المؤتمرنت -محمود الحداد -
نموذج لإغتيال الطفولة..(وزيرة) ضحية الإرهاب الحوثي
لا نبالغ إذا قلنا أن جميع حروف الأبجدية من قاموس لغة الضاد ما عادت تكفي لتكوين مفردات جديدة تليق بوجع وحزن الطفلة “وزيرة “، وحتماً لن ينجح حرف أو حتى ألفا يزيد على الـ"28" في ترجمة دمعة سالت بذهول وحرارة من عينيها عندما فتحتهما لتجد نفسها على سرير مستشفى 48 النموذجي مقيدة بإصابات بالغة في أطرافها وباقي جسمها و في حينه لا تتذكر من أمرها شيء :اسمها – أهلها – جيرانها - قريتها ، لا شيء من ذلك و هكذا لأيام استمرت فاقدة الوعي ، وعلى الرغم مما كانت تشعر به من لحظات توجس ورعب فإنها غالبا ما كانت تتطلع بصمت في وجوه من حولها من الأطباء والزوار لعلها تظفر بواحد منهم اعتادت عليه في يوم من الأيام ، ولكن دون جدوى ، إلا أنها لم تستسلم لليأس وحاولت تنشيط ذاكرتها لتتذكر شيء من ماضيها وكانت البداية عندما صاحت في وجه الممرضة التي نادتها بإسم " أروى " قائلة: "اسمي وزيرة .. اسمي وزيرة .." ثم تساءلت بغضب واستنكار : "لماذا أنا هنا..؟ أين جدي..؟ أين أمي وأبي ..؟ أين إخوتي ؟" ثم بدأت تستجمع خيوط فاجعتها المؤلمة..؟؟؟
خيوط تلك الحكاية الحزينة نسجتها الأفعال الإجرامية للمتمردين الحوثيين المتواصلة على أطفال ونساء ورجال صعدة . عائلة "وزيرة" الكائن بيتها في إحدى قرى مديريات صعدة كانت في كل صباح تستيقظ على شمس دافئة تغريهم بالنهوض باكرا، ومنهم من يَمَّمَ وجهه صوب المزرعة وآخر تهيأ لدخول المدينة لشراء بعض احتياجات الأسرة ، وامرأة تتفقد أغنامها لتسريحها نحو المرعى , و أطفال يعدون الدواب لجلب الماء على ظهرها بأواني بلاستيكية من مكان بعيد ...وإلخ من اعتياديات الحياة الريفية .
غير أن تلك الشمس وعصافيرها توارت وذلك النشاط والحيوية اختفى مع الهجمات الغادرة و المجنونة للمتمردين الحوثيين، الذين لم يتركوا لهم سوى خيارين أحلاهما أمر من الآخر إما الانضمام معهم لمقاتلة الدولة أو ترك أموالهم ومزارعهم وحيواناتهم في تصرف المقاتلين الحوثيين إضافة إلى مغادرة المنزل إلى غير رجعة ، حينئذ لم يكن من الأسرة إلا أن تسلم أمرها إلى الله و تؤثر السلامة على الردى ،فهامت مشردة وانزوت في أقصى جبل تبحث عن أمن مفقود.
الطفلة "وزيرة" صاحبة الأعوام التسعة قصدت مع جدها قرية قريبة من قريتها، فيما باقي أفراد العائلة ساروا باتجاه قرية أخرى ، وقد ظن الجميع أن مأساتهم وقفت عند تشريدهم من المنازل فقط ، دون أن يعوا أن المأساة الحقيقية للتو بدأت وما الذي حدث سوى بداية لفاجعة جديدة أشد قسوة وتنكيلا ، فالحوثيون الذين قاموا بنهب المنزل ونسفه بألغام ومتفجرات سارعوا بعد ذلك إلى تفجير السيارة التي كانت تقل والد وزيرة وأمها وإخوتها وبعض أبناء عمومها ليلقوا بعد ذلك مصرعهم .
أما وزيرة و جدها فلم يكونا على علم بما حدث بباقي أفراد الأسرة غير سماعهم خبر قيام الحوثيين بتفجير المنزل فقط ، وهو الأمر الذي دفع جد وزيرة العودة إلى القرية ليتيقن من صحة ما تناقله الناس ، وما أن اقترب من القرية و معه "وزيرة " وهي تحاول مجهدة اللحاق به وجدا معظم أجزاء المنزل أكواما من الخراب.
لم يستطع جد "وزيرة" أن يقاوم غصة اعترضت حلقه أو يحبس دمعا سال قهراً وغُلباً ،ومع ذلك فقد ظنا أنهما في مأمن وسلام، ولم يكونا يدريان أن عيون الغدر والعنف الحوثية تحاصرهما وتتربص بمصيرهما: انفجار أول ينطلق.. يقطعه انفجار آخر.. وما تبقى من الجدران تصدع وانهار.. و لما حاولا الاقتراب من المنزل وقف لهما بالمرصاد لغم ارضي كان الحوثيون قد نصبه عند مدخل المنزل.. وكان ما كان من صيحات للرعب تتعالى.. و أشلاء تتطاير هنا وهناك سكت على أثر ذلك اللغم آخر أنفاس الجد.. فيما بقت "وزيرة" تصرخ بأعلى درجات ألمها نتيجة تعرضها لإصابات بالغة ومتنوعة تركز معظمها في أطرافها مما تسببت بشل حركتها وقدرتها على السير..
