تعتمد مجددا أسلوب تشهد السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، تبدلا جذريا مع خروج معظم المحافظين الجدد من الادارة واقتراب ولاية الرئيس جورج بوش من نهايتها. فتغيير الانظمة ونشر الديموقراطية بقوة العسكر، اصبحا من التاريخ وحلت مكانهما سياسة عودة واشنطن الى اسلوب الحرب الباردة، الذي اعتمدته في مواجهة الامبراطورية السوفياتية والصين في النصف الثاني من القرن الماضي. ومنذ خروج المحافظين الجدد من امثال دونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل وبول وولفويتز ودوغلاس فايث وآخرين من مراكز القرار، اتسع نفوذ وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي ساهمت في اختيار بديل غريمها رامسفيلد، روبرت غيتس، وزيرا للدفاع. والمعروف ان رايس، وهي طليقة في الروسية وخبيرة في شؤون الحرب الباردة، تسعى الى استعادة مشهد حرب الامبراطوريات بين التحالف الغربي بقيادة واشنطن في وجه ما تسميه الادارة الاميركية تحالف الارهاب، بقيادة طهران ودعم دول اخرى. وساهم نفوذ اللوبي اليهودي مساهمة كبيرة في دفع السياسة الاميركية في منحاها الحالي، فاسرائيل، على عكس المحافظين الجدد وصقور الادارة، تنظر الى الشرق الاوسط من منظار استراتيجي وعملاني بحت ولا تكترث لنشر الديموقراطية فيه. وتعتبر الدولة العبرية ومؤيدوها في العاصمة الاميركية ان الخطر الاكبر عليها يأتي من ايران، التي تسعى الى الحصول على اسلحة نووية قد تهدد وجودها. بناء عليه، سعت واشنطن بكل امكاناتها لتثبيت الوضع في العراق من خلال خطة زيادة القوات، وهي خطة قدمتها وسعت الى تطبيقها رايس وفريقها. وترافقت مع ديبلوماسية خلف الكواليس توصلت فيها واشنطن وطهران الى نوع من الهدنة في العراق، توجتها زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد لبغداد، بحراسة اميركية. ويقول خبراء اميركيون، ان حتى بعد الهدنة الاميركية – الايرانية في العراق، حاولت طهران اثارة القلاقل في البصرة، فما كان من الاميركيين الا ان استعملوا القوة بافراط واجبروا الزعيم الشيعي الموالي لايران السيد مقتدى الصدر على اعادة الهدوء او المجازفة بخسارة تنظيمه، حتى في شقه السياسي. بعد هدنة العراق، شرعت واشنطن بالتعاون مع حلفائها في المنطقة من العرب واسرائيل وباكستان وحكومتي افغانستان والعراق، في بناء «جبهة الحرب الباردة» في مواجهة ايران وتنظيم «القاعدة،» الذي اصابته حالة من الشلل بعد الضربات الاميركية الموجعة التي تلقاها وبعد انخفاض منسوب الدعم الايراني له، ما دفع زعيمه اسامة بن لادن في آخر ظهور اعلامي له الى مهاجمة حليف ايران اللبناني، الامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله. ويعتبر الخبراء ان في الجانب الايراني، تلقفت طهران الهدنة وقبلت بها لاعتقادها بان بقاء النظام يرتبط بشراء الوقت لانجاز السلاح النووي الذي قد يمكن النظام، بعد انتاجه، من الثبات نهائيا ومن ابعاد شبح اي حرب قد تشنها الولايات المتحدة عليه. ويدرك الايرانيون، رغم المكابرة والدعاية، ان بامكان القوة العسكرية الاميركية تدمير الجيش الايراني والبنية التحتية في ايام. إذاً، ادركت ايران ان الوقت في مصلحتها وان ابعاد شبح حرب قريبة على حساب تراجع نفوذها الاقليمي آنيا، افضل من مواصلة