آه يا عراق..التهجير والمنافي وفلسفة البقاء قاسية هي الغربة تحت سماء الوطن مالذي يحدث حول بغداد؟ بل مالذي يحدث في بغداد نفسها؟ فربما لم تعد الجثث المكتوفة، والمقيدة، والمقطعة الرؤوس، تثير احاسيس ومشاعر رجال الدين السنة، والكثير من قياداتهم وخاصة بعد اكتشاف تحول احد المدارس الملحقة بجامع الكيلاني الى وكر من اوكار المحطات الارهابية، فارتفع العجب، وبطل الاستغراب، ولذا لا يحق لنا ان ندهش اذا ما تم تهجير بضعة مئات، او الوف من العوائل الشيعية من اتباع اهل البيت عليهم السلام، لا يحق لنا ان نتساءل لماذا اجبروا على ترك مساكنهم، واهليهم ليتحولوا الى لاجئين في حدود الوطن، ليصبحوا منفيين داخل تلك المساحة من الجرح التي تسمى وطنا، لا يحق لنا ان نبكي، ان نحزن مادام كل ذلك يحدث على ارضك ياوطن، آه ياوطن، أه ياوطن، آه. فكم (قاسية هي الغربة تحت سماء الوطن)؟ عندما يصبح البيت الامن خيمة مهاجرة، عندما تصبح الوسادة اللينة صخرة من ارض المنافي، واللحاف الدافيء ظل شجرة تساقطت اوراقها من الف، آه والف آه ياوطن، منذ عاشوراء والدماء حناء نسائنا، منذ عاشوراء ونحن نخضب الشيب بالدم القاني كي نعود شبابا في عيون امرأة تكحلت بالصبر مرة، وبالقهر مرات، منذ عاشوراء وحشو وسائدنا الانين، والنساء يبنين خيامهن على حافة الجرح، ينتظرن هجرة بعد هجرة، فالاطفال تركوا الاقلام والدفاتر، والرجال اجساد بلا رؤوس، وكانه لم ينقص ارض الرافدين لقب آخر كي تصبح (ارض المنافي)، وكأن تاريخ الهجرات نسي ان يضع العراق في فهرست الغربة فأراد ان يفعلها الان، فهل يحق لنا ان ندهش؟ فالضاري وهو يشرب شاي الصباح بهدوء لا يريد لنا ان ندهش، أليس هذا هو قدر الشيعة؟ قدرهم ان يقتلوا، ان تقطع رؤوس الرجال (وما حسين منكم ببعيد)، قدرهم ان ينفوا، ان يهجروا، ان يبنوا خيامهم على حافة الجرح، مادام كل ذلك يسعد الضاري والدليمي، ويرسم البسمة على وجه أخرين، فما ضير الشيعة ان يذبحوا وان تنتهك اعراضهم؟ ولماذا ينزعج الشيعة اذا تم تهجير بضعة الاف من العوائل من اتباع اهل البيت عليهم السلام لان بعض السنة والارهابيين يكرهون مجاورتهم لهم؟ ولماذا يكتب البؤساء من امثالي عن قسوة الغربة إذا لم يجد شبرا يدفن فيه في أرض الوطن؟ وكيف سأصف الوطن لطفلي؟ هل سابقى اخط على ورقته خطوطا زرقاء لاقول له أن هناك نهرين في ارض الوطن!! هل الون ظفائر ابنتي باللون الاخضر لادعي ان شعرها بات بلون سعف نخلة البرني في باحة بيتنا العتيق؟! هل اكتب قصائدي بالحبر البني لتنسجم مع لون الطين؟! هل افعل كل ذلك ليطمأن الضاري والدليمي باني سابقى في منفاي مهاجرا، ومهجرا وكي لا يجدوا شيعيا ينافسهم في ارض الوطن؟! ولكن كيف ينسى اؤلئك ان المنافي لا تعني الانسلاخ من رحم الوطن، كيف لهم ان يدركوا ان واحدنا مازال مرتبطا بالحبل السري في جذر نخلة من ارض الوطن، هم تصوروا ان المنافي ستنسينا رائحة الوطن، نكهة الوطن، وذاكرة الوطن، كل هؤلاء هم من انسلخ من رحم الوطن رغم