باجمال: لـم يكـن لدى قـادة الاستقـلال تصورعـن تحقيـق الوحدة ليس يسيراً التقليب في ذاكرة الأستاذ عبدالقادر باجمال، الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام - مستشار رئيس الجمهورية - إنها ذاكرة زاخرة بأحداث تاريخية وثقافية وإنسانية ومخزن أحداث تضم تحولات كثيرة جرت في نهر الحياة..والنبش في ذاكرة باجمال يسرب إلينا ماهو معلوم والعظيم المخفي، ونحتاج إلى أوقات كثيرة حتى نطلع على محتويات الصفحات التي تطويها هذه الذاكرة المتقدة، وصاحب الرؤية المتفردة في النظر إلى الأحداث بعين المفكر والمعايش والمتمرس والمعتصر في هذه الأحداث، وفي الكثير منها يكون ضمن صناعها، مشاركاً بكل ملكاته الفكرية والسياسية ورؤيته المتطلعة إلى وطن وحدوي يزدهر بالأمل والحب والحياة والتفاؤل. في هذه المقابلة نستشف القيمة الوحدوية التحررية ومصداقية رموزها مع أنفسهم ودوافع قرارهم لإقامة جمهورية اليمن الجنوبية عشية الاستقلال، ويتطرق الحديث إلى احتمالية الاتفاق بين الانجليز وعبدالناصر على أن يكون نهار خروج آخر جندي مصري من الحديدة متزامناً مع خروج آخر جندي بريطاني من عدن. ويؤكد الاستاذ باجمال أنه لا يوجد هناك حدث وطني بحت ولا قومي بحت فالأحداث تترابط مع المصالح القائمة والصراع الذي كان دائراً بين الشرق والغرب، والارتباطات الايديولوجية القوية التي كانت سائدة آنذاك..وفي قراءته لحدث الاستقلال يضع القوى السائدة في الساحة بكل الصراعات التي كانت تخوضها وما تمليه عليها من أفعال وردود أفعال، ودوافع القوميين العرب في صراعهم مع التجربة الناصرية، وانعكاس انقسام حركة القوميين العرب على وضع الجبهة القومية وانشطارها إلى تيارين يتحدثان كلاهما عن تطبيق برامج ورؤى وأهداف مرتبطة بالشطر الجنوبي واستمرار إقامة دولة في الجنوب رغم أنه لا يوجد هناك ما يغري لإقامة دولة.. وأرجع ذلك إلى «السلطة» التي اعتبرها مغرية وأمارة بالسوء، ماجعل حديثها عن الوحدة يأتي في غلاف آخر ، واعتبر وثيقة استقطاب حركة التحرر وثيقة تتحدث عن برنامج للشطر الجنوبي وليس فيها لمفهوم الوحدة نصيب، وهي وثيقة كان فيها - كما يقول - قدر ضئيل من التنظير وقدر أقل من التدبير، وكانت ورقة أريد بها حرق الأوراق التي قدمها ما كان يسمى اليمين. كما المح إلى أن سلطة الاستقلال لم تقدم نفسها لجماهير الوطن اليمني الواحد على نحو واضح ومحدد بحيث تصبح قبلة للناس، وأملهم المنشود على مستوى الوطن اليمني ككل. لا نستطيع اختصار ماقاله الاستاذ عبدالقادر باجمال -الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام، مستشار رئيس الجمهورية - في بضعة سطور ولكن للقارىء أن يقرأ الحوار الشيق في أحداث الاستقلال ورموزه والوحدة اليمنية وأحداث كثيرة جرت في النهر. كان هناك اتفاق مصري بريطاني على الخروج من اليمن · كيف تقرأون المسار التاريخي للوحدة اليمنية؟ - أولاً ينبغي أن نعرف ماهي القيمة الوحدوية التحررية مع الحرص على عمل مقارنة تتعلق بمعارك التحرير ومعارك تثبيت الوحدة بجانب المقارنة بين الحالة اليمنية قياساً بالحالة الألمانية وما هو قائم بالنسبة للكوريتين وأين موقع الحالة اليمنية من هاتين الحالتين، وهذا ما يجب عمله إذا ما كنا نريد أن نقيم المسار التاريخي للقيمة الوحدوية اليمنية، لأن هذه القيمة ليست مجرد حدث احتفالي بل هي أعمق وأكبر من ذلك بكثير، وبخاصة أنه ينبغي علينا أن نعرف إلى أي حدٍ كان رموز هذا الموقف التحرري التاريخي صادقين مع أنفسهم في ذلك الوقت، عندما قرروا إقامة جمهورية اليمن الجنوبية، وما هي أوجه الغرابة التي رافقت أحداث 30 نوفمبر 1967م وقبلها أحداث 5 نوفمبر، وإذا كان هناك تنازلات فما هي هذه التنازلات؟ ولماذا وجدت على وجه التحديد؟ مع أن الأمر يعود إلى سبب غاية في البساطة وهو أنه كان هناك اتفاق بين الإنجليز وبين عبدالناصر على أنه نهار خروج آخر جندي مصري من الحديدة يكون في وداعه محمد عبدالله الإرياني الذي كان يشغل منصب القائد العام آنذاك يكون آخر جندي بريطاني قد خرج من عدن منطلقاً على متن طائرة من قاعدة خورمكسر... وهنا نطرح سؤالاً في غاية الأهمية: هل ثمة اتفاق حصل؟ وهذه قضية ينبغي أن ننظر إليها بعين الاهتمام والفحص التاريخي. · في تقديرك .. هل كان هناك اتفاق ما؟ - في تقديري أنه لايوجد حدث وطني بحت ولا قومي بحت، ولكن توجد أحداث معينة بسبب الروابط القوية مع المصالح القائمة في المنطقة وارتباطها بالصراع الدائر بين الشرق والغرب، وكذلك بسبب ارتباطاتها الايديولوجية القوية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وبما اصطلح على تسميته بالحرب الباردة.. وبحسب تقديري الشخصي، وأنا هنا لا أدعي أنني كنت أخوض المعارك في شوارع عدن، بل كنت أخوض معركة أخرى ، حيث كنت حينها أعمل في ورشة وأدرس في ذات الوقت وانضوي، في ظل ظروف صعبة وأنا في المملكة العربية السعودية في منطقة الخبر، تحت ظل حركة القوميين العرب التي أىضاً في 1967م شهدت عملية استطيع أن أقول عنها إنقلابية في داخلها ابتداءً من يونيو أو ما قبل ذلك بقليل، لكن من يونيو 1967م بدرجة أساسية تحولت حركة القوميين العرب من حركة قومية إلى حركة أممية. انقسام داخل حركة القوميين · وقامت بالعملية في نفس التاريخ؟ - في نفس هذا التاريخ حصل انقسام داخل حركة القوميين العرب، وتحولت إلى ثلاثة تنظيمات »الجبهة الشعبية - الجبهة الشعبية الديمقراطية - حزب العمل الشيوعي اللبناني» .. في ذلك الوقت بالذات، وأكرر هنا أنني لا أدعي أنني كنت أخوض المعارك النضالية في شوارع عدن، ولو كنت متواجداً حينها في عدن لكنت عاملاً في إحدى المؤسسات في عدن، ولكنت انخرطت في صفوف الكفاح المسلح، فعبدالفتاح إسماعيل كان عاملاً في مصافي عدن. لكن السؤال الأهم والجدل الذي دار حول من الذي فجر قنبلة عدن.. ثمة أسرار كبيرة في هذه المسألة.. ليس إدعاء إن فلاناً من الناس هو الذي القى هذه القنبلة أو أن البريطانيين بحثوا عن شخص يلصقون به هذه التهمة، كما هو الحال بالنسبة للمرحوم خليفة الذي توفي قريباً، والذي من حقه علينا أن نشير إليه، لكن أعود فأقول: إن أسئلة من هذا النوع تحتاج إلى إجابات دقيقة وهي أسئلة بسيطة، ولو كان هناك باحث تاريخي حقيقي وأمكنه الذهاب إلى المكتبة البريطانية فانه سيجد هناك كافة السجلات والمعلومات، بل وشهادات أناس أحياء يدعون بثوريتهم وهم في حقيقة الأمر كانوا مخبرين بريطانيين، وهؤلاء أظهروا أنفسهم للناس على أنهم شخصيات لها طابع ثوري ولها خطاب إعلامي وخطاب نقابي. هناك وثائق تكشف ارتباط بعض من يدعون الثورية بالمخابرات البريطانية · هؤلاء من الجبهة القومية أم من التحرير؟ - من جبهة التحرير بدرجة أساسية ومن الجبهة القومية كذلك، وهؤلاء ليسوا كل الجبهة القومية ولا كل جبهة التحرير، بل هم شخصان أو ثلاثة، وهذا لا يعني على الإطلاق أي تشويه لدور المناضلين الشرفاء، فالجبهة القومية ناضلت وجبهة التحرير ناضلت، لكن انتماءات القومية بين الناصرية وحركة القوميين العرب، بجانب الظرف التاريخي الذي دارت فيه عمليات التحرير انسجاماً مع ما كانت دائرة من عمليات تطهير في الشمال للملكيين، هذه كلها خلقت أجواءً مختلفة، وربما بعضهم لم يكونوا - كما يقال - «عميل مزدوج» بالمعنى السيء لكن كانت لهم تكتيكاتهم للبحث عن الأفضل في إنضاج العملية السياسية والنضالية.. وشخصياً أقول إنني لا أستطيع ولا أدعي امتلاك شيء من الحقيقة، لكنني أحاول استقراء بعض الأشياء من بين الوثائق التي أحصل عليها من وقت لآخر من المكتبة البريطانية لأنهم كل فترة يقومون بإصدار وثائق بما فيها بعض التحقيقات في السجون، وظهرت بعض الأوراق على بعض الرموز لا داعي لذكرها. · هل من بين هؤلاء الرموز من شاركوا في الحكم بداية الأمر؟ - هناك أناس كان لهم صلة بهذا القدر أو ذاك، وبعضهم لم يكونوا في عدن بل جاءوا من مكان آخر، بحيث كانوا على سبيل المثال في «الغربة»، وبشكل أو آخر انتسبوا إلى حركة القوميين العرب والحركة الناصرية حينها، ولكنهم كانوا مشوشين حتى لما جاءت المواقف انبرى كل منهم إلى اتهام الآخر، فمنهم من أتهم بأنه رجعي، يميني، عميل للاستعمار، وللأسف كل هذه الأمور كتبت بوثائق إبان الصراع السياسي، كما أن هناك من اتهم بأنه يساري متطرف مندس، وثالث اتهم بغير ذلك من الاتهامات والتصنيفات المتعددة، وهذا كله دليل على عدم النضج ، ودليل على أن السلطة بدأت تحل محل النقاء الثوري، فتكونت هذه المظاهر مع عدم شك بأن تدخلات أو زيارات عديدة جرت على الساحة بحثاً عن مريدين، ولا أقول هنا بحثاً عن عملاء من قبل الاتحاد السوفيتي ومن قبل بلغاريا وجهات أخرى عديدة، وكلها وجدت أن هناك شيئاً من هذا القبيل ينضج، وهذا النوع من الطرح والتفكير يختلف تماماً عما يحدث الآن من قبل بعض الأشخاص الذين يظهرون في المناسبات على أنهم مناضلون، وأنا هنا أشكرهم جميعاً، وأبارك لهم خطاهم، كما أقول كذلك: إنه ينبغي علينا أن نذكر محاسن موتانا ولا داعي لفتح ملفات على الإطلاق ، فنحن في ظرف نحتاج فيه إلى التوحد، ونحتاج فيه إلى رؤية أكثر للمستقبل، أما اجترار الماضي والمزاحمة على من فجر هذه القنبلة أو من ألقى هذا المنشور أو من دخل هذا السجن أو من خرج منه من الخلف أو من الأمام ..ومن أوهموهم أنهم مناضلون، أو من مسكوه وهو يقلِّب عينيه أو يضع اللثام على وجهه، هذا كله في تقديري الشخصي لا قيمة له. فرج بن غانم كان بعثياً وعلي ناصرومحسن ومطيع تخلوا من باب المزايدة عن أسمائهم المرتبطة بالأسرة والقبيلة · اتفاق عبدالناصر في 5 نوفمبر، وكذا 30 نوفمبر .. نريد توضيحاً أكثر حول هذا الموضوع؟ - أنا لا أمتلك معلومات كافية لكن أمتلك انطباعات مبنية على تحليلات وعلى رؤى واضحة، فالبريطانيون سلموا السلطة للجبهة القومية مع أنهم قد عرضوها على جبهة التحرير، والذين يعلمون هذا موجودون على قيد الحياة، غير أننا لا نستطيع القول إنهم رفضوا لكنهم قدروا الأمر تقديراً مختلفاً، والبريطانيون - حينها - فهموا هذا التقدير بلغة أخرى، أي أن هذا التقدير في الجنوب إذا قام فسوف يكون تابعاً لعبدالناصر في حالة جبهة التحرير، لكنهم لم يكن لديهم هذا الاعتقاد الكلي إلاّ بعد أن قدموا الطعم لجبهة التحرير بأن تعالوا نسلمكم السلطة، فقال أصحاب جبهة التحرير نتشاور مع عبدالناصر حول هذا الأمر.. فما كان من البريطانيين إلا أن سلموا السلطة للطرف الآخر، وهذا الأمر حصل في تعز ولا يزال البعض ممن هم على قيد الحياة يعرفون بهذا العرض الذي قُدَّم لجبهة التحرير. وعندما اتجهت بريطانيا إلى الجبهة القومية ذهبت مدفوعة بعدد من الاعتبارات، منها أن الجبهة القومية لديها رصيد نضالي وعندها امتداد خارج عدن، وبالذات المحافظات المجاورة غرب عدن وشرق عدن كأبين بدرجة أساسية، وكذلك شبوة والضالع وردفان والصبيحة، وكذلك ما يحيط بعدن من سلطنات ومشيخات، وهذه الأمور حسمت الموقف بشكل كبير، إضافة إلى أن جبهة التحرير لم تدخل حضرموت على نحو سياسي كبير لأن عناصر الجبهة القومية كان لها في حضرموت حضورها وتواجدها، وهذا الحضور هو حضور سياسي واجتماعي وثقافي، حتى أن التيار الآخر الذي لم ينتم للجبهة القومية، وأذكر منهم المرحوم محمد عبدالقادر بلفقيه، الذي كان سفيرنا في القاهرة، مندوب اليمن في اليونسكو، وهو مؤرخ معروف، كما كان الدكتور محمد عبدالقادر بلفقيه مع الأستاذ محمد عبدالوهاب بامطرف يتنافسان كمثقفين نخبويين على تمثيل النخبة في السلطنة القعيطية، وكان في الوادي أىضاً يوجد عبدالقادر الصبان وغيره. وفي حقيقة الحال لم يكن حضرموت الساحل يمثل إلا مكاناً سكنياً، لأن بلفقيه هو من وادي حضرموت من جهة دوعن، وعبدالقادر الصبان من سيئون، وكذا محمد عبدالقادر بامطرف، وهؤلاء النخبة من بينهم أيضاًَ شخصية أخرى اسمه عمر سالم باعباد، وهؤلاء كلهم تكونوا في مدرسة واحدة مع الذين دخلوا حركة القوميين العرب في حضرموت، وكان العنصر المنافس لحركة القوميين العرب في حضرموت هو البعث بزعامة علي عقيل الذي كان آخر منصب شغله هو مدير مركز البحوث وعضو القيادة القومية عن اليمن في سوريا، وعشية الاستقلال كان علي