغتصاب الجماعي لقاصرة عراقية ثم قتلها هي وأسرتها . فهل هذا هو العراق الجديد الذي يراد للجيش الجديد توليده قيصريا وهل هذه هي مواصفات النموذج الأميركي للجيوش العربية الذي تسعى واشنطن إلى استكماله في العراق قبل تعميمه عربيا ؟ إن "توطين" الجيش العراقي الجديد أمر ممكن من الناحية النظرية لكن من الناحية العملية يكاد يكون توطينه بمعنى تحويله إلى جيش وطني أمرا مستحيلا لأن ذلك يشمل إما عملية سياسية شاملة تقتضي تغيير عقيدته وقانونه وقيادته ودوره فيما يوازي حله وإعادة بنائه من جديد وإما قيام "الأحرار" فيه بإنقلاب يؤدي المهمة نفسها ، ولا يعني "التوطين" هنا طبعا "تسييس" جيش لم يكن في معظم تاريخه إلا قوة محترفة غير مسيسة لكنها وطنية لم تتردد يوما في أداء مهمات قومية دفاعا عن الوطن العراقي أولا ضد مخاطر استراتيجية . |