|
نزار الحديثي عالم كبير في التاريخ الإسلامي.. فقدانه خسارة لا تعوض فقد الوسط الأكاديمي والثقافي في عالمنا العربي واحداً من أبرز أعمدته، وأنصع وجوهه وهو المؤرخ والمفكر العروبي العراقي الكبير/ نزار عبد اللطيف سعود ناصر الحديثي، نعم خسرناه جميعاً كعنصر فاعل، وباحث رصين، ومفكر قومي فذ، في عدد من المؤسسات الأكاديمية والبحثية العربية. ففي شهر يوليو 2024م فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها عزّ وجل في مدينته العراقية التي عشقها حتى الثمالة، وهي مدينة كل العرب بغداد حاضرة العلم والثقافة والتاريخ والفكر العروبي والإنساني في عالمنا العربي والإسلامي. تعرفت عن قرب على أستاذنا/ نزار الحديثي في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، حينما تكررت زيارتنا كوفد من جامعة عدن إلي جمهورية العراق الشقيق لزيارة عدد من الجامعات العراقية ومؤسساتها البحثية والسياحية ومراقدها الطاهرة، لأن تُربة العراق تحوي على كوكبة من خيرة قادة الأمة الإسلامية والعربية. زرناه مِراراً لمكتبه العامر في عمادة كلية الآداب جامعة بغداد أنا وأخي وصديقي الفقيد المرحوم أ.د/ صالح علي عمر باصرة رئيس جامعة عدن رحمة الله عليه، مع صديقنا الدكتور/ محمد أحمد فلهوم، وفي كل زيارة جديدة نشعر بأن المكان والزمان يتجددان بشيء حديث وجديد، لأن روح فقيدنا الحديثي هي من تجدد محيطنا المكاني والزماني، تلك الأرواح الجميلة النادرة لا تتكرر في بني الإنسان إلا لنوع نادر من البشر، ونزار الحديثي أحد هؤلاء النادرين الاستثنائيين في الحياة رحمة الله عليه وأسكنه الجنة الواسعة. نزار الحديثي معلم وأستاذ جامعي لعدد كبير من الأجيال في العراق الشقيق وفي اليمن بطبيعة الحال، فهم الأقدر على وصفه ووصف سلوكه وقدراته العلمية والثقافية والإنسانية، ولهذا فهم يتحدثون بتوسع عنه، وقد قابلت عدد لا يستهان منهم وبعددهم من طلابه العراقيين واليمنيين على حدٍ سواء، وقد ترك انطباع إيجابي وجميل لدى طلابه في مسيرة عطائه الثري الطويل، حتى أن البعض يتذكر دائماً في محاضراته، مفرداته اللُغوية اللافتة وسيل معارفه ومداركه العلمية، والثراء الواسع بعلوم التاريخ ومحطاته وأناقته في الملبس والهندام. هذا هو النموذج للمعلم التربوي والعلمي والسياسي للإنسان الجميل والجاد والمؤثر الذي ينقش اسمه وذكراه في عقول ووجدان من تعلموا على يديه والتقوا به وعملوا معه وعاشروه في حلِّه وترحاله. لقد كان المعلم البروفيسور/ نزار الحديثي محباً لتاريخ الأمة العربية كلها، لكنه كان يعشق حد الجنون التاريخ الإسلامي لليمن، وأهل اليمن وعلماء اليمن وفقه اليمن وإسهامات اليمانيين في التاريخ الإسلامي، وكان يكرر في أحاديثه لنا بأنه لا توجد حملة علمية أو عسكرية أو أي مدد في تاريخنا الإسلامي إلا وكان لليمنيين دوراً كبيراً فيها، ولا يوجد قُطر أو بلد إسلامي حديث النشأة في وصول الإسلام إليه، إلا وكان القادة والعلماء والفقهاء اليمنيين موجودون وحاضرون هناك، وقد حدثني قبل مغادرته الأخيرة للعاصمة صنعاء في وداع – كان هو الأخير للأسف – بأن لديه مشروعاً واسعاً جمع فيه معظم تاريخ علماء اليمن من عصر النبوة وحتى عصرنا الحديث وأنه على مشارف الانتهاء منه، وسيكون في عدد من المجلدات، ويتمنى أن يجد من يُساهم في طباعة تلك الموسوعة من اليمن أو من العراق أو من أي قُطر عربي أو أجنبي آخر، وهنا انتهى لقاءنا الجسدي به وودعناه على أمل أن نلتقي مرة أخرى، لكن هي مشيئة الله سبحانه وتعالى أن تكون تلك الرحلة هي رحلته الأخيرة لليمن، نسأل الله له الرحمة والمغفرة وأن يجد أقاربه وأصدقاءه الوقت والإمكانات المناسبة لطباعة تلك الموسوعة الثمينة الغالية. ولديه أيضاً مقالات وأبحاث وكتب عديدة عن تاريخ اليمن بشكلٍ خاص والتاريخ الإسلامي بشكلٍ عام، بعضها قد طُبع ونُشر والبعض الآخر لازال قيد الطبع، ندعو الله العلي القدير أن تُوفق الجهات الرسمية والأكاديمية في إنجاز طبعها ونشرها كي يتم الحفاظ على تاريخ الأمة العربية الإسلامية العظيمة. أمثال المعلم البروفيسور/ الحديثي لا يموتون ولا يغيبون عن ذاكرة الأجيال مهما مر من زمان فراقه، هؤلاء النفر يضلون حاضرون يعيشون بيننا ومعنا في قاعة الدرس وقاعات المحاضرات وساحات الجوامع العامرة بذكر الله والعلوم، ومتواجدون فكراً وذكرى في مراكز الأبحاث وفي غيرها من حلقات الذكر والمناقشات والمجادلة العلمية، وبرغم حزننا الشديد على وفاته وفقدانه الجسدي وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه وعباده، إلا أنه سيبقى حياً خالداً في وعي وذاكرة الأجيال العربية وتحديداً العراقية واليمنية، وذكره يتكرر ويُذكر كما أسلفنا في جميع مراكز العلوم والتاريخ ومع طلابه النجباء الأوفياء. إن من يعرف المعلم/ نزار الحديثي عن قُرب يعرف أن لديه هواية من أعظم الهوايات وهو اهتمامه بالزراعة وتحديداً زراعة وفرز فصائل النخيل العراقي ذائع الصيت والشهرة، وقبل مغادرته مدينة صنعاء اتصل بي هاتفياً، وقال لدي هدية عراقية ثمينة خصصتها لك، وفي الواقع فاجأني بهذا الخبر السار، وقال لدي مجموعة منتقاة ونوعية من فسائل العراق العظيم، أريدها هدية خاصة تزرعها في أرض أهلك في شبوة، وكانت الهدية عبارة عن أزيد من 200 فسيلة من أجود أنواع نخيل العراق، أخذتها منه ممنوناً شاكراً وبعثتها للأهل والأصدقاء ولي كي تزرع في مزارع محافظة شبوة، وكما أخبرني الأصدقاء بأن عدداً من تلك الفسائل قد أثمرت رطباً عراقياً جنياً ذات مذاق خاص، رحمة الله عليك يا صديقي العزيز/ نزار الحديثي حياً وميتاً وستبقى كما أنت مصدر الهام وحلم للعديد من الطلاب والمفكرين وحتى للبسطاء ممن وصلتهم إحدى فسائلك العراقية الراقية. بسم الله الرحمن الرحيم ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)) صدق الله العظيم. رحم الله صديقنا وأستاذنا المعلم البروفيسور/ نزار عبداللطيف الحديثي وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه وطلابه ومريديه ومحبيه الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون. ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ عضو المجلس السياسي الأعلى في الجمهورية اليمنية /صنعاء |