انهم مازالوا يعيشون على ترابه، كل هؤلاء جهلوا ان الوطن ليس قلم حبر يرمى اذا ما نفذ منه المداد، جهلوا ان الوطن ليس دمية يعبث بها طفل ثم يرميها ضجرا، كل هؤلاء جهلوا ان الوطن صبغة ثابتة وازليه في الجينة الوراثية، وإنا ما زلنا نحمل الوطن في دمائنا، وفي خلايانا وان تهجرنا الفا، ونفينا الفا، آه ياوطن.. لتلك المرأة التي نصبت خيمتها على حافة الجرح، لجسد زوجها المقطوع الرأس، للرضيع الذي امتلأ صدره بتراب الغربة، للدروب التي وشمتها اقدام المنفيين في غرباتهم المتلاحقة، للنخلة التي صار سعفها سقفا في عصر المنافي، للوطن الذي حاز لقب وطن المنفى، حيث الشيعة مازالوا ينفون على أرضه من الف، لطفلي الذي رسم على اوراقه نخلا، لابنتي التي عاشت رعب المنفى ورسمت الوطن خارطة علقتها في جيدها، اقول: "اذا كانت الغربة قاسية خارج الوطن، فكم (قاسية هي الغربة تحت سماء الوطن)"؟ هناك حيث يصبح الرمل منفى، والمدن منفى، والقمر الطالع ليلا منفى، يا هذا الوطن المسكون بالغربة، الراحل في عباءة إمرأة نصبت على حافة الجرح خيمتها، يا إمرأة لملمي جراحك فالاتي اصعب، فعندما يصبح من عناصر فلسفة البقاء تحويل المساجد الى اوكار للموت، فالاتي اصعب، وعندما يلعب الاخرون الشطرنج برؤوس الرجال المقطوعة منذ راس الحسين عليه السلام، فالاتي اصعب، وعندما تدفع النسوة للعيش على جرف الموت، فالاتي بالتاكيد اصعب. من ذاكرة الغربة للغربة طعم الحنظل بين الاسنان، وجع الجراح المحشوة ملحا، ورعشة الحروف في دفتر شاعر مهاجر، عندما تصير المدن محطات على دروب المنافي، عندما يصبح البقاء محكوما برصاصة افلتت صدر صبي اسمر لتسقط بعيدا، أو خيمة مهاجر تضرب اطنابها تحت سماء اخرى، آه.. من لي بحفنة من ترابك ياعراق لا تحمل رائحة الدم، من لي بكف اصافحها لم تلوثها بقعة دم، اقول لكل اللاهثين وراء الترحيب وتقبيل الارهابيين، اقول للحاضنات التي حولت الصحراء الغربية اوكارا تعشش فيها خفافيش الليل،: ان للغربة طعما يوقظ الدماء الجارية انهارا لتصبح سكاكينا تقطع ايدي الارهاب، إن للمنافي ايقاعا آخر يتجاوز حد لحن حزين.. حيث (الابوذيات) ليست مجرد قصائد تحاكي وجع السنين.. وحيث النخل سيبقى شامخا ولو قطعتم كل البساتين.. إن للمنافي وجعا كوجع (امرأة حبلى بالولد البكر) حيث الرجال لا يولدون إلا بالانين.. وان في ارحام الشيعيات الف عباس يولد.. وإنا مازلنا في هذا الوطن الضارب في عمق الجراحات نولد.. ياهذا الصبح القادم في نور المهدي القائم نولد..من ذا يخاصمنا في حب اهل البيت عليهم السلام؟ فهل معاوية إلا في مزبلة؟ وهل يزيد إلا في جب النار؟ ياهذا الليل ان في وجع المنفى اعصار، يحرق عفن الافكار.. ها نحن نفتح ذاكرة المنفى.. ايمكن لقاتل الحسين عليه السلام ان يعفى؟ كلا فالثورة فينا يا وطن، الجرح فينا..والغربة فينا.. وكما قال الحسين عليه السلام: (هيهات منا الذلة). *باحث واكاديمي عراقي الرأي الآخر للدراسات- لندن [email protected] [email protected] |