الحديثُ عن الهدْمِ و البناءِ بتبسيطيةٍِ ساذجةِ يحول هذه الظاهرة الدائمة إلى محضِ " دروشةٍ " شبيهةٍ بطقلابن عبد ربّه ـ ! طقاتِ مُـفتٍ يختِم القرآن في " ثلاث " و لو أنّه خـتمَهُ فـي ثلاثين ثمّ وعى ما يقرأ ُ لكان خيراً له ـ حسب وصية إبراهيم بن أدهم لصديقه / العقد الفريد لا يوجَدْ في النموذجِ الإنساني من يمكن أن نعتبرَه شرّاً على الدوام ـ حتى الشيطان نفسه قد يصدق و هو كذوب ـ و أن طبقة الصلادةِ التي تغلّف بعض القلوب حتى لكأّنها قطعٌ من الليل مظلمةٌ تستلزمُ منا قليلاً من الحنوِّ عليها ، وقليــلاً من الانحناءِ الرحيم على وهقها و حزنها لتتكشّفَ القشرةُ عن جـوهرٍ براء من كل ما على صفوانها من تراب ـ كما أن فلسفة الهدمِ بكل تضاريسها و طيوفها الممتدةِ من تحت الأحمر إلى ما فوق البنفسجي لا يمكِن أن تُفهمَ بمنأى عن الخلفيات المعرفيةِ أو التربوية لمن يمكن أن نـطلق عليهم مصطلح : أصحاب الهدم . فأولئك الذين ثاروا في نوتنجهام عام1811 م في إطار ما عُرِف حينها بجماعة "لورد" الثائرةِ على الآلات والداعية إلى تحطيم كل الصنائعِ التي حوّلت المجتمع إلى بروليتاريا عاملةٍ فقيرةٍ ، لا يمكنُ أن نحكمَ عليهم بمجازاةٍ مسبقةٍ حتى نعلمَ الأرضيات التي دفعتهم إلى سلوكٍ بهذه الدرجةِ من البشــاعةِ ، و حين ندركُ أنها انتقلت بعد ذلك بعشرات السنين إلى بريطانيا التي بلغ عدد العاملين من الأطفال فيها _ في برمنجها فقط _ أكثر من خمسين ألف عاملٍ ، معـظمهم من الضريرين و المشرّدين ـ و كيف وقف البرلمان البريـطاني المكوّن من طبــقات الملّاكِ و ارستقراطيي المملكة البريطانية ضد أشواق و تطلّعاتِ الطبقات الدنــيا لصالح توتاليتاريا طبقية و كمبرادوريات مشيخيةٍ تتحكمُ في منـافذ النور ، و تذهب بالشاةِ و البعير لأصحاب الدثور ! هناك فقط ندرِكُ طبيعةِ نشوء خطابات متطرفةٍ ـ الخطاب الاشتراكي كمثال ـ تتمـثلها الأمةُ أو طـــائفة " الهدَم " و تتحوّلُ بفعلِ الأيدي الموجوعةِ إلى سلوكٍ سيكوباثي إن برّأتهُ الغايةُ فهو وسيلةٌ غير حميدة مطلقاً ـ و عليه فإن تلازم النتيجةِ و السبب في الخطاب الحضاري الداعي إلى سموّ الوسيلةِ بسمو الغاية يجبرنا على أخذ التحوّلات المجتمعيةِ الكبرى في أطرها المكوّنة لها، واعتبار ذاتَ الدرجةِ من التشنيعِ للسبب و النتيجةِ : ( الدال على الخير كفاعِله) و ( من سنّ سنةً سيئةً فلهُ إثمُها ...) ! و عندما نطالِع في موروثنا العلمي و التشريعي ـ العقائدي نلمحُ بجلاءٍ ظاهرة هذا الدين الواقعيةِ في تعامله مع كل الإصابات و التمخضّات ، و احتوائه لكـل المنافذ التي قد تؤدي إلى الخلل أو الاضطراب في البُنية السوسيولجية المســلمةِ أو في نسيج و شبكةِ علائقها ، فهو يمنعُ الاحتكار حتى لا يهيّئ للجوعى فرصــةَ هدم الحضارة ضمن خيار شمشون ، و لكي لا يكونَ المال ( دُولةً ) بين الأغــنياء و كبراء الأمّةِ ، الأمر الذي يلغي وجود طبقاتٍ وسطى منوطٍ بها " البناء " الحضاري و تشكيل سيرورات مدنيةٍ لهذه الأمّة . كما أنّهُ ينهى وليّ الأمر عن الظـلمِ و يدعو الأمةِ إلى تسيّدها لنفسِها و أمرِها فهي الشريعةُ و هي الحُكم ، كما أنّهُ يقفُ صارِماً ضد