سـَلام الكـويت لا تكتبه أقـلام صفراء ربما هي عقدة الإفلاس الفكري التي تثير حماس بعض وسائل الإعلام لمحاكاة دور السياسي المتحذلق بكل الخفايا والأسرار، حتى يخيل للمرء أنه رجل النخبة المحترفة إدارة صولات المعارك السياسية من على أعمدة الصحف والمجلات، وهو أقوى المضاربين في سوق الإعلام التجاري ومحاور الجدل الساخن من غير أن تراوده ظنون كونه يساوم على قضية وطن، ومستقبل أمة تخنقها الخطوب المريرة من كل صوب. لا شك أن الأقلام التي أدمت أناملها في لف حبالها الصفراء على عنق العلاقات اليمنية- الكويتية تدرك جيداً حقيقة الدور الذي تلعبه، وخلفيات توقيتاتها الدقيقة للظرف الراهن من تاريخ الدولة الكويتية، وتعي تماماً مفردات ما تصبوا بلوغه في آخر الأمر. حيث أن طبيعة ما تروجه تلك الأقلام لا ينم عن غباء، أو سبق صحفي بقدر ما يمكن وصفه بالمادة المقننة، والخطاب السياسي الموجه بعناية لتفجير موجات حقد وضغينة بين شعبي اليمن والكويت، وانتزاع فرص الأمن والسلام التي لطالما ظل الكويتيون بأمس الحاجة للخلود إليها منذ الغزو العراقي لبلدهم وحتى لحظة الخلاص النهائي من النظام المتسبب بمعاناتهم الكبيرة. فدولة الكويت – من جهة نظري- انتقلت بعد التحرير إلى واقع جديد ومختلف تماماً عما عهدته من قبل ، إذ آلت المؤسسة السياسية الكويتية إلى تبنّي مناهج عمل نوعية تعزز من سيادتها الوطنية أولاً، ثم تضعها على طريق البناء المؤسسي العصري لأدوات الحكم، بما يملي من ضرورات للتحول الديمقراطي والمشاركة الشعبية في إدارة السلطة. وبكل تأكيد أن تبني تلك الخيارات الكبيرة من شأنه مضاعفة الثقل السياسي للدولة إقليمياً ودولياً، ويوسع من مدى رقعة تأثيرها في مجلس التعاون الخليجي أولاً، ثم في أي استراتيجيات قومية سواء على الصعيد الأمني أم الاقتصادي أم غيره.. وربما يمكننا القول أن الشخصية الكويتية الجديدة بالملامح التي ذكرناها قد وضعت قدميها فعلا على أرض الواقع- ولو بقدر محدود- وبشيء من الثقة بالنفس في القدرة على إحداث نقلات نوعية مستقبلاً. لكن يبدو لي أن هذا التوجه الجديد يثير بعض التحفظات عند قوى أقليمية محددة خشية تنامي التأثير الكويتي خاصة في ظل توقعات تنامي علاقة مطردة مع العراق (ما بعد صدام) لاعتبارات تتعلق بالدور الكويتي في إزاحة نظام الرئيس السابق صدام حسين.. وهو الأمر الذي سيكسب الكويت عمقاً استراتيجيا في غاية الأهمية يؤهلها للعب أدوار ثنائية كبيرة برفقة الحليف الجديد، قد تطغي بعض الشيء على بعض علاقاتها السابقة. ومن هذا الموضع نستطيع أن نستشف حقيقة ما ترمي إليه الحملة الإعلامية الضارية التي تروج لفتنها بعض وسائل الإعلام التي يغلب الظن أن بعضها تحركه أياد سياسية خارجية معنية بمستقبل علاقات البلدين. وفي الحقيقة أن ارتباط دولة الكويت بعلاقات وثيقة مع كل من العراق واليمن في آن واحد قد يهيأ للكويتيين موازنات استراتيجية نوعية إذا ما حسبنا ذلك في إطار أفقه الزمني المستقبلي حيث أن الموقف الكويتي في مجلس تعاون دول الخليج العربي سيحضى بتنسيق وتعزيز من قبل طرفين آخرين وهما العراق واليمن- الذي من المؤمل حصولهما على عضوية كاملة في المجلس، بالإضافة إلى ذلك فإن بمقدور الكويت الاستفادة من القوى البشرية في هذين البلدين سواء على صعيد النشاط التنموي الاقتصادي أو النشاط الدفاعي العسكري والأمني وهو أمر ينسجم مع دراسات استراتيجية لمجلس الأمة الكويتي رفعت توصيات بالعمل على الحد من العمالة الأجنبية والتفكير ببدائل عربية.