الحوار رغبة جماعية من يتحدث عن الديمقراطية ينبغي أن يكون محاوراً جيداً، لأن الحوار هو مرتكز العملية الديمقراطية، وبغير الإيمان به لن يتكون هناك أية ديمقراطية، ولن يكون هناك أمن وسلام واستقرار – حيث أن غيابه يعني حضور لغة العنف.. واليوم حين تلتقي الأحزاب اليمنية على طاولة الحوار، فإن الحالة ليست عودة إليه إذ أنه أصلاً لم يبرح ثقافة الإنسان اليمني، بقدر ما هو استئناف، أو تفعيل له.. الحوار مترسخ في ثقافة الشعب اليمني منذ القديم، حيث إنه كان الرديف لطلب ملكة سبأ من وزرائها أن يشيروا عليها بما تفعل إزاء الرسالة التي وصلتها من نبي الله سليمان- عليه السلام- والمشورة بحد ذاتها تعني تبادل الرأي. ولو تحدثنا عن تجارب عاشها جيلنا لو جدنا أن عهد الأخ الرئيس علي عبدالله صالح لم يكن سيكتب له الاستمرار لولا إيمان الرئيس بالحوار ورهانه عليه كخيار وحيد لتحقيق الوحدة الوطنية، وإسقاط رهانات العنف والتناحر. ففي مايو 1980م شكل الأخ الرئيس لجنة حوار وطني مؤلفة من ( 51) عضواً تمثل مختلف شرائح المجتمع اليمني وقواه الوطنية- بما في ذلك بعض القوى التي كانت تحمل السلاح في معارضتها لحكمه فكانت هذه اللجنة هي اللبنة الأولى في رهان الوحدة الوطنية، كونها كانت مكلفة بصياغة مشروع ميثاق وطني يحدد ثوابت الفكر الوطني التي تُلزم الجميع باحترامها والعمل بموجبها، ومنها التأم شمل القوى الوطنية تحت مظلة المؤتمر الشعبي العام في (24-29 أغسطس 1982) باختلاف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية. وبعد ذلك وجدنا أن ثقافة الحوار تحولت إلى أرضية تفاهم وتقارب الشطرين باتجاه مشروع الوحدة اليمنية، حتى تم الإعلان عن إعادة تحقيق الوحدة اليمنية المباركة في 22 مايو 1990، وانتقلت البلاد إلى التعددية والديمقراطية التي أصبح الحوار فيها هو صمام الأمان الذي يحافظ على مسافة آمنة بين الجميع في التباينات والاشكاليات التي تطرأ بين أطراف العملية الديمقراطية. ولم يكن الحوار رهان الداخل وحده، بل الخارج أيضاً، حيث أن ترسيم الحدود مع الشقيقة عمان أو الشقيقة السعودية أتى ثماره بفضل الحوار الإيجابي؛ كذلك عندما أسيء فهم الموقف اليمني من حرب الخليج الثانية، وتم فرض حصار شديد على اليمن- اقتربت من صفة العزلة الدولية- لجأت القيادة السياسية إلى مهارتها في الحوار الذي نجح في كسر الطوق وعودة اليمن إلى المسرح الدولي.. كما إن تجربة الحوار اليمني مع العناصر المتطرفة أو المشتبه بتورطها في أعمال إرهابية، والتي قادها القاضي حمود الهتار أذهلت العالم في نجاحها بإعادة هؤلاء إلى جادة الصواب والفضيلة، وكثير من الدول المتقدمة وجهت دعوات للقاضي الهتار لشرح التجربة اليمنية. هناك أمثلة كثيرة تُبرز الكيفية التي حل بها اليمنيون أصعب مشاكلهم بفضل إيمانهم بالحوار..وهو الأمر الذي يجب أن يجعلنا متفائلين بأي دعوات للحوار بين الأحزاب والتنظيمات السياسية الوطنية ، وبأي لقاء يجمعها على أساسه ، مادام ذلك ينطلق من ثقة وإيمان به ، ومنطلقاً من نوايا مخلصة لدى جميع الأطراف المتحاورة ، وليس على أساس مجرد الاستكشاف ، أو المحاولة؛ خاصة عندما يكون الوطن يمر بظروف وتحديات داخلية وخارجية خطيرة لا تحتمل الاجتهاد الخاطئ والتسويف بالوقت ، أو استغلاله لتسويق شعارات سياسية معينة..! لا شك أن قبول أو رفض الحوار هو أمر مرهون بمستوى الوعي السياسي، وحجم الثقة بوسائل الديمقراطية ..وفي اليمن يضاف إلى ذلك عمق رسوخ قضية الحوار في الثقافة الوطنية لأبناء شعبنا- حيث إننا جميعاً نعرف أن الحوار موجود بقوة أيضاً- في أعراف القبيلة اليمنية. ولعل من الأهمية بمكان أن تُقْدِمَ مختلف الأطراف على الحوار وهي تضع في أجندتها أفقاً عريضاً ومفتوحاً من الحوار ، لأن الإيمان المسبق بأن الحوار سيبقى مفتوحاً بقوة، يعزز من حريات تداول الرأي ، ويوسع من خياراتها بما يمكنها من التوصل إلى صيغة اتفاق مثالية تخدم المصالح العليا للوطن وأبنائه. كما إن الحوار لا يعني أن تخوض الأطراف المختلفة جدلاً ، وكل منهم يضع لنفسه خطوطاً حمراء يرفض الخوض فيها- غير الخطوط التي هي محل إجماع الكل بكونها ثوابت وطنية غير خاضعة للنقاش..بل ينبغي العمل بشفافية كبيرة، والتعاطي مع القضايا المطروحة بصدر رحب ، وحسن نوايا، وصراحة ، ومصداقية ، وبضمير حي يضع مصالح الجماهير اليمنية فوق كل الاعتبارات والحسابات الأخرى. إن تجاربنا الوطنية السابقة تؤكد أن موضوع الحوار هو رغبة جماعية موجودة لدى كل القوى السياسية,, وأن الوعي بأهميته هو ثقافة متأصلة في سلوكيات شعبنا، وإن ما يسعى إليه الجميع- اليوم – هو بمثابة جهد محسوب للجميع يصب في طريق ترسيخ الوحدة الوطنية ، وحماية المكتسبات التاريخية التي تحققت لبلدنا الغالي.. |