تطلُّعاتِ جماعات الضرار في شق عصا الطاعةِ ما لم تتوفر لديهُم مســوّغات إيجابية مشروعة ، فهو في الأول يقول : - من وليَ أمرَ عشرةٍ من أمتي و لم يجهد لهُم لم يرُح الجنّةِ ! بينما نراهُ يقفُ حدّيّاً حين يدعو إلى الحفاظ على نسيج المجتمعِ المسلمِ متماسكاً من أجل مصلحةِ هذا الدّين : من جاءكم و أمركم جمـيعاً على رجلٍ واحدٍ يريدُ أن يشقَّ عصاكُم او يفرّقَ جماعتكم فاقتلوه . من هنا نلحظُ كــيف يدرّب الاسلام الذهنية العربية على " أسس " احتواء المشاكل و فرزها و تحديد أصولها و التعامل معها من حيث يكونُ البدء . فالاسلام لا يعترفُ بالعــــلاج العَـرضي ليــأتي أحُدنا متحدّثاً عن البناءِ و الهدمِ و كأن القضية البنائيةَ محضُ أحجيّات في فقهنا الزمني/ المكاني نقرأُ كذلك في القرآن الكريمِ حقائق َ مدهشةً عن التركيبةِ البشريةِ و أصـول الشرّ و الخير فيها ، فالبرغم من أن ( الأعرابُ أشدّ كفراً و نفاقاً) فـ( من الأعــرابِ من يؤمنُ بالله ) ، لأن دوافع " شيفا ـ آلهةَ الهدم في الثالوث الهنـــدوسي " ليست بصماتٍ نفسيةٍ لازمةٍ للإنسان بل تحكمها متعلقاتٌ زمانية و بيئــيةٌ و ثقافيةٌ ، و إن كان " شيفا " يتجلى في الأعرابِ ـ هادمي الحضارةِ عند ابن خلدون ـ فإن " فيشنو ـ آلهة البناء و الإعمار " يتخذُ مما ينفـقُ قرُباتٍ عند الله ! فالأصلُّ في الإنســانِ القابليةِ الطوعيةِ للتمثّل والتأسي خيراً أو شرّاً، و ســيولة الذهن ـ ... لذا وجب التعامل مع معاملات الهدم و البناءِ اعتباراً لمرجعياتٍ خلقيةٍ و قيمية تحكمُ تكوين الهيئةِ الخارجيةِ للمارس المتّهم/ و ظاهرة الإرهابِ أدلُّ شيئٍ على ذلــك و لأن الاسلام و جل النظريات السيكولوجية قد اهتمّ / اهتمّت بتتبعِ مراحل النشوء و الارتقاء في منظومةِ الفكر البشرية و درجةِ تحققها و اقترابها من القيم المعيــاريّةِ العليا في المجتمع ـ الانسانية ! ـ فمن الحكمةِ بمكان ( و لو وضعت الحكمةُ على السكك فخذوها - هكذا جاء في العقدِ الفريد !) أن تكون سنواتُ الطــفولةِ المبكّرةِ الميدان الأكثر أهميّةً في " تسويق " القيم و المبادئ وفق مبدء حريّة المــمارسة و البحث للطفلِ و إعطائه أحقيّته في النقدِ و السلوك ـ و أن يُمنح شرف الإيجابيةِ بناءً على ممارساته المتسائلةِ لا درجة انخراطِه فيما يرضي المجموع الذي سيمثّلُ في هذه الحالةِ دور " الآخر " الجدير بالإرضاء على حساب التوحّد الذاتي للفـرد مع نفسها . و في حال انعدام مثل هذه التوحدات الذاتيةُ للأفراد فإن ثقوباً في شبــكة العلاقات الاجتماعيةِ تنشأُ رويداً رويداً مما يجعل هذا النسـيجَ هرئاً و قابلاً للهدم و الاختراق من الداخل و من الخارج بسبب ضعف تماسك الوحدات العضويةـ البشرية المكونةِ لبنائه . و قد ينشأ التوجّهُ الهدمي ـ في الغالب ـ من غياب الخُلُق المــعرفي ، و سيادة ظاهرة رفض الآخر المخالف بكل تصـوراته و أطروحاته و نبذ التعددية في أي شيئ إرضاءً لطبقاتٍ أو هيئاتٍِ نفعيةٍ ، أو تقديـساً لسائدٍ ذهنـي يحدد الممارسات و السلوكيات و الاعتـقادات في حدّيةٍ مـتناهية الأخذ : حرام / حلال ! و إنــهُ لمــن الصعوبة خلق حالةٍ عامةٍ من الممارسات في ظلّ وجود تشابكاتٍ انتـمائيةٍ عديـدة في المجتمع الواحِد و تعدد الولاءات ـ الأمر الذي يدعو إلى الحوار بدل الرفـض و البناء لا الهدم ـ و يحضرني هنا أن أشير إلى الفلـسفةِ الشعبية التي تفــترضُ أن الله خلقَ الخلق فأمدّهُم بالرزقِ نهاراً فعلمَ كلُّ أناسٍ مشـربهم ، و حدد المجتمعُ تكوينات أفراده من معسرٍ و ميسر ، بينما وزّع العُقولَ ليلاً فظنّ كلٌّ أناسٍ أنهم أوتوا النصيب الأوفى من العقل ! و عليه نشأت مكامن الاختلافات ـ و ذهب كلُّ يحاول أن يلغيَ أخاهُ الآخر معتمِداً على اعتقادِه أن الله قد حباهُ بما لمْ يمدّ به الآخرين من حجا و فهم . / د.حازم الــببلاوي في قبول الآخر إن تعميق مفهوم قبول الآخر في الجيل القادم كفيلٌ بتربيةٍ مواطـــنينٍ بنائيين متعاونين ، و نبذِ بوادر الاقتلاعات الفكرية و الحضاريةِ ـ و عليهِ فإن البحث عند الآخر على زوايا الالتقاء مقدمٌ على التنقيب عن نقـاطِ الاختلاف و تعظيمها و عقد الولاء و البراء عليها ـ و لو انصرفت جهودُ المصلحينِ إلى النشأ القابل للتشكّل لكان قطافُنا أجمل ـ فقد جاء في كتاب القدر ـ عند مسلم ـ قولُه صلى اللهُ عليهِ و السلام: كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ فأبواه يهوّدانه ، و ينصرانه ، و يمجسّانه ! و النبي الكريمُ إذ يضع في اعتبار المصلحين الاجتماعيين العامل البيئي/المجموع كمحدّدٍ أكثر أهميةٍ في تشكيل الوعي الــبشري الذي يعوق / أو يثبّط عملية الـنمو المطرّدة من طـفولة البشرية إلى رشد الإنسانية عن غيره من العوامل التي تمثّل زوائدَ و دوائر علائقية تتشاابك من أجل إخرج النموذج البشري السلوكي في صيغة نهائية مُرْضيةٍ/غيرمُـرْضية لمنظومة النسق القيمي في المجتمع ، فإنـه ليضـعُ في الكفّةِ الأخرى لمسته المطهّرة في أعين الحقيقةِ حين يشيرُ بذكاءٍ رسـالي أخّاذ إلـى طبيعة النفس البشرية القابلة للتشكل بناءً على سلّة القيم التي ستغترف منها هذه المادة الروحية اللينة الطرية ..و يلفِتُنا إلى حقيقةِ مرونةِ النفس البشرية و قابليتـها للتغيُّر وفق حاسّة التلقّي و الاقتداء و هنا يجدُر بي الإشارةَ إلى قضيةِ التعهَد السوسيولجي لأنساق الثوابت العُليا ، و التعامل الحذِر مع كل وحدةٍ بشريةٍ ـ الأمر الذي قد يصِل إلى درجةِ الرفضِ التامِ للآخر عندما تبدو منه بعضُ نوازِع المخالفةِ لمألوف القبيلة / العُرف / الأمة ... و يبدأُ نشوءُ الانشطارات الثنائية سيكولوجياً عندما يتصرّفُ المجتمعُ بمعياريةِ التصويب و التقييم مع أبنائه بما يشبه النظام الاستخباراتي الجائر ، و يقيم مبدأ الثـــواب و العقاب/النبذ على تمثُّـل الفرد/الجماعة لمتتاليةِ القيم السائدة ، لا على تكــوين هذا الفرد/الجماعة لرؤيتِه أو نسقِه الذهني و الوجداني معتمِداً على تجـاربه الخاصة و علائقِه المباشرةِ مع الأرض و الكون والحياة ... و من هنا فإن هذه النظرة الجبرية تزجُّ بكل الملكات الفردية في خضمّ التقليد و تخلق جيلاً مسخاً من التبعيّةِ و التعميةِ ينصبُ فيه جلُّ اهتمام الفرَد على ممارسةِ ما يرضي المنظومات المعتـمدة من أجل كسب الاعتراف بالكينونة البنـائية له . و لأن الفرد ـ منذ الطفولة ـ يسعى