تسليح وتمويل الحلفاء في المنطقة. بدورها، تعتقد واشنطن ان الهدنة، في موسم الانتخابات الاميركي الحالي، جيدة وانها تفتح الطريق امام «حرب باردة» ستقودها الادارة المقبلة، جمهورية كانت ام ديموقراطية، وستكون الغلبة فيها لاميركا وحلفائها. هذه الصيغة من تبريد المواجهة العسكرية، انقلبت الى مهادنة على مدى المساحة الممتدة «من بحر قزوين الى شواطئ المتوسط»، فتوصلت الحكومة الباكستانية الى هدنة مع مقاتلي «الطالبان» في المناطق القبلية، فيما اقتربت اسرائيل من هدنة مشابهة مع «حركة حماس» في قطاع غزة، واقتربت اكثر من ابرام صفقات لتبادل الاسرى مع حماس و«حزب الله». وكان من الطبيعي ان تنعكس «الهدنة الكبرى» على الساحة اللبنانية، التي حاول فيها «حزب الله» الايحاء ان بامكانه حسم الامور، واذ بدلائل حدود استعمال قوته العسكرية تنكشف امام «الخطوط الحمر» التي وضعها العالم لتأمين الحماية لزعماء تحالف 14 مارس الموالي للتحالف الغربي، مما ورط «حزب الله» في مغامرة ادت الى زيادة في الحقد لدى الطوائف اللبنانية الاخرى، خصوصا السنية، ضده. وبالحديث عن السياسة الاميركية تجاه لبنان اثناء الاعمال العسكرية التي شنها «حزب الله» في العاصمة بيروت والجبل، اظهرت هذه الاحداث ان على عكس العام 2005 ابان «انتفاضة الاستقلال» ، التي ادت الى خروج القوات السورية من لبنان، تراجعت القضية اللبنانية في سلم اولويات واشنطن التي تراجعت اصلا عن فكرة نشر الديموقراطية في المنطقة. وحده مكتب نائب الرئيس ديك تشيني ما زال يبدي حماسة خاصة تجاه الديموقراطية في لبنان في مواجهة «حزب الله» وحلفاء سورية. ويتصدر هذا التيار، كل من جون هانا، مدير مكتب تشيني، واليوت ابرامز، آخر الصقور في الادارة. ويعتقد كثيرون ان هذين الاثنين، من يقف وراء ارسال المدمرة «يو اس اس كول» لترابض قبالة المياه اللبنانية في المرة الاولى، واعادتها من البحر الاحمر الى مواقعها ابان عمليات «حزب الله» في المرة الثانية. ابرامز يؤمن بضرورة خلق توازن لقوة «حزب الله» العسكرية داخل لبنان، وينقل عن احد لقاءاته مع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، ان الاخير طلب منه ان تمارس الادارة نفوذها لدى الاسرائيليين لاجبارها على الانسحاب من مزارع شبعا وانهاء ذريعة المقاومة التي يستخدمها «حزب الله»، فما كان من ابرامز الا ان اجاب السنيورة، ان بعد اي انسحاب من مزارع شبعا، «سيثير حزب الله قضية القرى السبع ويستعملها حجة للابقاء على سلاحه». واثناء حرب «حزب الله» الاخيرة على بيروت، كان ابرامز احد ابرز المهندسين للقاء الذي كان مقررا عقده بين السنيورة والرئيس جورج بوش في شرم الشيخ اثناء زيارة الاخير للمنطقة. الا ان السنيورة الغى اللقاء وغمز من قناة ابرامز في تصريحه الذي كرر فيه مطالبته واشنطن على المساعدة في اعادة «مزارع شبعا» الى السيادة اللبنانية. ومع تراجع الحماسة الاميركية تجاه لبنان واقتراب خروج ما تبقى من الصقور من الحكم بعد شهور قليلة، ادرك قياديو تحالف 14 مارس ان لا حسما سياسيا في الافق بل حرب باردة لبنانية تعكس الحرب الباردة الاقليمية. في هذه الحالة، يقف لبنان امام خيارين: اما دخول حرب اهلية برعاية دولية واقليمية، لا رابح فيه ولا خاسر، واما استعادة صيغة السلم الاهلي الهشة مع تقاسم