فقهاء فلسطين: الهجرة من غزة فرار محرم! عاد حديث الهجرة من جديد ليسيطر على عقول الشباب الفلسطيني وأصحاب رءوس الأموال وخاصة أهل غزة، وعزز مخاوف ازدياد محاولات الهجرة من قطاع غزة ما حدث مؤخرا من إزالة الحدود بين قطاع غزة والأراضي المصرية بعد ازدياد الخناق على القطاع. ويعاني قطاع غزة من حصار خانق منذ انتفاضة الأقصى التي انطلقت عام 2000، وازداد الحصار منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بالانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير 2006، وبعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة قبل 7 أشهر عُزل القطاع عن العالم الخارجي بشكل كامل، بعد أن اعتبرته إسرائيل كيانا معاديا. وقدرت الأمم المتحدة عدد الفلسطينيين الذين عبروا الأراضي المصرية بعد إزالة الجدار من قبل مسلحين بحوالي 700 ألف فلسطيني من أصل "1.5 مليون" هم عدد سكان غزة، ما عزز المخاوف من صناع القرار وأصحاب الفكر أن يكون ذلك تمهيدا لهجرة جماعية من قطاع غزة إذا ضاق الحال بأهلها مما يؤدي لتفريغ القطاع من أهله. وكان الشيخ حامد البيتاوي قد أصدر فتوى شرعية قبل اعتقاله من قبل الاحتلال الإسرائيلي ونشرت على موقع "إسلام أون لاين.نت" تؤكد حرمة الهجرة من فلسطين، وقال في فتواه: "لا يجوز للشباب الفلسطيني ترك فلسطين سعيًا وراء كسب العيش في ظلِّ الظروف الحالية؛ لأن هجرة الوطن في ظلِّ هذه الظروف منهي عنها شرعًا؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال:45]، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم عدَّ التولي يوم الزحف من السبع الموبقات؛ ولذلك فإن إسرائيل وحلفاءها يشجِّعون الشباب الفلسطيني على الهجرة خارج فلسطين، بحجة إيجاد فرص عمل". وتابع: "فعلى شعبنا أن يحذر هذا المخطط الإسرائيلي المدعوم من أمريكا وحلفائها، وعليه أن يصبر، وأن يرابط، وأن يقاوم، وألا يرحل، بل علينا أن نرغم المحتلين على الرحيل من فلسطين". والسؤال الآن.. هل تنطبق تلك الأحكام على سكان القطاع بعد أن أحكم الحصار عليهم؟ وماذا عن الهجرة من أجل الحفاظ على الحياة باعتبارها أضحت مستحيلة داخل غزة؟ وماذا أيضا عن من يتذرعون بالهجرة حفاظا على أموالهم؟ أسئلة كثيرة ربما يعتقدها البعض حججا مسوغة للهجرة من غزة.. فرار من الجهاد بداية يؤكد الدكتور ماهر السوسي أستاذ الفقه المقارن بالجامعة الإسلامية حرمة الهجرة من قطاع غزة بأي حال من الأحوال، سواء كانت هذه الهجرة بالبدن أو بالبدن والمال، فلا يجوز لصاحب المال أن يخرج بماله ليستثمره في غيرها من البلاد. واعتبر السوسي الهجرة بمثابة هروب من الرباط الذي أمر الله به، وفرار من الجهاد الذي هو فرض من فروض الإسلام، وكل هذا محرم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]. ويكمل شارحا: "نهت الآية الكريمة عن الفرار من المعركة، وترك الميدان للعدو، ومعلوم أن هذه البلاد ثغر من ثغور الإسلام، وأعداء الإسلام يتربصون بالمسلمين الدوائر من خلالها، وعلى ذلك فإن تركها يعني كشف عورة المسلمين لأعدائهم، وهذا لا يجوز شرعا". ويلفت السوسي إلى أن الله تعالى يقول: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]، وترك هذه البلاد يعني تفريغها لليهود، وإقرار وتسليم بولايتهم عليها، وهذا يخالف النص السابق مخالفة صريحة". ويستدرك السوسي قائلا: "قد يقول قائل: إن سبل العيش قد ضاقت بالناس، وإنهم يهاجرون من أجل أن يلتمسوا سبلا أخرى يعيشون من خلالها عيشا كريما هم ومن يعولون، ثم إن الظروف في غزة لا تسمح بممارسة أي نشاط من النشاطات التجارية، وإن حرص الناس على الحفاظ على ثرواتهم يدفعهم إلى الهجرة بها إلى الخارج". ويرد السوسي على تلك الشبهة قائلا: "مثل هذه التصرفات تعني تفريغ البلاد من الثروة البشرية التي هي بمثابة حصن حصين لها، وهذا أمر مسلم به وواضح، فالكل يعلم أن الكثافة السكانية في قطاع غزة من أكبر معوقات اجتياحه اجتياحا كاملا، وعلى ذلك فتفريغ القطاع من سكانه هو مطلب إسرائيلي صرف وأمنية غالية من أمانيهم، عملوا كثيرا على تحقيقها فلم يستطيعوا، وبالتالي فهجرة الناس من القطاع هدية ثمينة تقدم لليهود". ويشدد أستاذ الفقه المقارن أن هجرة الأموال ليست أقل خطرا من هجرة الأشخاص "بل إنها تؤدي بلا أدنى شك إلى هجرة الأشخاص، كما أنها تتسبب في تضييق الخناق على الناس، إضافة إلى المشاكل الكثيرة الناتجة عن سوء الأحوال الاقتصادية". وحسب آخر إحصائية صدرت عن اللجنة الشعبية لكسر الحصار فإن أكثر من 85% من سكان قطاع غزة تحت خط الفقر فيما تعدت نسبة البطالة حاجز الـ65.