نـحو تحقيق الذات و الانخراط في المجموع المحيط بشكلٍ يرضي غريزته في " التعامل المعتَبِر " معه ، فإنه لا يألو جهداً في مصـــادرةِ حقّهِ في التمـحيص و الفكر و الانطلاق من أجل نيل اعتــراف المجموعِ القيــــمي و تحقيقاً مبكراً لذاتِه ! حرص الاسلامُ على فتح آفاق الكون على مصاريعِها أمام الناظِر و المتفكر ، فكان الدينَ الأوحد الذي يكافئُ على الخطأ في الاجتهادِ أجراً من أجل وضـــع الملكةِ الأولى " العقل " في موضعِها الأسمى . و على نفس هذه الإشارات قامت منظومات البناءِ النفسي التي دعت إلى الاكتناف و الاستيعـــاب المبكّر للعقل ـ الحِجا ، و أقرّت مبدء: الاعتبار النفسي الغير مشروط ، و ذلك بمكافأة الفرد لا على مدى التزامِه بنسق القيم و الثوابت المجتمعيةِ بل على درجةِ اتقانه لاستخدام عقله و فكره ، و تحرره من الضوابط الإكليروسيةِ الرابضة في ذهنية المجموع المتحكم في صياغة مُـثلٍ ، أو تحديد تصرّفات و سـلوكيات ٍ مقبولةٍ ـ ثم منحها مرتبة : العُليا، و تحديد عواملَ أخرى بالغير إيجابية، فاعتمدت النظريات البنائية النفسيةُ على احترام الإنسانِ لتجاربِه الخاصة و تطلعاته في الحياة الخاصةِ و رؤيتِه للأشياء ، ثم يكونُ أن يُكافأ هذا الإنسان على ما قدر ما يتحقق من هذه السلوكيات و التصرُّفات ، و أن يكون منح الاعتبار الإيجــابي له بناءً على إيجابيته و استقلاله ..و لا يعني - البتةَ - احترام المجـتمع لواحِدٍ من أفرادِه و إطلاقه لملكاته أن تمنحَ تصرّفاتُه ذات الدرجة الإيجابيةَ من القبول و الاعـتبار ، و بيد المجتمع ـ على مستوى الأسرة فأعلى ـ أن يعاقِبَهُ عند المخالفةِ بـما يكفل بقاءه منضوياً في تحولّاته البنائية نحو صياغةِ فكره و علاماته النفسيةِ ذاتياً و سعيهِ نحو التوحّد الداخلي معها و صياغته لمحددات موضوعية تحكُم تصوره الكبير للحياة و الكون وفق بعد مركزي أحادي من الإيمان بوحدانية الله ، و حجيّة رسالاته ... ( لا يكونّن أحدُكُم إمّعةً ، يقولُ إن أحسن الناسُ أحسنتُ و إن أساءَ الناسُ اسأتُ ) و حين تُطلَقُ هذه الطاقات نحو البناءِ و التفكير و النشاط الذهني و النـــتاج فإن عوامل الهدم ستقلُّ إلى درجة الانعدامِ ، و تنشأُ في مقامها حركاتٌ عمرانيةٌ تأخذُ بمجامعِ الأمورِ و تختلفُ و لا تتناحر، و تقبلُ بعضها و ترفضُ ـ وفق بنــائها السيكولوجي / العقائدي ـ من بعضها في الإطار المسموحِ به للاختـلافِ ، تماماً كما وجِد المجتمعُ المسلمُ الأولُ حين تآلف و تناسقَ في منظومةٍ بنائيةٍ ربّانيةٍ عجيبة ـ و يحسنُ أن أشيرَ على نهاية هذه المقالةِ إلى أن أول معاول الهــدم نالت من التأريخ المسلمِ عندما انشغلَ بالفتوحِ على حساب التربية السلوكيةِ للمجتمعِ و على حساب تعهّد الوافدين الجُدد لهذا الدين ـ للتوسع :ـ 1- Human psychology ـ كلية الطب ـ عين شمس 2- السلوك الإنساني ـ مترجَم / روبرت ناي 3-psychoanalysis , by Carl Gustav Jung القيم الاسلامية التربوية و المجتمع المعاصر ـ عبد المجيد بن مسعود . 5- العقد الفريد ـ ابن عبد ربه . 6- قبول الآخر ـ دكتور/ حازم الببلاوي . قصة الحضارة ـ مترجَم / وول ديورانت ـ الجزء الثاني و العشرون |