عقيل في دمشق، وكان المركز الرئيسي للبعث في حضرموت الوادي وليس في الساحل حتى فرج بن غانم كان له علاقة بالبعثيين، بل انه كان ضمن التشكيلة التنظيمية لحزب البعث فاختلف معهم ثم خرج بعد ذلك. هذا الجو كان - في حقيقة الأمر - غائباً عن جبهة التحرير، وكان قريباً من حركة القوميين العرب، بل ان الأمر وصل إلى حد أن حركة القوميين العرب لم يكن لديها خلاف مع التيار البعثي السوري، وبالتالي كانت المسائل متقاربة مع بعضها البعض فكرياً وسياسياً، وفيها أيضاً نوع من التقارب الآخر المتمثل بالمنافسة مع الفكر الناصري، وعشية الاستقلال كانت ثمة أسئلة كثيرة، ولهذا ينبغي أن نتعامل مع الحدث نفسه ونعزل الأشخاص عن هذا الحدث ثم ننتبه للأشخاص بعد ذلك، وكما تعلم فإن عشية الاستقلال كان هناك تنازع كبير بين كافة القوى الإقليمية والدولية على تحديد هوية هذا النظام إلى درجة أن الخبراء الكوبيين كانوا موجودين وهم الذين اقترحوا أن تكون جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، مكونة من ست محافظات، وهذه الفكرة كانت موجودة في كوبا، وقد أخذوا بها لتذوب الأسماء وتبدأ الأرقام، ثم جاءوا بعد ذلك إلى المحافظة الواحدة قسموا فيها خمس مديريات.. المديرية الوسطى - المديرية الشمالية - المديرية الجنوبية - المديرية الغربية بهدف تذويب الأسماء، وتذويب الأسماء هذه كانت عملية ذات حساسية مفرطة في حينها، حتى أن بعض الأشخاص ذوبوا اسماءهم الشخصية أمثال محمد صالح مطيع، الذي كان اسمه في البداية محمد صالح يافعي، ومطيع هنا هو الاسم الحركي، وكذلك هناك محمد سعيد عبدالله الشرجبي، تحول في النهاية إلى محسن، وأىضاً علي ناصر محمد الحسني ، أصبح علي ناصر محمد، وكفى... حتى أن العديد من الشخصيات السياسية التي ظهرت على الساحة تم تذويب اسمائها، باستثناء قحطان محمد الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي، ولذلك كلما كان هناك اسم يتبع قبيلة أو سلطنة كان يجب عليه أن يذوب، كما كان في ذات الوقت نوعاً من المزايدة الشديدة، على الرغم من أن الإخوة الثوار في صنعاء أظهروا من كان لهم انتماءات للتيار الهاشمي على سبيل المثال المتوكل - الوزير - شرف الدين.. الخ، وهذا أعظم موقف هو أنك تحترم الشخص لموقفه لا لانتمائه لأسرة أو قبيلة، هذا التجاذب الذي كان قائماً في الجنوب كان له تأثيراته على الأرض، وهنا نأتي إلى التأثير الآخر وهو التأثير الإقليمي حيث كانت هناك أطراف إقليمية تقود الصراع بين الملكية والجمهوريين في الشمال، ولم يحسم الأمر على كل حال، وأطراف إقليمية تدير الصراع بين مصر والسعودية، وفي الوسط البريطانيون الذين سينتقلون من عدن وهم في ذات الوقت المحتجون والرافضون لوجود عبدالناصر في الشمال، كيف يمكن إذاً أن تكون العملية؟ فبدأ التفكير بمنح الاستقلال قبل 1968م وتم تقديمه بعد ذلك ليكون في أواخر 1967م ربما ليتناغم مع خروج المصريين من الشطر الشمالي، وهو أحد الأمور التي ينبغي النظر إليها على أنها من المفردات التي تحتاج إلى تقييم، بمعنى.. هل كان هناك صدفة أو ضرورة فيما يتعلق بفلسفة الصدف والضرورات بأن يتزامن خروج آخر جندي مصري يركب الباخرة في الحديدة ويودعه محمد عبدالله الإرياني - قائد القوات في ذلك الوقت بعد 5 نوفمبر مع خروج آخر جندي بريطاني من قاعدة خورمكسر، وتقريباً كان هذا الأمر في نهار نفس اليوم، فهل هذه صدفة أم كانت ضرورة؟.. وأكرر ينبغي أن نفرز هذه المسألة فرزاَ دقيقاً حول تأثيرات العملية كلها من حولنا والتجاذبات التي كانت قائمة، كما أن هناك ما يلفت النظر، وهو أن جزيرة كمران كانت تابعة لمستعمرة عدن، وهذه الجزيرة كانت هناك رغبة وكان هناك مفهوم أن تنتهي تبعيتها لعدن حتى لو قام النظام في الجنوب وتلتحق بالشمال، لكن البريطانيين في ذلك الوقت كانوا لا يزالون معترفين بالمملكة المتوكلية اليمنية، وبالتالي كيف يسلمون كمران للجمهورية العربية اليمنية، وهنا كان لابد من عمل شكل صوري بحيث تبقى كمران تابعة للمستعمرة البريطانية، وتم