|
خليفته (شوقي) أبدع الصنعة بعده..(الزغير).. نغم العود الساحر
بالتأكيد جلسوا على كرسي خشبي صغير بقوائم معدنية، كان علي أن أجلس مثلهم لكن لأكثر من ساعتين. يفصل بيني وبين شوقي طاولة خشبية مثبته يشغلني أمر بطاريات آلة التسجيل ويشغله عود كان يكشط حوافه بهدوء وإمعان . يحدثني شوقي عبده الزغير عن والده الذي توفي العام 2003م؛ فقد فتح هذا المحل مطلع التسعينيات بعد أن ظلت مهنته الأساسية، التي امتدت على مدى نصف قرن، ابتدأت من مدينة عدن وبعدها انتقل إلى مدينة تعز التي فتح فيها معملاً فنياً لصناعة آلة العود إلى جانب صيانة العديد من الآلات الموسيقية قبل انتقاله إلى صنعاء . كان عبده الزغير صاحب مهارات متعددة في كثير من المجالات الفنية مثل تشكيل الزجاج للسيارات وكذلك فن النحت على الخشب البرونز ، الجبس النحاس في وقت لم يكن لتلك الفنون وجود في اليمن، الأمر الذي يتأكد بصناعة (16) تمثالاً للرئيس السابق القاضي عبد الرحمن الإرياني خلال (5) أيام كما أتقن الفن التشكيلي والنحت. ومن أصدقائه القدامى هاشم علي الفنان التشكيلي البارز والفنان عبد الجبار نعمان وغيرهما . لا يعرف الكثيرون أن عبده الزغير درس الموسيقى وصناعة العود في القاهرة على نفقته الخاصة مطلع ستينات القرن الماضي وهي التي ساهمت في تشكيل التجربة الإبداعية لدى الرجل . هو المغرم لذا لم يترك العود. التجأ إلى صناعته واحتراف ضبط نغماته ليتجه ولده شوقي إلى ذات المهنة فكان رفيقه العود منذ نعومة أظافره ، وتلقى المهارات سواء في صناعة العود أو معرفة أسرار طبقات الصوت لدى الفنانين وما يناسبهم في صناعة العود مع تلك الطبقات وهو حالياً الصانع الوحيد للعود في اليمن كما يؤكد . أول عود صنعه الزغير الأب وباعه كان في العام 1963م في تعز وباع هذا العود بقيمة (40) ريالاً جمهورياً لفنان لم يشتهر كثيراً كان أسمه ( قائد أحمد علي ) . يعد عبده الزغير أحد رموز صناعة العود في العالم العربي حيث يقف في المقدمة إلى جانب محمد فاضل في العراق ، وعلي خليفة في سوريا ، ولهذا ليس غريباً أن ظل مقصداً للفنانين الكبار خلال نصف قرن ممن أثروا الأغنية اليمنية . (25) ألف عود .. هذا الرقم يثير الانتباه قليلاً .. أليس كذلك ؟ ذلك الكشف يظهر اسم أيوب طارش بشكل متكرر فعيدانه تمر دوماً للصيانة هنا بالرغم أنه تعلم هندسة العود في وقت سابق عند عبده الزغير ولا يزال يذكر ذلك في مقابلاته بأنه كان يهوى الخط العربي وإصلاح الآلات الموسيقية بعد أن علمني الأستاذ الفنان عبده الزغير إصلاح الآلات الموسيقية . في حديث أيوب ظهرت معلومة مهمة عن الزغير كلمة الفنان .. بالطبع فالزغير كان فناناً وملحناً ويوجد له أغانٍ عدة مسجلة لدى إذاعات تعز ، صنعاء ، عدن ، وجيبوتي أيضاً أبرز تلك الأغاني ( ساعي البريد ، لا تذكريني بهواك ،طير السلام ) كما أقام عدة حفلات في عدن ، وتعز وجيبوتي . كشف الزبائن الجديد طبعاً يضم أسماء كثيرة لمن يترددون على المحل لكن تكرار أسم أيوب كان ملفتاً، فأكد لنا شوقي أنه يملك أعواد كثيرة قد تصل إلى قرابة الخمسة