النفوذ، السياسي والعسكري، بالتراضي بين الاطراف وبغياب العامل السوري الذي كان هو من يملي هذا النوع من التقاسم. الخبراء في واشنطن، اشاروا الى خطاب نصرالله يوم الاثنين، بالقول انه حاول استعادة الصيغة السورية للحكم في لبنان لترجيح نفوذ تحالفه على تحالف 14 مارس، فتحدث عن ابقاء السلاح بموافقة الحكومة وعن موائمة سلاحه ومشروع الحكومة الاقتصادي والاعماري. الا ان هذه الصيغة لن تمر، حسب الخبراء، الذين اعتبروا ان لموقع «حزب الله» وسلاحه، صفة جديدة عبر عنها امير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، اثناء خطابه في البرلمان اللبناني وتقضي بـ «وضع هذا السلاح على الرف وتجاهل الحكومة له كجزء من الحرب الاقليمية الباردة». اما دمشق، فهي الوحيدة التي لم تحسم خياراتها في الصيغة الشرق اوسطية الجديدة التي توصلت اليها اميركا وحلفاؤها مع ايران. وتقول مصادر في العاصمة الاميركية ان بموجب الصيغة الجديدة، على سورية توقيع سلام مع اسرائيل واستعادة مرتفعات الجولان بموجبها، وهو ما اعلن وزير خارجية ايران منوجهر متكي، موافقته عليه علنا. لكن، تضيف المصادر، لن يعود النفوذ السوري الى لبنان، وفي الوقت نفسه لن يكون المطلوب من سورية التخلي عن علاقتها مع ايران. «المطلوب من سورية،» تقول المصادر، «التصرف بموجب معاهدة سلامها مع اسرائيل، فلا يعقل ان تفتح اسرائيل سفارتها في دمشق ويكون مكتب خالد مشعل (رئيس المكتب السياسي لـ «حماس») في الحي المجاور او ان ترسل الاسلحة الى حزب الله». وتتابع: «لن تلحظ معاهدة سلام اسرائيلية - سورية شروط على السياسة السورية تجاه المنظمات الارهابية. سيكون من نافل القول ان تتصرف سورية كدولة صديقة لاسرائيل بعد ابرام السلام بين الدولتين». ان الاجواء السياسية في واشنطن، توحي بان الادارة المقبلة سيكون امامها خيارات مختلفة عن تلك التي اتخذتها الادارة الحالية، فلا حرب ساخنة على الارهاب او الدول الداعمة له بل حرب باردة. وبالحكم على التاريخ، ادت الحرب الباردة الماضية الى الوصول الى سيناريوين مختلفين: الاول ادى الى انهيار الاتحاد السوفياتي الشيوعي والتحاقه بالولايات المتحدة ثم تحوله الى ديموقراطية شكلية، لكن من دون طموحات عالمية او اقليمية، والثاني ادى الى نشوء صداقة وعلاقات تجارية هائلة بين اميركا والصين، في وقت تحولت فيه الصين تدريجيا من الشيوعية الى دولة رأسمالية بامتياز. هذا الفارق، هو ما سيحدد الفوارق بين ادارة جمهورية برئاسة جون ماكين تسعى الى تقليد تجربة الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريغان وزيادة الانفاق العسكري و«حرب النجوم» حتى انهيار الخصم، والثانية برئاسة الديموقراطي باراك اوباما، وتحاول استعادة تجربة الرئيس الجمهوري الراحل ريتشارد نيكسون، الذي زار الصين وفتح بلاده عليها وانفق على سياسات اجتماعية في الداخل الاميركي. لكن بغض النظر عن السياسة التي ستسلكها الولايات المتحدة ابتداء من مطلع العام المقبل، يبدو من الواضح ان المواجهات العسكرية، في العالم عموما وفي منطقة الشرق الاوسط خصوصا، في طريقها الى الانحسار من دون ان يعني ذلك التوصل الى حلول بين الاطراف المتنازعة بل تأجيلها الى موعد في المستقبل يستعيد فيه اي من الطرفين الشعور بالقدرة على الحسم عسكريا. |