% دعوة للعودة ويتفق الدكتور بسام العف أستاذ الشريعة بكلية الدعوة بغزة مع القائلين بعدم جواز الهجرة من قطاع غزة إلى خارجه إلا إذا كانت هناك ضرورة لذلك، واستدرك قائلا: "طبعا هنا لا توجد ضرورة بل الضرورة في البقاء لأن هذه أرض رباط"، ويتساءل: "لماذا الهجرة الآن؟ هل من أجل طلب الرزق؟! الرزق محسوم ومقدور". وطالب العف أهالي قطاع غزة الذين هاجروا من ديارهم بالعودة إلى القطاع ليكونوا قوة في مواجهة أعدائهم، مؤكدا "أننا إذا تركنا غزة فإنما نتركها لليهود، وهذا لا يجوز للمقاومين المجاهدين الذين يجب عليهم أن يبقوا متصدين للاحتلال الذي يتربص بغزة وفلسطين الدوائر". وأوضح العف أن الضرورة هي ألا يستطيع الإنسان أن يقيم شعائر الله "وما دام استطاع أن يقيم شرع الله وأن يؤدي شعائر الإسلام هنا تنتفي الضرورة، ولا ضرورة للمهاجر من فلسطين لطلب الرزق". وأشاد العف بموقف حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية التي منعت أعضاءها من السفر المؤقت للعريش المصرية عندما أزيلت الحدود بين مصر وقطاع غزة للتزود باحتياجاتهم، خوفا من ترك غزة واستغلال العدو خروجهم في اجتياحها، لافتا إلى الضرر الذي سيلحق بالبلاد وبالمقاومة في حالة الهجرة من القطاع، مؤكدا أنه ضرر أكبر وأعظم من ضرر الضيق في العيش والمعاش. وكانت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" قد منعت أفرادها من الخروج من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية للتزود باحتياجاتهم وترك مواقع الرباط على ثغور قطاع غزة. من ناحيته يقول الأستاذ الدكتور سالم سلامة رئيس رابطة علماء فلسطين السابق: "أرض فلسطين مقدسة تنفث خبثها، لا يخرج منها أحد إلا بغضب وسخط من الله، وهي أرض رباط من العريش إلى آخر الشام، من اتخذ منها ساحلا فهو في رباط إلى يوم القيامة". ويضيف: "من المعلوم أن الذي يرابط هو بين القتل والخوف، بين الجوع وبين البرد إلا أن الله سبحانه وتعالى أكرمنا عندما ابتلانا بأن خفف عنا البلاء بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155]. ويتابع: "هو شيء من الخوف وليس خوفا مطبقا، شيء من الجوع وليس جوعا مميتا"، وعلى هذا يؤكد سلامة أن حالة الضرورة منتفية عن أهل فلسطين لتركها، ويقول: "فمن كان يتقاضى راتبا لا يجعله يمد يده، فهذا ليس في ضرورة، وسيأخذ أجر المرابطين حتى إن مات، فكل ميت يختم على عمله إلا المرابط فيبقى عمله وكتابه مفتوحا يكتب له الأجر الذي كان يعمله يوم أن كان قبل ارتقائه شهيدا، وهذه ليست ميزة إلا لمن كان مرابطا في أرض الشام أو على ثغور البلاد الإسلامية التي فيها تناوش مع الأعداء". ويقرر رئيس رابطة علماء فلسطين السابق حكم الهجرة إلى بلاد أخرى تحت ذريعة الهروب من الخوف والطائرات والحصار "لا مبرر له بل قد يصل إلى درجة الحرمة خاصة إذا كان سيسن سنة سيئة يشجع فيها الشباب على الهجرة"، ويتابع متسائلا: "من سيبقى للمقاومة؟! ومن يرد الأعداء أو يكون شوكة في جنبهم حتى لا يهدءوا؟!". ويتفق معه الدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية قائلا: "هذا ليس مبررا شرعيا؛ لأن المسلم في ساحة القتال وعده الله بإحدى الحسنين.. النصر أو الشهادة، وبالتالي فهو رابح في الحالتين. وتابع: "أما إذا انهزم أهل غزة نفسيا ورفعوا الراية البيضاء وتركوا أرضهم للعدو فقد أصبحوا في عداد الخونة بدلا من أن يكونوا من المجاهدين ونحن نربأ بأهل