![]() حروب الإعلام.. لفحات ثورة "الانترنت" نال لفح حر “الانترنت” التيار الرئيسي من الصحافيين فشرع هؤلاء بتعلم فن الخشية من الشبكة وسبب هذا الخوف وجيه جداً. وها هنا ينبري محرر “الجارديان” السابق بيتر بريستون للتحذير فيقول: “هل تعني الكتابة على الجدران، أو ان شئت صحافة “الانترنت” موت الصحف؟ ليس بعد، بحال من الأحوال، أو على الأقل لن يحدث هذا عاجلاً جداً أو على الفور. ولكن ماذا عن نذر هلاك الصحف الورقية المطبوعة؟ تلك قضية مختلفة. يشرح جون نوتون الأمر في القسم الاعلامي من جريدة “الاوبزيرفر” فيقول: إن صحافيي التيار الرئيسي كانوا يعرفون على الدوام أن بعضاً من قرائهم يلمون بجوانب من قصة ما أوسع مما يحيطون هم به. إلا أنه وحتى عهد قريب جداً لم يكن ثمة سبيل مجد فعّال يسلكه هذا التشكك ليعبر عن هواجسه علناً، ويقول نوتون: “الصحافة الالكترونية الشخصية الدائبة التحديث ساعة بساعة تغير هذا كله. فالصحافة الجاهلة، المتحيزة أو الكسولة البليدة يتم افتضاحها وتعريتها وتشريحها وانتقادها بقسوة، بل وسلخ جلدها على الفور في وسط له امتدادات وأذرع عالمية لا يعجزها الوصول الى أي بقعة. إلا أن نوتون يبدو متلهفاً على طمأنة نظرائه الاعلاميين وتهدئة روعهم عندما يختتم كلامه بقوله: “لن تجتث صحف الشبكة الالكترونية الفردية أو الجماعية الخاصة الصحافة المطبوعة المعروفة لسبب بسيط هو أن الصحافة تتطلب مهارات وموارد وامكانية لن يحوزها الأشخاص الصحافيون الذين ينشرون عبر الانترنت”. لكن صحافيي “الانترنت” هؤلاء يستأثرون بميزة كبرى يتفوقون بها على صحافة التيار الرئيسي، فنزاهتهم وحياديتهم منطلقة لا تكبلها ولا تحد منها الحاجة الى حماية أرباح ومغانم الشركات. ومع ذلك، تأمل وتدبر فحسب في موقع أمريكي يرصد الاعلام هو “العدالة والدقة في عمل التقارير الاعلامية” الذي وصف في أبريل/ نيسان كيف أن القائمين على الاعلام “قلقون غاية القلق من السيل العارم من الصور الشنيعة المروعة من العراق ومن أماكن أخرى، التي تتدفق، الى غرف معيشة المشاهدين والى مخادعهم، فهذه الصور تنفر المعلنين وتحبطهم وتصرفهم عن الاعلان في هذه القنوات”. وما لبث أن ترددت أصداء هذا القلق، إذ أعلنت المتحدثة باسم احدى الشركات الكبرى أن شركتها “سوف لن تعلن في أي برنامج تلفزيوني يتحدث أو يعرض فظائع أو انتهاكات ترتكب في العراق”. إن ما فعله الغرب بالعراق يفوق الخيال ويكاد يستعصي على التصديق. لقد نشرنا القتل والتدمير على نطاق واسع وملأنا أرض العراق كوارث ومعاناة ونكبنا بلداً من بلدان العالم الثالث كنا قد أوصلناه من قبل الى الفقر المدقع والى حافة الانهيار. ومع ذلك فلسنا نرى سوى لمحات خاطفة للحقيقة على شاشاتنا التلفزيونية لأن صور جثث القتلى المحروقة والأشلاء المبعثرة تعيق تسويق ومبيعات معجون الأسنان وحفاضات الأطفال. فإن لم يكن هذا يعكس قيماً مريضة فأي شيء يعكس، اذن؟ منذ الأيام الأولى للقرن التاسع عشر لجأت الشركات والحكومات الى استخدام الضرائب والسمات والرسوم على الورق والاعلانات لإقصاء الصحف الأكثر راديكالية عن السوق. وفي وقت مبكر من القرن الماضي، ترجمت عملية تصنيع الصحافة (ادخال أحدث مبتكرات الصناعة في حرفة الصحافة) وما صاحبها من الكلفة الباهظة لإنتاج الصحف فصارت تعني أن أساطين وأباطرة الصناعة الأثرياء مدعومين بالمعلنين حققوا الهيمنة فصار لهم القول الفصل في الاعلام الجماهيري. وهكذا جرت عملية الاستئصال والاقصاء المنهجي التدريجي للصحافة الرايكالية التي كانت تنعم بالازدهار سابقاً لكنها اندحرت في ساح المنافسة سواء من حيث الأسعار أو من حيث اتساع دائرة انتشارها. وأما التطور المباغت والمؤهل الذي حدث فهو ان الكتاب غير الشركاتيين أصبحت لهم وللمرة الأولى اليوم سبل فورية مفتوحة زهيدة التكاليف تتيح لهم النفاذ الى جمهور عالمي عريض والتواصل معه والتأثير فيه وفي صياغة أفكاره. والآن، فإن كل ما حولنا يزخر بعلائم تدل على ارتخاء قبضة الاحتكار الشركاتي للاعلام. والرفض الفرنسي يوم 29 مايو/ أيار للدستور الأوروبي، انما تحقق على أرض الواقع، وأصبح حقيقة ماثلة برغم شهور ستة من حملة دعائية مكثفة نشطت في جميع مناحي الاعلام الفرنسي، من القنال “تي إف وان” لتلفزيون الجناح اليميني، الى مجلة الجناح اليساري “لو نوفيل اوبزيرفاتور” الاسبوعية وسارت في ركابها صحافة الشركات والمحطات الاذاعية الرئيسية. بل وحتى المطبوعات الرياضية وتلك التي تعنى بشؤون النساء، وتكاتفت هذه القوى جميعها وتنادت بشكل حثيث لدعم التصويت ب “نعم”. وتورد الصحافية ديانا جونستون على صفحة “زدنت” على الشبكة أن النشر الصحافي عبر الانترنت قد لعب دوراً حاسماً في صياغة الفيتو الفرنسي وتقول: “في حوزة زعماء الاتحادات العمالية والنشطاء السياسيين اليوم سلاح جديد.. وها هو هذا السلاح قد أبلى بلاء حسناً ولعب دوراً مصيرياً في صياغة رأي الجماهير في حملة “لا” الفرنسية. ولم يكن هذا السلاح سوى شبكة الانترنت”. وفرض هذا “السلاح الجديد” حضوراً طاغياً أيضا قبيل غزو العراق فبث في الجماهير روحاً احتجاجية وثابة وقوة حماسية سرت في الشعوب في جميع أنحاء العالم وعلى نطاق مدهش فعلاً. ففي بريطانيا مثلا شهدت العاصمة لندن أكبر مسيرة احتجاج في تاريخ بريطانيا كله يوم 15 فبراير/ شباط 2003 المشهود. * كاتب ومحلل سياسي يشارك في تحرير “ميديا لينس |