بالفعل عمل استفتاء باشراف بريطاني واختار أهالي كمران أن يكونوا تابعين لعدن على اعتبار أنه يفصل بينهم وبين أراضي الشمال بحر واسع، ولأن الحرب كانت دائرة بين الجمهوريين والملكيين والأوضاع غير مستقرة، ولذلك لم تدخل كمران ضمن أراضي الجمهورية العربية اليمنية إلاّ في 1972م بعد الحرب الأولى التي وقعت بين الشطرين، وقد جاء هذا الأمر باتفاق مع سالم ربيع علي كتعبير عن وحدة ومصير الوطن اليمني الواحد، وهذه الحادثة أيضاً لها بعدها المعين. · أنت ركزت على الصدفة والضرورة.. فماذا كانت تمثل هذه الأحداث.. صدفة أم ضرورة؟ - يمكن كان بقاء كمران في ذلك الوقت في 1967م تابعة لعدن صدفة، لكن في 1972م كان انتقالها إلى إقليم الشمال ضرورة، كما أن الضرورة الكبرى كانت هي الوحدة اليمنية، ولذلك إذا نظرنا إلى بعض التدخلات التي لمسنا بعضها فهناك أيضاً تدخلات حصلت من ناحية حركة القوميين العرب، وكانت بعض التيارات التي وضعت أو رفعت بعض الشعارات، كان ذلك تحت تأثير حركة القوميين العرب بشقيها اليساري القومي واليساري الأممي، وكان لها تأثيرها على فكر الرجال عشية الاستقلال، وكان تأثيرها أيضاً على خطاب الأخ قحطان الشعبي - أول رئيس للجمهورية - وليس هذا فحسب، بل كان لها تأثيرها أيضاً على المراسيم التي تم إعدادها للاحتفال في مدينة الشعب، ولذلك ظهرت منافسة وظهرت عملية تسابق إلى الصف الأمامي وإلى ماهو أضيق من الصف الأمامي وهو قمة الهرم القيادي، وهذه الأمور كلها ضمن ما لاحظناه نحن لاحقاً، ونشير هنا إلى أن الاتحاد السوفيتي كان إلى حد كبير غير مهتم كثيراً بالحدود الرسمية للدولة، بقدر ما كان يهتم بما يجري في جانبه الحزبي، وكان ثمة أشخاص قد أوفدوا بشكل باحثين وبشكل صحفيين إلى عدن، وبعضهم ذهب إلى حضرموت، وهذا ليس بالضرورة أنه كان عشية الاستقلال ولكن بعد الاستقلال مباشرة. لم يكن هناك تصور متكامل لدى أحد حول الوحدة باستثناء باذيب · السؤال الأهم يا أستاذ عبدالقادر.. لماذا لم تتم الوحدة حينها؟ - هذا بالفعل هو السؤال الأهم، ونحن أيضاً في ذلك الوقت سألنا نفس هذا السؤال، ولكن ظل الجواب حتى هذه اللحظة غامضاً، كان ثمة من يهرب ويقول الوحدة هدف ذو رصيد تكتيكي، لم يكن هناك تصور متكامل لدى أحد ما من تيارات الجبهة القومية أو حتى من تيارات جبهة التحرير أو حتى من تيار التنظيم التيار الاشتراكي الماركسي في اليمن ليقول لنا كيف يمكن أن يتم إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وماهي الكيفية التي ستقام بها الوحدة، وإن كنت قد قلت في فترة من الفترات: إن شخصاً وطنياً معروفاً وهو الأستاذ عبدالله باذيب قد كتب مقالاً يوحي إلى حد كبير أن لديه مشروعاً واضحاً للوحدة، وهذه ليست إشاعة، فمقالاته موجودة وشاهدة على العصر في حقيقة الأمر، أما غير ذلك فإننا لم نلحظ شيئاً، بعد ذلك انغمس الناس في السلطة، وجاءت السلطة وفريق السلطة، وتشكلت حكومة وأصبحت القيادة العامة للجبهة القومية هي مصدر التشريع، أي أصبحت البرلمان، والحكومة المشكلة كانت حكومة شبابية معظم أعضائها كان عمرهم في العشرينيات، ربما أن بعضهم كان يلبس «الكرفتة» لأول مرة بعد ما فرضت أيضاً البدلة والكرفتة في أجواء ذلك الوقت لتكون هي اللباس الرسمي، ثم بعد ذلك تم التخلي عنها تماشياً مع الملامح الصينية. · الشيخ عبدالله الأحمر في مذكراته الصادرة مؤخراً قال: إن حركة عبدالرقيب عبدالوهاب في صنعاء كانت بتنسيق مع اليسار في عدن بغرض إقامة الوحدة وفقاً للنهج اليساري ..؟ - أنا لم اقرأ كثيراً بهذا الخصوص، وربما لم أفكر كثيراً بهذا الموضوع، وبإمكانية أن تكون هناك حركة بعد الاستقلال تهدف إلى توحيد اليمن تحت لواء الماركسية، وربما الشيخ عبدالله يكون عنده تصور أو تخمين في هذا الاتجاه، لكن لننظر إلى الحقائق الملموسة، والحقائق الملموسة تقول إنه عندما عقد بعد بضعة أشهر من الاستقلال مؤتمر الجبهة القومية الذي اطلق عليه مؤتمر زنجبار أو المؤتمر الرابع، طرحت أوراق وظهر تياران، والتياران يتحدثان كلاهما عن تطبيق برامج ورؤى وأهداف مرتبطة بالشطر الجنوبي، أي استمرار إقامة الدولة في الجنوب بعد أن جاء الطاقم الحاكم واستبدل أو احتل الوزارات التي كانت تابعة لحكومة عدن أو للسلطنات وأصبح سلطة حاكمة، وهذه السلطة رغم ضآلتها ورغم إمكاناتها المحدودة وأنا شخصياً وأنا أحاضر في جامعة عدن حصرت أن الميزانية كانت عشية الاستقلال لاتزيد عن 12.5 مليون جنيه استرليني، وهذا الشيء لم يكن شيئاً مغرياً حتى يتمسك هؤلاء الناس بدولة، لكن كلمة سلطة هي بحد ذاتها كلمة مغرية وأمارة بالسوء، وجاء بعد ذلك الحديث عن الوحدة في غلاف آخر، بحيث ترك الناس التفكير الجبهوي إلى الحديث عن تفكير سلطوي وبالتالي دخلت مسألة أنهم تحت ضغط الجماهير وأن المسألة لايجب أن تنتهي بإقامة نظامين في الشمال والجنوب، ولذلك ظلت الجماهير تموج وما دام الأمر كذلك، فالسؤال الكبير المطروح.. كان ماذا عن الوحدة؟.. وهنا لو تلاحظ صدرت وثيقة اسمها وثيقة استقطاب حركة التحرر الوطني في عام 1968م قبل ما سمي بالحركة التصحيحية التي أزاحت قحطان وأدخلته السجن، وقامت بتصفيات جسدية معينة بما فيها فيصل عبداللطيف، وجاء اليسار إلى السلطة في 1969م ، وهذه الوثيقة تتحدث عن برنامج للشطر الجنوبي ليس لمفهوم الوحدة فيه نصيب. · من صاغ هذه الوثيقة؟ ولماذا؟ - أنا لن اتحدث عمن - رحمهم الله - ولكن سأقول: إن هذه الوثيقة ، رغم أنها صغيرة وليست كبيرة، لكن فيها نفس إلى حدٍ كبير لمجموعة الجبهة الديمقراطية بدون ذكر الأسماء وحزب العمل الشيوعي اللبناني، وإن كان فيها قدر ضئيل من التنظير وقدر أقل من التدبير بحيث كانت عبارة عن ورقة أريد بها حرق الأوراق التي قدمها ما كان يسمى باليمين في مؤتمر زنجبار، ومهدت لحركة 22 يونيو، لذلك يمكن القول إن سلطة الاستقلال لم تقدم نفسها لجماهير الوطن اليمني الواحد على نحو واضح ومحدد بحيث تصبح قبلة للناس يستطيعون النظر إليها على أنها أملهم المنشود على مستوى الوطن اليمني ككل، وكان هناك من ينظر إلى المسألة على أنها مرحلة سيتم العبور عليها إلى عالم الوحدة ، ومنهم من يرى أنه لابد من إقامة النموذج لحركة القوميين العرب في مواجهة النموذج البعثي وتجليات هاتين المسألتين كانت واضحة في 5 نوفمبر ، ولم يتغير الأمر في قضية مفهوم الوحدة بحيث ظل هذا الأمر منبعه الأساسي هو فكر يكاد يكون غير متصاعد، لكنه مجتهد في طريقة الوصول إلى الهدف، هنا تم طرح السؤال وهو كيفية الوصول إلى هذا الهدف . وعندما قامت في نوفمبر 1969م عمليات التأميم، وعمليات التطهير الواسع. وعمليات الاستيلاء على الأراضي بواسطة الانتفاضات ، بجانب شيء آخر عرف بعملية الدمج بين الطريقة الكوبية والطريقة الصينية في التطبيق على مستوى واقع الحياة، بحيث كانت الطرق الأخرى كالطريقة الفيتنامية قد انتهى التعامل معها، أو أنها لم تنتهِ بعد في نضجها على مستوى الواقع، لأن لها نهجاً خاصاً، فالطريقة الفيتنامية منذ البداية دمجت التحرير مع التوحيد، لم يكن شعار «الفيتكونغ» الذين قاتلوا الأمريكان على طول الساحل الجنوبي الفيتنامي أن يقيموا دولة بل كانوا يؤمنون أن وطنهم واحد وأنهم يمضون سوياً على طريق التحرير والتوحيد بحيث كانوا أكثر بلاغة منا في التنظير والفعل، وربما العقل الآسيوي والآسيويون بصورة عامة لديهم روح الانضباط، ولديهم قداسة للثورة واندماجها مع المقدسات الدينية إلى درجة أن الذين قاتلوا مع «الفيتكونغ» هم البوذيون الذين خرجوا من معابدهم وقاتلوا، كما أن الجنرال جياب لم يكن بطلاً قومياً في حرب فيتنام بل كان قومياً قبلها في بيارد دي رثاو، حينما واجه المستعمرين في هذه القلعة الضخمة وهزمهم، لذلك كان لكل الوطن. · لكن معظم قيادات الجبهة القومية كانوا من اليسار ورفعوا شعار الوحدة على طريقتهم؟ - منابر الماركسية يمكن أن تحلل وتصنف بأن هؤلاء لا ينتمون انتماءً حقيقيا، حتى المساعدات التنموية التي بدأ التفكير في إدخالها في برامج المساعدات الخارجية لدول روسيا وأوروبا الشرقية جاءت متأخرة، وليس غريباً أن إحدى هذه الدول أرسلت إلى عدن باخرة صغيرة فيها سمن كهدية، وهذا السمن كان في أجواء باردة جداً «مثلجاً» ولكنه كان في براميل غير أنه عندما وصل إلى عدن كانت البراميل فارغة، لأن السمن كان قد ذاب، وهذا دليل على أنهم ربما لم يكونوا يعرفون أين تقع عدن.. ولهذا أقول إن الذين فهموا أكثرهم الذين جنبوا المفاهيم الايدلوجية، وانتبهوا أو استندوا إلى مفاهيم حركة التحرر الوطني كانوا الصينيين، سواء كان في الشمال أو الجنوب، فالصين مدت يدها أكثر وأكثر لليمن شمالاً وجنوباً، وكانت المعونات الصينية لا تأتي بثوب أحمر، وإنما كانت تأتي بشكل إنساني، ولم يفرض الصين نفسه أيديولوجياً على اليمن، لذلك أقول إن تمكن الايدلوجيا من صنع كل حركة العلاقات بين مركزها في موسكو أو محيطاتها المختلفة في بقية أنحاء العالم تمت بشكل أكبر بعد الحرب العالمية الثانية عندما أصبحت العلاقات علاقات حرب باردة وعلى وجه الخصوص يمكن بدأت بدرجة أساسية في وقت متأخر بعد الحرب العالمية الثانية في بداية السبعينيات، وذلك لانشغال الاتحاد السوفيتي في بناء نفسه، وبناء البلدان الاشتراكية التي اجتيحت ودمرت في الحرب العالمية الثانية، وكانت المساعدة في بناء سد أسوان بداية الخروج من الحائط الحديدي، وهذا في تقديري الشخصي مهد للتفكير الجدي بمد العلاقات مع اليمن، بجانب ما كان من إصدارات في شمال الوطن تتحدث عن هزيمة الملكيين والصراعات التي تمت بين أجنحة الحركة البعثية والقومية .. وحصول الماركسيين على حضور مع القوميين في جنوب الوطن، كل هذا مهد كذلك للتفكير الجدي في موضوع الوحدة.. وقد طرحت قضية الوحدة بشكل واضح ابتداءً من منتصف 1971م بعد صدور الدستور الجديد لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. · كيف تقرأون علاقات سلطات النظام مع الكتلة الاشتراكية والتطبيقات للنهج الاشتراكي؟ - نستطيع القول إن سلطات الاستقلال بحكومتها الجديدة في الشطر الجنوبي لم تستطع أن تمد جسور العلاقات مع بلدان الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية إلاّ في وقت متأخر بعد أن تبينت الملامح الرئيسية للنظام وبعد الاستقلال بحوالي أربع إلى خمس سنوات بدءاً من 1971م، فعلى سبيل المثال وفي كتاب كارل بروتنس الذي كان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، وجاء بشكل صحفي في ذلك الوقت في السنة التي بدأت فيها الانتفاضات الفلاحية، وكان كارل يبحث عن ملامح لهذا النظام حتى أنه قد سمى في كتابه أضعف الأسماء وقال إن هناك اتجاهات ماوية وذلك عندما رأى حركة الاستيلاء على الأراضي وما صاحبها من عنف في حين أن عمليات الاستيلاء هذه اعترض عليها عبدالله باذيب وقال إن الاستيلاء أولاً غير مناسب لليمن، وثانياً أنه لايوجد إقطاع في اليمن، كما هو الحال في أوروبا، إضافة إلى أن الإسلام يمنع وجود الإقطاع لأنه يفتت الملكية عن طريق الإرث.. نقول إن كارل بروتنس ألف كتابه حول الهويات التقدمية والاشتراكية لدى حركات التحرر الوطني وحكوماتها ومن بينها الجبهة القومية وحكومة ما بعد الاستقلال في الشطر الجنوبي، ولما اطمأنوا إلى أن التيار الماركسي غير الماوي بدأ يأخذ مكانه أكثر في السلطة، بدأوا بإقامة العلاقات، في هذه الأثناء وبعد إعلان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، تخلت، وهذه ميزة، بل محسوبة حسبة فكرية وطنية صحيحة100%، بمعنى أننا لسنا جمهورية اليمن الجنوبية، بل نحن نُمثل اليمن الديمقراطية، يعني نبحث عن يمن ديمقراطي موحد، هكذا فسرت الأمور وبقوة واضحة بتغيير الدستور بحيث اعتبرت الوحدة اليمنية هدفاً نهائياً ورئيسياً ولكن كيف؟ في الوثائق التي سبقت المؤتمر العام الخامس للتنظيم السياسي للجبهة القومية ظهرت ملامح حول هذا الأمر. في المؤتمر العام الخامس 1972م جاءت وثائق المؤتمر إلينا ونحن في القاهرة، وقد قيل إن جوهر الخلاف هما شيئان أولهما حول المسائل الداخلية المتعلقة بالإصلاح الزراعي والانتفاضات والتأميمات، وجملة الحركة التي قطعت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشطر الجنوبي، كما قطعت الحياة الثقافية وهذه هي الإشكالية القائمة في الداخل الملامس لقضايا الناس وهمومهم حيث أصبحت عدن مدينة شبه خالية من السكان، بحيث هرب جزء كبير من الناس، وأغلقت المحلات، كما أغلق ميناء عدن بسبب إغلاق قناة السويس، الشركات ضربت بالتأميم، والبنوك كذلك جمدت باستثناء بنك واحد هو البنك الأهلي، إضافة إلى العملة التي تأثرت هي الأخرى، وبدأ الانتماء إلى عملة شرق أفريقيا المرتبطة بالإسترليني.. في تلك الأيام الناس كانوا في حالة ذهول، وتلك الأحداث كلها لها جذور ظهرت الآن بحيث ظهر من يقول هل وجدت فقيراً دون أن يلتفت إلى أنه كان لديه منزل تعرض لتأميم وهكذا .. وبالنسبة للمدارس كان هناك تنوع في عدن، مدرسة البيحاني، مدرسة بازرعة، مدرسة البادري، مدرسة الفلاح.. انحصرت كلها في مدرسة حكومية ثم لاحقاً بمدرسة حزبية، كما بدأت أيضاً تختفي من الأسواق والمكتبات كل روافد التفكير القومي والتفكير الحر والجديد، وبدأ طابور طويل من المزايدين، وطابور طويل من أصحاب الشعارات، وأصحاب الأهازيج، وأصحاب الزوامل، وهم الذين سيطروا بعد ذلك على الحياة الثقافية.. هنا بدأ التنظير حول قضية الوحدة باتجاه أنه من الممكن تحقيق الوحدة اليمنية إذا ما تمكنت فصائل العمل الوطني «اليسار» من التوحد فيما بينها، فإذا قامت وحدة الأداة، وكانوا يعتبرون أنفسهم أداة تحقيق الوحدة اليمنية وفقاً للمفهوم اللينيني المعروف، والذي يقول إن الطبقة العاملة لا يأتيها وعيها من داخلها ولكن يأتيها وعيها من خارجها، أي من الطليعة طليعة الطبقة العاملة، أي من النخبة المثقفة الماركسية، وبسبب هذه الفكرة غير الواقعية وغير المنسجمة مع الواقع اليمني بصفة خاصة، لم يحدث أثر يذكر يعني أنه ومن أجل أن تتحقق الوحدة يشترط أن تتوحد فصائل العمل الوطني يعني أن تتوحد الجبهة القومية واتحاد القوى الشعبية، حزب البعث الذي يتحول بعد ذلك إلى ماركسي، حزب الطليعة، والجبهة الوطنية الديمقراطية، الحزب الثوري الديمقراطي، حزب العمل، حزب العمال والفلاحين، وحزب المقاومين الثوريين، بمعنى إذا توحدت هذه الأحزاب شمالاً وجنوباً يمكن بعد ذلك تحقيق الوحدة اليمنية، أي أن الوحدة اليمنية تتحقق فيهم دون غيرهم، أما إمكانية أن تتحقق الوحدة اليمنية عن طريق اندماج نظامين بنظام واحد ثم تأخذ الديمقراطية مداها لمن يريد أن يحكم بالاقتراع السري والتداول السلمي للسلطة، هذا لم يتم التفكير فيه، وإن تم التفكير فيه تم تجاهله، وان تمت مواجهته بطريقة أو بأخرى قيل كيف يتوحد النظام المتقدم في الجنوب مع النظام الرجعي في الشمال، لابد من سيطرة قوى الثورة «اليسار» على السلطة، وبالتالي تتحقق الوحدة، ربما هذه الفكرة بدرجة أساسية موحى بها من قبل الألمان الشرقيين، وساندها بدرجة ما أو بأخرى بعض المفكرين الروس، وإن كان لأكثريتهم رؤية أخرى فيما يتعلق بالوحدة اليمنية، وهو أنه لا توجد فروقات على الإطلاق، والنظام السوفيتي لديه علاقات أصلاً قديمة في الشمال والجنوب، وأنه حريص على أن يقدم نفسه من خلال الوحدة اليمنية إلى بقية أجزاء الجزيرة العربية ليقول لهم: ها أنذا وهاهي الوحدة اليمنية أطرحها أمامكم، ولست على الإطلاق ضد توجهاتكم الوطنية، والاتحاد السوفيتي كان حريصاً ألا ينقسم اليمن قسمين ويحصل وحصل كثيراً في المؤتمرات حول قضية أفغانستان وغيرها من أوجه الخلاف التي كانت قائمة بين الشطرين بسبب الحرب الباردة، ولهذا أقول لم تنجح على الإطلاق الفكرة القائمة على تحقيق الوحدة اليمنية عن طريق فصائل العمل الوطني، وظلت فكرة قائمة إلى أن بدأت الأوضاع الواقعية الملموسة تهبط تدريجياً إلى الأرض وتأخذ مسعاها في الأرض بحيث صارت الفكرة يمنية، وصاحب ذلك الوضع انهيار في الكتلة الشرقية وانتهاء الاتحاد السوفيتي، كل هذا أدى إلى عودة التاريخ إلى مجراه الطبيعي، بمعنى أن الشعب سيتوحد ويندمج النظامان بشرعية ديمقراطية وبشرعية وطنية كاملة غير مفروضة من أحد. |