فن إدارة الأزمات: النموذج العماني أصبحت إدارة الأزمات فناً وعلماً قائماً بذاته، وقد تطور نتيجة تطور الخبرات البشرية، وتراكم عبر آلاف السنين خلال الكوارث من الزلازل والبراكين والحرائق والأعاصير والطوفان والسيول والفيضانات وغيرها. صحيح أن الكوارث تحل بالدول من حيث لا تحتسب، ولكن الصحيح والثابت عبر الأرقام والحقائق أن الدول التي تحتاط وتتهيأ وتستعد للكوارث قبل وقوعها، يمكن أن تخفف من آثار تلك الكوارث والمصائب الطبيعية. وقد رأينا كيف أن أكبر الكوارث الطبيعية تحل بالدول المتقدمة، وغالباً ما تكون خسائرها -وبالذات البشرية- متدنية نسبياً. بينما نرى بعض الكوارث التي يمكن التخفيف من آثارها تعصف بالدول غير المتهيئة وغير المستعدة للتعامل مع مصائب الدنيا. إعصار "جونو" الذي ضرب سلطنة عُمان قبل أيام وامتد -وإن بدرجات أقل إلى إيران- خلف قتلى ومفقودين ودماراً هائلاً لم تحصر نتائجه بشكل كامل، وعلى الرغم من أن فقدان إنسان واحد هو خسارة كبرى، إلا أن الأكيد أن الخسائر في الأرواح في عمان أقل مما توقعه الكثيرون لأسباب عدة أهمها الاحتياط المبكر للإعصار من قبل السلطنة، والطريقة التي أدارت بها الأزمة. قدرت المصادر أن ما بين 49 قتيلاً و27 مفقوداً كانت نتائج الإعصار في الخسائر بين البشر، وهذه أرقام متدنية إذا ما قورنت بما يخلفه إعصار مشابه بدول أخرى. وهي أرقام متواضعة مقارنة بما كانت الفيضانات في السابق تخلف من القتلى والغرقى والمفقودين في عمان نفسها. يذكر أن صلالة القديمة اختفت بفعل طوفان البحر. كانت معدات الرصد الجوية في السابق متخلفة مقارنة بمعدات عالم اليوم، والتي تستطيع التنبؤ بالطقس والمناخ والكوارث الطبيعية قبل وقوعها بدرجات عالية من الدقة تزداد دقة بتطور العلم في هذا المجال. من أهم عناصر التعامل مع الأزمات، الاستعداد المبكر، وجمع المعلومات، والثقة في القدرة على تجاوز الأزمة، والشفافية في التعامل مع الحدث. كان الإعلام العماني متفوقاً على نفسه بمتابعته المباشرة للحدث، وكانت صور الطوفان والفيضانات تنقل حية للمواطنين والمقيمين، والتعامل المباشر عنصر مهم من عناصر إشاعة الطمأنينة وانعكاس للثقة بالقدرة على التعامل مع الأزمة. كما أنه يقطع دابر الإشاعات ويمسك بزمام المبادرة ويسيطر على المعلومة ليبثها للناس بدلاً من تركهم نهباً لوكالات "يقولون" للأنباء التي غالباً ما تثير الرعب والهلع، وتخلق حالة من الفوضى تتسبب بزيادة النتائج الوخيمة للكارثة. أدار العمانيون أزمتهم بكل ثقة واقتدار، وراحوا بعد الكارثة يعدون قتلاهم ومفقوديهم ويحصون خسائرهم التي قدرت بالمليارات. وقد حظيت عُمان بتعاطف المجتمع الدولي، والبشر بطبيعتهم متعاطفون مع إخوتهم في الإنسانية وقت الكوارث، فرأينا أميركا تتجاوز خلافها مع إيران وتساعد في عمليات الإنقاذ والإغاثة في أعقاب زلزال "بام"، ورأينا العالم يتسابق لمساعدة إندونيسيا وتايلند وسيريلانكا بعد "تسونامي" في "فزعة" إنسانية تثير الأمل بمستقبل البشرية متى ما تعاونت. بل إن أميركا نفسها تلقت من الكويت وحدها نصف بليون دولار من المساعدات لضحايا إعصار كاترينا الذي ضرب مدينة نيوأورليانز. العمانيون رفضوا المساعدات الخارجية، وبدأوا بجمع المساعدات من المواطنين والمقيمين في السلطنة فقط، وهذا القرار يعكس الحالة الجيدة التي يعيشها الاقتصاد العماني، ويعكس عزة النفس والأنفة العمانية برفض المساعدات لأنهم ليسوا بحاجة إليها، لكن القرار أحدث غصة في نفوس كثيرين في العالم وبالذات العربي وتحديداً الخليجي منه، الذي أراد أن يعبر عن تضامنه ومؤازرته لعمان في محنتها وهي التي لم تتردد يوماً بإغاثة ملهوف.. قدمت عُمان في إدارتها لأزمة "جونو" نموذجاً في المسؤولية، وفي القدرة على التعامل مع الأزمات سيحتذى مستقبلاً من قبل آخرين. *الاتحاد الاماراتية |