غزة أن يكونوا كذلك وفي نفس الوقت لا يمكن أن نعفي الأمة من مسئوليتها سواء علي مستوى القادة أو الشعوب كل علي حسب استطاعته." نفس التحذير أطلقه الدكتور السيد السيلي عميد الشريعة بالجامعة الأمريكية وعضو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، حيث قال: " أحذر أهل غزة من مجرد التفكير في الفرار وإلا كانوا ممن خسروا دنيا وآخرة وإنما عليهم أن يتسلحوا با الإيمان بلله وبالإرادة القوية التي تستطيع أن تفعل المعجزات.." مؤكدا أن أهل غزة من المرابطين الذين أمرهم الإسلام بالدفاع عن أرضهم من العدو الذي يريد إخلاءها من أهلها، لتكون لقمة سائغة للعدو الذي لا يحلم بأكثر من هذا النصر الذي يتم بأقل خسائر ممكنة، ولهذا فان الهارب من أهل غزة لا يمكن أن يتخذ من الخطر الذي يتعرض له مبررا". واتفق الشيخ يوسف البدري عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية حيث قال: " من تخاذل من أهل غزة وفي ميادين الجهاد عامة وهربوا بحجة أنهم يواجهون وحدهم ما لا طاقة لهم به فقد فضحهم الله بقوله "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين "وليختار كل إنسان ما يجب أن يكون عليه من أهل النصر والتضحية أو من أهل الخزي والعار والهزيمة، وقد حدد القرآن الفيصل في ذلك بقوله تعالي "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " لا هجرة إلا بحالتين أما الدكتور عكرمة صبري مفتي القدس والديار الفلسطينية السابق فيؤكد أن الهجرة قد انتهت بفتح مكة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، ولفت إلى أن العلماء رخصوا بالهجرة في حالتين: الأولى إذا منع المسلم من أداء الصلاة، "أي بمعنى أن العدو احتل البلاد ومنع الصلاة وأغلق المساجد". والحالة الثانية –وفقا لصبري– إذا تحقق للمسلم أنه سيقتل إذا بقي في بلده "فسمح العلماء بهاتين الحالتين شريطة أن تكون هجرة مؤقتة، أي تزول بزوال السبب، وأن تكون العودة هي نية الشخص المهاجر"، مشددا على حرمة الإقامة خارج البلاد حال انعدام وجود الحالتين السابقتين. وأوضح مفتي القدس والديار الفلسطينية السابق حرمة الهجرة أيضا إلى بلاد المسلمين كذلك في الحالة الفلسطينية وحالة قطاع غزة على وجه الخصوص، بالرغم من أن العالم الإسلامي يعتبر بلدا للمسلم "فإنه لا يجوز إضعاف أي قطر من أقطار المسلمين إذا كان مهددا من قبل احتلال"، وشدد: "لا يجوز أن نقلل عدد المسلمين من السكان في قطاع غزة؛ لأن ذلك يضعف تواجدنا أمام مواجهة العدو". وأكد صبري أن اضطرار أهل غزة وفلسطين إلى الهجرة والفرار من بلادهم بسبب العوز وعدم النصرة يلحق الإثم بالمسلمين جميعا لعدم نصرتهم لأهل غزة "لأن كل من يستطيع أن ينصر مسلما ويتخلى عنه يأثم، وهناك الأحاديث النبوية المتعددة في مجال نصرة المسلم الذي يكون في ضائقة وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك". ويرى الدكتور السوسي أن الطريقة المثلى لمنع الهجرة هي معالجة أسبابها، وذلك عن طريق الدعم المادي والمعنوي، ويقول: "أما الدعم المادي فهذه وظيفة أهل الاقتصاد الذين يناط بهم مهمة النظر في الأوضاع الاقتصادية الحالية ومحاولة معالجتها اقتصاديا، بما يعزز صمود الناس على الأرض". ويضيف: "فهناك عوامل كثيرة مساعدة يمكن التعامل معها للخروج من الأزمة، مثل المشاريع الصغيرة، التكافل الاجتماعي، التكاليف الدينية المالية كالزكاة والصدقات والكفارات، وغيرها كثير". ويتابع: "أما الدعم المعنوي فإنه يتمثل في شحذ همم الناس، وتوجيههم إلى أصول العقيدة الصحيحة التي تقتضي ثبات الإنسان على أرضه، وأن الثروة والجاه ومتع الحياة الدنيا هي وسائل وليست غايات، وهذه مهمة علماء الدين والمربين وعلماء الاجتماع". ويشدد السوسي على أنه إذا توفر الإخلاص، ووجدت النية، وتوحدت الأمة، وتجاوزنا خلافاتنا الحزبية والتنظيمية، فبإمكاننا أن نفوت على أعدائنا فرصة تفريغ أرضنا منا، وهجرة أهلنا إلى حيث لا ندري ولا يدرون، ونكون قد أطعنا ربنا وأدينا الواجب الذي كلفنا تعالى به. |