علاوة على انسجام ذلك مع البرامج التنموية للكويت. إن هذين البلدين (العراق واليمن) بحكم كثافتهما البشرية وظروفها الاقتصادية الاستثنائية المعروفة يمكن أن يتحولان إلى سوق استهلاكية جيدة للمنتجات الكويتية في ظل وجود رغبة حكومية بتوسيع أنشطتها الصناعية الإنتاجية بحسب ما تؤكد الاستراتيجية الحكومية للعام 2005م. ومع كل ذلك فإن الساحة الكويتية بظرفها الراهن مؤهلة أكثر من أي وقت سابق لممارسة أدوارها التاريخية الطبيعية، وللتطور السياسي والتنموي السريع، والارتقاء بممارساتها الديمقراطية إلى خطوة متقدمة أكثر نضوجاً - خاصة - أن حجم الحريات المتاحة في الوقت الحاضر مشجع جداً لتطوير البنى المؤسسية للمجتمع المدني الكويتي. ولا شك أن مستوى طموح القيادة السياسية الكويتية يستدعي الكثير من أسباب الاستقرار والسلام- قطرياً وإقليمياً- لكن على ما يبدو لنا أن الضجة الإعلامية التي أثيرت مؤخراً بشأن العلاقات اليمنية الكويتية، والأسلوب الذي تم تهويلها به، لم تكن تستهدف سوى سلام واستقرار الكويت أولاً، ثم سياسته الانفتاحية مع أشقائه التي من شأنها إزالة الكثير من آثار ومخلفات الغزو العراقي للكويت، وتعويض الزمن الذي تعطلت فيه المسيرة الوطنية من جراء ذلك. إن من أكثر ما يلفت الانتباه في ملابسات ما حدث هو أن وسائل الإعلام كانت تنقل تفاصيل دقيقة بكل نصوصها مما كان يدور من حوارات ونقاشات داخلية بين أعضاء مجلس الأمة الكويتي.. وجرى التركيز في ذلك على نقل العبارات الانفعالية دون تجاوزها إلى الاطروحات الإيجابية، والحوارات المنطقية التي دارت داخل المجلس (إذا صح ما تم نقله). ورغم جهلي بنصوص اللائحة الداخلية للمجلس، وأحكام نشر الحوارات الداخلية إلا أنني اعتقد أن تسريبات من هذا النوع أريد بها تأجيج أزمة سياسية وزج المجلس في أمور لا طائل منها سوى تعطيل مشروعاته وجره إلى خارج مسارات مهامه الوطنية ذات العلاقة بمستقبل الدولة الكويتية الحديثة.. وهو أمر يفرض ضروراته على القوى الوطنية في المجلس بالتفكير ملياً بأبعاد ما يمكن أن يؤول إليه الحال لو أن ما تم تسريبه ليس ذي صلة بالعلاقات الخارجية، وإنما يمس قضايا كويتية حساسة أو مصيرية!! وعلى كل حال، فإن احتواء القيادة السياسية الكويتية للمسألة برمتها بوعي ومسئولية وحرصها على عدم الوقوع في فخاخ ما يسميه السياسيون (عقدة الماضي) كان ذلك كله بمثابة تأكيد للهوية الوطنية السياسية المعاصرة التي تخاطب الكويت بلغتها عالم اليوم. وهو أيضاً توطيد لبنى العلاقات التاريخية الوثيقة التي ارتبطت بها الكويت باليمن- أرضاً وشعباً. فالكويت احتضنت عام 1979م أول مفاوضات متميزة بين قادتي شطري اليمن آنذاك ثم أعقبتها بجهود مباركة للتوفيق بينهما رعاها أمير دولة الكويت سمو الشيخ جابر الصباح بنفسه وقادها إلى إبرام (اتفاقية الكويت) عام 1980م والكويت أيضاً هي من بددت غمام العلاقات اليمنية- العمانية عام 1982م بعد تعكر في صفوها منذ عام 1965م. وكانت الكويت أيضاً السند المتين الداعم للتنمية اليمنية وبنيتها التحتية وقد سبقت كل الأشقاء في دعمها السخي لليمن. وبكل تأكيد كانت أرض الكويت وطناً آخراً لآلاف اليمنيين العاملين هناك. وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لحملة الأقلام الصفراء أن الكويت بأمس الحاجة لحقبة أمن وسلام تخلد إليها بعد طول عناء، وقلق لم يفارق جفون أطفالها إلا منذ لحظات.. ارفعوا أقلامكم ودعوا الكويت ترفل بسلامها، وتبني لأجيالها، فإن أقلامكم الصفراء أعجز ما تكون من صنع لحظة سلام واحدة لبلد يستنفر همم كل أبنائه لكتابة تاريخ الدولة الكويتية الحديثة. |