الإسلام والصراع على السلطة يكثر الحديث عن الإسلام في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية. وليس المقصود منه عرض الإسلام في ذاته أو بيان حلوله لبعض المشكلات والأزمات الطاحنة التي تمر بها المجتمعات العربية والإسلامية، بل المقصود من كل خطاب، على رغم تنوع الخطابات، الصراع على السلطة. فالسلطة هدف الجميع، حكومة ومعارضة. تستعمل الدولة، أي النظام الحاكم أو الحكومة بالتعبير الشعبي، الإسلام لصالح البقاء في الحكم والاستمرار في السلطة. فالإسلام في الصحف هو الإيمان ومضمونه العقائدي الغيبي أو الشعائري، السمعيات وليس العقليات، النظريات وليس العمليات. وهو الاعتدال ضد التطرف، والتسامح ضد العنف، والوحدة الوطنية ضد الفرقة، وبناء المساجد والكنائس على حد سواء، دون تمييز لفريق على فريق، وعيد ميلاد المسيح إجازة رسمية مثل المولد النبوي سواء بسواء. وتقيم الدول أصلاً مسابقات تحفيظ القرآن. وتساهم في إقامة الأعياد والموالد للأولياء. وتحافظ على التراث، وتطبعه وزارة الثقافة. وتقوم الدولة من خلال وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بذلك. ومشيخة الطرق الصوفية تابعة لرئاسة الجمهورية مثل جامعة الأزهر ومكتبة الإسكندرية. وتُبقي على الإسلام ديناً رسمياً للدولة بالرغم من اعتراضات العلمانيين بأن الدولة لا دين رسمياً لها لأنها تمثل جميع المواطنين بصرف النظر عن إيمانهم. وتُبقي على المادة الثانية التي تنص على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع حتى لا تزايد الحركات الإسلامية عليها. وهي تعلم أن كل ما يُسن من قوانين في البلاد مثل قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وقانون مكافحة الإرهاب، كلها- حسب البعض- معارضة للشريعة الإسلامية التي تؤكد حرمة المسلمين، أعراضهم وأموالهم. وهي تعلم أيضاً أن كل ما يحدث في البلاد من احتكار تجارة الحديد والإسمنت، وتلاعب بالأسعار، ومضاربات في العقارات، وبيع أصول البلاد، مصانعها، وجامعاتها وبنوكها بدعوى الخصخصة والدخول في عصر العولمة والمنافسة واقتصاد السوق إنما هو ضد الشريعة الإسلامية التي تحرم الاحتكار، والتلاعب بالأسواق، وبيع الركاز أي كل ما هو في باطن الأرض كالمعادن أو ثابت لا يتحرك، لا ينقل في الأسواق. والإسلام أيضاً في أيدي أتباع حركات الإسلام السياسي ليس المقصود به الإسلام في ذاته بل الإسلام من أجل الوصول إلى السلطة، الإسلام في معترك الصراع السياسي. فهم بزعمهم المحافظون على تراث الأمة العريق من الاندثار والضياع، والداعون إلى التواصل معه. ولا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وهم يزعمون أنهم المدافعون عن تطبيق الشريعة الإسلامية ضد القانون الوضعي الذي يلاقي تحته المواطنون أشد ألوان العذاب في المكاتب الحكومية وفي أجهزة الدولة. وهم المدافعون عن الهوية ضد التغريب، والمتمسكون بالأصالة دون الحداثة، والمحافظون على روح الأمة الخالدة ضد إغراءات الدنيا. شعاراتهم سلطوية إقصائية أحادية الجانب. "الإسلام هو الحل" مع أنه لا يوجد حل واحد لأي قضية. "الإسلام هو البديل"، والبدائل متعددة. ولا يوجد بديل واحد إلا في أوقات الهزيمة بحثاً عن الخلاص وتعلقاً بطوق النجاة. "تطبيق الشريعة الإسلامية" للثورة على القوانين الوضعية وبالتالي الثورة على الدولة من أجل الوصول إلى الحكم. وهدف هذه الشعارات هو تقويض ما هو قائم وليس تغييره إلى ما هو أفضل والبناء عليه. فالهدم يأتي قبل البناء. والبناء يأتي بعد الهدم. الإسلام هنا وسيلة للوثوب إلى السلطة. وهو حق مشروع لكل القوى السياسية في البلاد. فليست السلطة حكراً على أحد. بل يتم تداولها طبقاً لصناديق الاقتراع والانتخابات الحُرة مهما تغيرت مواد الدستور إلى البقاء في السلطة أكثر من دورتين ثم إلى مدى الحياة. والدين في أيدي العلمانيين يقوم على تشويه متعمد له من أجل إبعاد خصومهم الإسلاميين في الصراع معهم على السلطة. فـ"الدولة الإسلامية" أيضاً حسب العلمانيين في حقيقتها دولة دينية وليست دولة مدنية. يحكمها رجال الدين باسم الله ونيابة عنه. هي دولة ثيوقراطية. إمامها مثل ولاية الفقيه. قضى عليها الغرب في عصوره الحديثة، واستبدل بها الدولة المدنية، وفصل الدين عن الدولة، والسلطة الدينية عن السلطة السياسية، والكنيسة عن الدولة. ولما شاعت ثقافة الغرب، وعم نموذجه، وتم إسقاطه على باقي الثقافات والشعوب، كره الناس الإسلام وخافوا منه. فمن يريد العصر الوسيط، وتحالف الكنيسة مع الملكية كنظام سياسي ومع الإقطاع كنظام اجتماعي؟ وهل يرضى الأقباط أن يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية كـ"أهل ذمة"؟ وأهل الذمة في الاستشراق الغربي الذي ذاع وانتشر مواطنون من الدرجة الثانية. أقلية وسط الأغلبية. تؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون. والرأي العام العالمي، وأقباط المهجر جزء منه، يروجون لمثل هذه الأحكام الخاطئة طلباً لتأييد الغرب لحقوق الأقليات، واستعداء للدول الكبرى والمنظمات الدولية خاصة الأمم المتحدة التي نصبت نفسها مدافعة عن الأقليات، وتصدر القرارات الدولية بمعاقبة الدول التي تنتهك حقوقها باسم الإسلام. وأتباع حركات الإسلام السياسي لا يسلّمون بتداول السلطة. إذا وصلوا إليها فإنهم باقون فيها إلى الأبد كما أعلن مرة رئيس جبهة "الإنقاذ" في الجزائر بعد نجاح الإسلاميين في الانتخابات البلدية أن هذه آخر انتخابات. وما بعد الحق إلا الباطل. فأخاف الناس، وأثار الجيش، فانقلب عليهم، انقلاب على انقلاب، وسلطة على سلطة. يخلط الإسلاميون بين الدين والسياسة. ويستعملون الدين لصالح السياسة دون كشف ذلك أيضاً في منطق الدولة من أجل إقصاء الخصوم. والدين تجربة شخصية في حين أن السياسة فضاء عام. الدين علاقة الإنسان بينه وبين ربه. والسياسة علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. الدين لله والوطن للجميع. والإسلام وفق هذا الزعم ضد حرية الفكر. لا يقبل الحوار مع الخصوم. يكفرهم ويستبعدهم ويزيحهم ويقصيهم بل ويصفيهم جسدياً، ويستعمل كل وسائل العنف من أجل تخليص المجتمع من الفرق الهالكة باسم الفرقة الناجية. يحكمون بمفردهم ولا يدخلون في جبهات وطنية مع باقي القوى السياسية، الليبراليين والماركسيين والقوميين. فقد اغتيل حسن البنا في العصر الليبرالي. وأُعدم سيد قطب في العصر القومي الاشتراكي لممارسة العنف وتكوين التنظيمات السرية لقلب نظام الحكم. وقد لا يطيق فريقان من جماعات الإسلام السياسي بعضهما بعضاً. كل فريق يريد الحكم بمفرده كما هو الحال في السودان بين الحكم والجبهة القومية في المعارضة. والشريعة الإسلامية وفق هذه الرؤية القاصرة تبدو وكأنها فقط الحدود، قطع الأيدي والرقاب والجلد والرجم والصلب والتعليق على جذوع الأشجار والحريم وتعدد الزوجات والطلاق وعدم مساواة المرأة بالرجل والتخلف ومعاداة العلم والمدنية إلى آخر ما يقوله الاستشراق التقليدي. ولا فرق بين ما تروجه الدولة ضد الإسلاميين وما يروجه العلمانيون ضدهم. فالعدو واحد. إن تشويه الإسلام من أبنائه في أتون الصراع السياسي ضد العلم وضد الوطن. فليس من مصلحة الدولة ولا العلمانيين ولا جماعات الإسلام السياسي تشويه الإسلام وتسليمه لأعدائه لصالح الصراع السياسي على السلطة. السلطة زائلة وثقافة الأمة باقية. الأصلح للجميع حفاظاً على تراث الأمة الذي يكوّن الرافد الرئيسي في ثقافتها السياسية التعامل مع الإسلام في ذاته وكيف أنه قادر على الدفاع عن مصالح الأمة واستمرارها في التاريخ والدخول في تحديات العصر: تحرير ما تبقى من الأراضي المحتلة في فلسطين وسبتة ومليلة وما زاد عليها في العراق وأفغانستان والشيشان كما يريد الوطنيون جميعاً، وتحرير المواطن من كل صنوف القهر السياسي والاجتماعي تحقيقاً لشعار "لا إله إلا الله"، والجهر بالحق، وقول كلمة حق في وجه الحكم كما يريد الليبراليون، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس وجعل العمل المصدر الوحيد للقيمة بدلاً من التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء وتهريب الأموال والاتجار بالأرزاق كما يريد الماركسيون، والدفاع عن وحدة الأمة ضد مخاطر التجزئة والتفتيت العرقي والطائفي، وتحقيق التنمية المستقلة في أمة متكاملة في اقتصادها بين الثروات والعقول والسواعد كما يريد القوميون الوحدويون، والدفاع عن الهوية ضد التغريب والتمييع كما يريد الإسلاميون، وتجنيد الجماهير وحشد الناس الذي تعاني من غيابه جميع فرق المعارضة. ليس من مصلحة أحد تشويه الإسلام من أجل الصراع على السلطة، بل من مصلحة الجميع إبراز قدرة تراث الأمة على تحقيق مصالحها الوطنية وأن يكون وعاء للوحدة الوطنية التي يجتمع فيها كل الفرقاء على الحد الأدنى من المصالح العامة على مستوى العمل، مع أكبر قدر ممكن من التعددية السياسية وحق الاختلاف على مستوى النظر. *نقلا عن جريدة "الاتحاد" الإماراتية |