لم يكن من الحوثيين - بحسب وزيرة - إلا أن بدءوا في الرقص على أشلاء جثة جدها الطاعن في السن والتباهي بتصويب رصاصات حقدهم نحو أشلاء جسده الساكن بلا حراك ،وهم يضحكون طويلا.. و يلهون كثيرا حد العجب والكبر .. ثم بعدها ينسحبون تاركين "وزيرة" تواجه لحظات الخوف وانتظار الموت لتدخل- بعد هول المشهد- في غيبوبة من الوعي تصارع لسعات الطبيعة القاسية و هي تنزف دما و ألماً .
تواصل وزيرة : مرت ساعات من الزمن وهرع الناس و أسعفوها إلى المستشفى الميداني التابع لمستشفى 48 النموذجي والذي قرر نقلها إلى صنعاء لتتلقى العلاج في مستشفى 48 النموذجي ترقد على سرير المرض فاقدة الوعي باسم مستعار هو" أروى" تحيطها رعاية تامة واهتمام جم من قبل إدارة المستشفى والأطباء المختصين والممرضات ، ليس هذا فحسب بل أنها – بحسب الدكتور ياسر عبد المغني المدير العام للمستشفى – من ضمن الحالات الإنسانية التي تبناها قائد الحرس الجمهوري العميد احمد علي عبدالله صالح خاصة بعد أن فقدت جميع أهلها .
و نتيجة للعناية الطبية التامة التي تحيط بـ "وزيرة" فهي الآن تتماثل للشفاء غير أنه حتى لو اندمل الوجع في كل جسمها ، فإن وجع قلبها لن يشفى ما بقيت حية ،وسيظل إرهاب الحوثيين يترك في ضميرها ووجدانها ندوبا عميقة لن يمحوها الزمن.
وما يحز في النفس ويبعث على الألم والأسى هو شوقها لأسرتها( أبوها وأمها وإخوتها ) فهي لم تعرف عنهم سوى نزوحهم إلى قرية أخرى ولذا فهي كثيرا ما تترجى الأطباء والممرضات إخراجها من المستشفى وإزالة المسامير المثبتة للكسور والشاش من على أطرافها -لاعتقادها أن كل ذلك يعيقها عن السفر إلى القرية لرؤية أهلها لتخبرهم بما حل بجدها وما قاسته من عذاب وآلام بعد رحيله ..
من المؤكد أن ذاكرة الطفلة" وزيرة " والكثير من أترابها مليئة بمثل هذا الكم من المشاهد الحزينة، وما خفي من ممارسة المتمردين الحوثيين كان أعظم .
غداً ستتساءل "وزيرة" بحرقة (ما الذي جنته أسرتها حتى تشرد وتقتل ويدمر منزلها ؟!). و هذا هو سؤالها المرتجف عندما تعرف حقيقة مصرع باقي أفراد أسرتها ، و بالتأكيد سيبقى هذا التساؤل معلقا دونما إجابة تشفي صدرها المكتوي.
ووحدها ستظل نداءات حقوقية تصدر من هنا وهناك تشبه سؤالها الذي يندد بجرائم المتمردين الحوثيين ، غير أن ما يدفع على التفاؤل أن هناك العديد من المنظمات الحقوقية التي تتحدث عن "همجية" المتمردين الحوثيين في استهداف الأطفال والنساء.
وأحدث الصرخات الإنسانية تلك التي أطلقتها أخيرا منظمات حقوق الطفل في اليمن أدانت فيها الجرائم غير الإنسانية البشعة التي تنفذها عناصر التمرد والتخريب بحق الأطفال في محافظة صعدة و كان من ضمنها إقدامهم على إعدام عشرة أطفال وست نساء في منطقة ذويب بمديرية حيدان بمحافظة صعدة.
الرصد الميداني يؤكد مأساة وضع الأطفال النازحين مع أسرهم نتيجة قلة المواد الأساسية والطبية، وتسبَّب تغير المناخ بإصابتهم بأمراض معوية وجلدية.. إضافة إلى الضغط النفسي للأسر النازحة بشكل عام نظراً لاستهداف الحوثيين لآبائهم وإخوانهم ومنازلهم ومزارعهم .
المنظمات والدولية مطالبة بالوقوف إلى جانب أطفال محافظة صعدة حماية لهم من التعرض للقتل ومنع عصابة المتمرد الحوثي من إجبارهم على القتال في صفوفهم خصوصاً وقد بعثت تلك العناصر الإجرامية صوراً تظهر أطفالاً زُج بهم في معارك لا حول لهم ولا قوة ،أطفال مغلوبين على أمرهم بدرجة مفرطة, وسيكونون بدون شك أول الشهود على الأعمال العدائية التي ترتكب ضد آبائهم أو أفراد أسرهم الآخرين، وهم يُقتَلون, ويُشَوهون, ويُسجَنون.
أطفال انفصلوا عن البيئة المألوفة لديهم, وبالتالي فإنه حتى من ينجح منهم في الهروب ينقصه أي يقين بخصوص مستقبله ومستقبل أحبائه ، و هؤلاء الأطفال الذين يعانون من الاستغلال وانتهاك الحقوق في ظل انتهاكات المتمردين الحوثيين لا ينتظرون مجرد ردود أفعال وتعاطف إنساني، بل هم يتطلعون إلى تطبيق قواعد الحماية التي كفلتها لهم المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وتحويلها إلى واقع معاش يعزز الحقوق ويجلب المسؤولين عن انتهاكها إلى العدالة.
وعليه فإن مسؤولية المنظمات الدولية والحقوقية تتعاظم لتطبيق الأفعال وليس بالمزيد من الأقوال ، لأن ما يشهده أطفال صعدة و منطقة حرف سفيان من قتل وتشريد وتجنيد للأطفال يتطلب تنفيذ التزامات عديدة أطلقت منذ نفاذ اتفاقية حقوق الطفل في عام 1990 وإعلانها شعارا عالميا هو "الأطفال أولاً".