وهم إسرائيل المتبدد لا أبالغ إذا قلت إن هناك نقطتي تحول في الصراع العربي الإسرائيلي، الأولي: كانت حرب تشرين التحريرية التي أبلي فيها الجنديان السوري والمصري بلاء أكثر من حسن، وهـزّا هيبة الجيش الإسرائيلي الذي كان يتبجح بأنه لا يـُقهر. أما الثانية، ومن دون أدني شك، فهما العمليتان النوعيتان اللتان نفذتهما المقاومتان الفلسطينية واللبنانية بأسر جنود إسرائيليين من مواقع عسكرية محصنة. قد تبدو العمليتان من الناحية العددية ليستا ذات أثر كبير علي الجيش الإسرائيلي. لكن المضاعفات والتطورات التي نتجت عنهما تنطوي علي الكثير من المؤشرات والمعطيات. واعتقد أن هناك مثلاً صينياً ينطبق علي إسرائيل قبل وبعد العمليتين. يقول المثل: لا تتمسكن كثيراً، فقد تصبح مسكيناً . بعبارة أخري، فإن إسرائيل كانت تصور نفسها عالمياً من خلال وسائل الإعلام الصهيونية بأنها عبارة عن حمل وديع مسكين في غابة من الوحوش العربية الكاسرة. وهي ما لبثت تستعطف الغرب باعتبارها، كما وصفها إسحق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي أثناء مؤتمر مدريد، مجرد واحة وادعة صغيرة في خضم عالم عربي هائج متوحش ومترامي الأطراف. وقد جاءت المعركة الأخيرة مع حزب الله لتظهر أن هذا الوحش الإسرائيلي الكاسر الذي كان دائماً يتمسكن ويتصنـّع المسالمة والضعف والوداعة، بينما كان يمارس أبشع أنواع الهمجية والوحشية، أصبح قاب قوسين أو أدني، مسكيناًً فعلاً، أي أنه كان له ما تظاهر به. ولعل أقوي مؤشر علي تضعضع القوة الإسرائيلية وتخبطها واهتزازها وخوفها من التصدع، ربما لأول مرة بعد حرب تشرين، هو تصرفات قادتها الجنونية والمتخبطة. فقد أدلي رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود ألمرت قبل أيام بتصريح غريب يعكس حالته النفسية قال فيه إنه سيتصرف بطريقة أن رب البيت قد جن . وشهد شاهد من أهله، فلو استمعنا إلي تصريحات الوزراء والمسؤولين العسكريين الإسرائيليين العنيفة والصارخة علي مدي الأيام الماضية لاشتممنا منها رائحة القلق والخوف والجنون أكثر منها رائحة القوة والبأس والثقة. وقد تعلمنا من علماء النفس أن الشخص الذي يطلق كلاماً كبيراً قد يفعل أفعالاً صغيرة. وغالباً ما تكون العنجهية الكلامية مؤشراً علي تضعضع داخلي، فيغطي من خلالها المتضعضع اهتزازه وقلقه. أما الأقوياء فعلاً، فيتكلمون قليلاً ويفعلون كثيراً. لقد عودنا القادة الإسرائيليون علي مدي تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي علي الاقتصاد في التصريحات والتخفيف من العبارات النارية علي مبدأ السيف أصدق أنباء من الكتب . بعبارة أخري، فقد كانوا يتركون أفعالهم العسكرية تعبر عن قوتهم وبأسهم، مكتفين بما قل ودل من الكلام الهادئ والخافت، أي علي عكس العرب الذين كانوا دائماً يقولون كلاماً كبيراً ويفعلون أفعالاًً مضحكة، علي مبدأ تمخض الجبل فولد فأراً. لكن الوضع بدأ يتغير تماماً في الآونة الأخيرة، وتحديداً بعد المعركة مع حزب الله. فقد استخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي عبارات من قاموس العنتريات العربي، وتبعه وزير دفاعه الذي راح يهدد بطريقة جنونية: سنحطم حزب الله، سنكسر