متى تعترف الأحزاب السياسية بما ارتكبته من أخطاء؟. سألني أحد القراء ، هل تعتقد أن أحزاب المعارضة في سبيلها إلى تغيير أسس وقوانين تفكيرها ، خاصة وأننا أصبحنا نشهد تحولات سريعة اقترنت بتطورات النظام العالمي الجديد؟. وقد أجبت القارئ الكريم بأن ذلك ممكنا إذا وقف مفكرو هذه الأحزاب أمام أنفسهم وطرحوا عليهاالسؤال التالي : إلى أي حد ثقافتنا الاجتماعية مسؤولة عن نهجنا في التفكير ورؤية وتفسير ظواهر الواقع ؟. هذا السؤال سيقودهم إلى العكوف على دراسة الواقع ، وسيجعلهم يصحون من ذلك السبات والغفلة الفكرية التي امتدت عقوداً ، فبعد مرور خمس وأربعين سنة على قيام الثورة اليمنية وبعد أن شاهد الوطن خلال هذه المرحلة العديد من الحروب والصراعات، لا بد من إعادة النظر في المضامين النظرية والممارسات الميدانية التي أدت إلى خلافات واختلافات بين الأحزاب بعضهاالبعض ، وبينها وبين السلطة ،والوقوف أمام هذه المرحلة بعقلانية وموضوعية بحيث نسجل مالها وما عليها ونقدها بهدف تثبيت ماهو صائب ونبذ ما كان خاطئاً وسلبياً . لقد وصلت هذه الأحزاب إلى مرحلة من السلفية، ، وهي في الوقت الراهن تولي أهمية قصوى لمبدأ الاستقرار الأيديولوجي ، فهي ترى أن المستقبل يجب أن يكون صورة أخرى من الماضي ، وهي تخاف من التغيير وتنظر إليه بعين الشك والارتياب ،وتؤمن بالتمسك بالماضي واسترجاعه على صوره شخوص عفى عليها الزمن ، هذه الرؤى عدوة للمستقبل ، وترفض الاعتراف بحق الاختيار ، وتضع قيوداً شديدة على التفكير الإبداعي الذي يتجاوز حدود ما ألفته وتحرص على ترسيخه بمختلف الطرق التي كثيراً ما تتعارض مع العقل والمنطق ومقتضيات الحياة الراهنة . وليس ثمة ماهو أخطر من محاولة تقييد حركة المجتمع وربطه بالماضي ، أنها تؤمن بالتغيير الذي يصدر عنها وتتولى هي رسم حدوده وتشرف على توجيهه وتحقق من خلاله أهدافها وتتحكم فيه من خلال فرض صورة الماضي وقيمه ونظمه وأفكاره ، والدعوة إلى العودة اليه باعتباره يمثل العهد الزاهر . إننا أمام أحزاب تخشى التغيير وتضحي بالمستقبل من أجل المحافظة على مصالحها الخاصة ، وتتمسك بتصوراتها وأوهامها الضيقة التي تحول دون التغيير، تحتاج هذه الأحزب إلى رؤية نقدية وإلى مراجعة الماضي والاعتراف بكل ما ارتكبته من أخطاء أثرت على التنمية بمختلف صورها ، إذا أراد الناصريون أن يخرجوا من سلفيتهم فعليهم أن يعلنوا بشجاعة عن مسؤوليتهم عن الأخطاء التي ارتكبوها والتي كانت نتاج مرحلتها ، وبالمثل الاشتراكيون والاصلاحيون وحزب الحق، واتحاد القوى الشعبية والبعثيون ! إذا أرادت هذه الأحزب أن تذهب نحو المستقبل فعليها أن تقف أمام مسؤوليتها والتي أدت إلى تعطيل التنمية داخل البلاد بسبب المواجهة المستمرة مع بعضها البعض وتارة مع السلطة تارة أخرى خلال أربعة عقود أو تزيد . إن هذه الأحزاب تحتاج إلى تقديم براءة ذمة وتتحمل مسؤوليتها بشجاعة وتعترف أن صراعها الأيديولوجي أدى إلى تعطيل التنمية وإلى تقوية مراكز القوى .. إذا فعلت الأحزاب، ذلك ، فسيكون من الممكن تحقيق المشروع الديمقراطي الاجتماعي ، واستبدال الأنماط والوسائل القديمة وإحلال أخرى حديثة محلها ، وسيكون ذلك كفيلا بالتخلي عن آليات الصراع واستخدام العنف وفتح الطريق أمام القضايا الحياتية المباشرة في شئون الصحة والتعليم والتنمية ، وباختصار إن ذلك سيجعلنا ننطلق من تصورنا لحاجات المواطن اليمني ومتطلبات الأمن والاستقرار ، عندما تقف هذه الأحزاب أمام تجربة الماضي وتعمل على نقدها ، فإن ذلك سيساعدها على صياغة فهم جديد لتحولات العالم من حولها يقتضي ذلك إرساء دعائم فهم جديد يقوم على التحرر من هيمنة الأطر الايديولوجية التي جسدت أنماط فكر تقليدي وتفسيره تفسيراً علمياً نقدياً . ولن يتم ذلك مالم يتصد لهذه المهمة مثقفو هذه الاحزاب ويتصدوا لصياغة فكر علمي هدفه بناء عقول يكون أساس تفكيرها مرونة متحولة منفتحة على الآخر وقادرة على فهم المشكلات ، مما يهيء أساساً لوعي وطني وعقل جديد غير منغلق على ذاته ، عقل يسع الكون برحابته تأسيساً على تفكير علمي وعقلانية نقدية . إنها دعوة للأحزاب السياسية كي تتأمل واقعها الثقافي وتاريخها النضالي في ضوء دراسة عقلانية نقدية لتاريخ خطابها السياسي تحتاج هذه الأحزاب - إذا كانت جادة في التغيير - إلى إعادة النظر في برامجها كي تتحرر من سلفيتها ومن سكونية تفكيرها والخروج من جمودها الفكري وخلع ثوب الايديولوجيات القديمة ، وصياغة فكر تنويري جديد ، وبناء عقول ملتزمة بقيم جديدة وفكر إنساني أصيل يجمع ولا يفرق . إن مثل هذا المشروع التنويري سيساعد على اعادة اكتشاف المثل العليا التي جرى تشويهها ، كما أنه سيؤدي إلى أنسنة العلاقات الإنسانية وفهم نقاط الضعف والنواقص واستيعاب الآراء المخالفة. عندما تعترف هذه الأحزاب بخطأ الممارسة في المرحلة الماضية ، مرحلة الانقلابات والصراع على السلطة ، فإنها سوف تبتعد عن عمليات التمركز حول الذات المتعصبة ، وذلك كفيل بتغيير أسس وقوانين التفكير . تنبع أهمية طرح هذه القضية مما يشهده الواقع السياسي الرسمي والحزبي في هذه المرحلة من ذروة في الانقسامات لم يشهد تاريخنا السياسي المعاصر مثيلاً لها ، إذ وصلت الامور بين السلطة والمعارضة إلى حد القطيعة ..! *الثورة |