عشر عود .. أيوب مغرم بالأعواد يقول شوقي ويشير إلى صورة لأيوب محملاً بثلاثة عيدان ، كذلك الفنان فؤاد الكبسي يظهر اسمه بتكرار ملفت إضافة إلى اسم الفنان محمد مرشد ناجي وغيره وأبرزهم محمد عطروش ، الحارثي ، فيصل علوي ، الأخفش ، حمود الجنيد ، عبد الباسط عبسي ، علي الخضر ، أحمد الخضر ، إضافة إلى أسماء كثيرة من الفنانين الشبان والشابان لا يتسع حصرهم، مرت أعوادهم على أيدي عبده الزغير سابقاً وولده شوقي حالياً . تربط الفنانين بالزغير الأب علاقة ود كبيرة وكان يشعر بجمال الأغنيات الرائعة. ينقل عنه شوقي إشادته بأغانٍ محددة كزفة أيوب والحب والبن للآنسي والبالة للسمة، لكن علاقة خاصة كانت تجمعه مع أيوب وهو أمر جعل أيوب يتحدث عنه بألم . كلما مررت على هذا المكان أشعر بغصة في حلقي.. أيوب يحدث شوقي ويشير إلى عنقه . يؤمن شوقي بأن من يعمل في صناعة العود يجب أن يكون عازفاً ماهراً، وشوقي مجيد للعزف كوالده وعلى هذا الأساس تعلم شوقي من والده أن العود يحتاج إلى ضبط لا يجيده سوى قلة. فالخشب ليس الأهم بل الأهم ضبط التفاصيل والأسرار للصوت فالأعواد الجديدة التي يتم شراؤها من الخارج تأتي كخزائن الثياب ليس فيها أصوات جيدة وهي بحاجة إلى تحسينات عدة للصوت وإبرازه كما يقول شوقي .. فهناك أعواد راقية وممتازة وتصل أسعارها إلى مبالغ كبيرة لكن يشوبها بعض العيوب التي تؤثر سلباً على الصوت لكن بخبرتنا نعمل على إصلاح وتحسين كافة العيوب وإبراز الصوت بإتقان . يضيف: أي شخص يأخذ عوداً من الخارج مثلاُ لا بد له من المرور على المحل إما بعد شرائه أو بعد أشهر وذلك بغرض التحسين في صوت العود أو الترميم المهم أنه يمر علينا . ويتحدث عن فلسفة والده في صناعة العود حيث وصل إلى مرحلة لا يهمه فيها نوعيه الخشب لأن قاعدته أصبحت كل شيء بيد الصانع . شهادات وتوقيعات وإشادات من يمنيين وأجانب يحتفظ بها شوقي لوالده، منها شهادات لباحثين أجانب أحدهم باحث ألماني جلس إلى والده (16) ساعة يتحدث معه عن صناعة العود، وضم ذلك في رسالة دكتوراه له عن الموسيقى في اليمن . تاريخ طويل يلف حياة الزغير .. إنه الرجل الذي كان ضمن اللجنة التي قامت بحصر المتحف الوطني بعد الثورة بأيام ، بقية أعضاء اللجنة: القاضي الإرياني وعبد الغني مطهر وعبد الملك سالم وغيرهم . حسب ما عرفه عن والده يقول شوقي: إن أكثر ما يثير غضبه هو أن يقوم بصناعة عود ويتعب فيه لشخص يأتي بعد فترة وقد كسره أو أتلفه .. هذا الأمر جعله يفكر بشكل جاد قبل أن يقوم بالبيع بل كان يختبر الأشخاص الذين يريد أن يبيعهم ، وإذا ما رأى أحداً غير مهتم بالعود يبيعه عوداً صناعته خارجية . تحظى الأعواد التي صنعها عبده الزغير والتي يصنعها ولده شوقي بإقبال من الأجانب والسياح كونها تحمل طابعاً مميزاً تختلف عن بقية الصناعات الأخرى كالنقوش والتفاصيل التي تعبر عن أصالة العود اليمني. وبحسب إفادة شوقي فإن كثيراً من السياح يفضلون اقتناء آلة العود التي من صناعتنا ولذا نحاول دائماً أن نمنح العود اليمني خصوصية وأصالة تميزه عن أي عود عربي آخر . |