إرادته ، إلي ما هنالك من العبارات الطنانة. لقد امتلأت التصريحات الإسرائيلية بوابل من الكلمات العنيفة جداً، وكأنهم بذلك يعوضون عن وضعهم النفسي المهتز. وهناك مثل صيني آخر ربما ينطبق علي أولئك الذين يُخفون ضعفهم بالصوت العالي. يقول: الكلاب التي تنبح كثيراً قلما تعض، وإن عضت فمن شدة الخوف . لكن لا أريد أن نفهم من المثل أعلاه أن الإسرائيليين أصبحوا لا حول ولا قوة لهم عسكرياً، بل ما زالوا مسلحين بأعتي ما توصلت إليه التكنولوجيا من أسلحة. لكن الطريقة التي يستخدمون بها تلك التكنولوجيا وتلك الأسلحة الرهيبة لا تنم عن قوة، بقدر ما تنم عن هوس وخوف واهتزاز نفسي، خاصة وأنهم اعترفوا بذلك ضمنياً من خلال إطلاقهم عبارة الوهم المتبدد علي عمليتهم ضد المقاومة الفلسطينية، أي أن وهم القوة الذي كان يراودهم بدأ يتبدد فعلاً. فالذي يرد علي عمليات عسكرية فلسطينية ولبنانية بالضرب خبط عشواء واستهداف المدنيين من اطفال وشيوخ ونساء وتدمير محطات المياه والكهرباء والبني التحتية والمطارات المدنية والقنوات التلفزيونية ليس بطلاً بالمعني العسكري، بل جبانا ورعديدا من الطراز الأول. واعتقد أن أطباء النفس لا بد وأن يفسروا التصرفات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في لبنان وفلسطين علي أنها تصرفات جنونية مرعوبة أكثر منها استراتيجية، فالقوي العسكرية الواثقة من نفسها لا تتصرف بتلك الطريقة الوحشية الهوجاء، ولا تلجأ إلي سياسة يا ربي تجي بعينو . ولا أجد مثيلاً للتصرفات الإسرائيلية سوي تصرفات الجنود الأمريكيين في العراق، حيث يبدأون بإطلاق النار حتي علي العصافير والحساسين الجميلة التي تطير فوق ثكناتهم، ناهيك عن فتح النار علي كل من يقترب منهم حتي علي بعد كيلومترات. وهذا، بالمفهوم العام، مؤشر علي الخوف والقلق أكثر منه مؤشر علي القوة. وكان أحد القادة العسكريين الأمريكيين في العراق قد وصف وضع جنوده هناك بأنهم أشبه بـ قطيع من السمك في حوض مائي . وبينما اتسمت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بالعنجهية والعنترية، جاءت تصريحات الأمين العام لحزب الله هادئة ومتزنة وواثقة، فلم يلجأ إلي العبارات الطنانة، ولم يهدد بطريقة صارخة، بل اكتفي بإشارات ذكية ولفتات مؤثرة. لا عجب أن الكثير من الإسرائيليين قالوا لوسائل الإعلام أكثر من مرة إنهم يثقون بكلام حسن نصر الله أكثر مما يثقون بكلام القادة الإسرائيليين. وهذا دليل آخر علي اهتزاز صورة القيادة الإسرائيلية حتي في عيون شعبها. أي أن الآية قد انقلبت. لقد فضح حزب الله أسطورة إسرائيل وأظهر هشاشتها الجغرافية، خاصة بعد وصول صواريخه إلي العمق الإسرائيلي في مدينة حيفا وغيرها، لا سيما وأن الإسرائيليين يتجمعون في منطقة صغيرة جداً جغرافياً، لو عرف العرب كيف يستهدفونها لجعلوا قاطنيها كالأرانب المذعورة علي الدوام، كما يؤكد مهندسو المقاومة. وليته بذلك يوضح للمفتونين بالقوة الإسرائيلية كيف يمكن أن تنال من ذلك الكيان، وتعرّيه عسكرياً وسكانياً، رغم كل سطوته العسكرية الرهيبة، وتجعل قادته، بقليل من القوة والإرادة، ينطون كالقرود علي شاشات التلفزيون، ناهيك عن جعل أوهامهم تتبدد كسحاب الصيف. |