|
|
الدكتور/ احمد عبيد بن دغر - البيض والسقوط حتى قاع الرذيلة
قبل خطاب البيض المشئوم، والهزيل في مضمونه كان البعض يحتج على اختفاء صورته عند رفع علم الجمهورية، المشهد الذي يتكرر دائماً في كل وسائل إعلامنا تذكيراً بلحظة تاريخية غيرت مسارنا، هي إعلان دولة الوحدة، ترى هل بقي لهؤلاء حجة أو سبباً للإحتجاج بعد هذا السقوط المريع للرجل في وحل الخيانة، هل يجرؤون اليوم على طرح هذا السؤال؟ هل بقي للرجل العار حق الإدعاء بقدر ولو ضئيل للانتساب إلى يوم الوحدة ليحسب على صناعها..؟ هل بقي له الحق في الظهور مرة أخرى إلى جانب الرئيس (الصالح)، الذي حصل على هذا الفضل كل الفضل باقتدار وأحقية لم تعد قط محل نقاش.
في الواقع الصورة تسجيل للحظة تحول واقعية مصيرية ونادرة.. لحظة ضرورة تاريخية تراكمت عواملها وحضورها على مدى زمني طويل بدءاً من ثلاثينيات القرن الماضي، وانتهاء بـ22 مايو المجيد.. وكونتها عوامل دفع ذاتية أخرى ما لبثت أن أثمرت هي محصلة طويلة لعوامل خلق اجتماعية واقتصادية وتاريخية، صادفت زعيماً فذاً ملهماً وداهية التقط معطياتها فحولها إلى فعل عظيم بحجم الوطن، لا يضاهيه فعل، ولن يرتقي إلى مستواه انجاز يشكل حاضرنا، وكل مستقبلنا.
كنت ممن توقعوا، وربما ممن تمنوا أن يحافظ البيض على ما تبقى له من رصيد سياسي، بعدما أهدر كل رصيده الوطني، كان صمته محيراً، وكان كلما أمعن في الصمت ازدادت التكهنات حول حقيقة مواقفه.. وأزعم أنني لم أنخدع قط بهذا الصمت، فالذين خبروا حياة التآمر، والغدر قليلاً ما تصلح الأيام من أحوالهم. كانت الجبهة القومية التي انتمي إليها فصيلاً قومياً، وكنت أظن أن طول فترة التربية القومية تجعل المنتسبين إلى هذا الفصيل أكثر حصانة في وجه المشاريع الصغيرة، ومن باب أولى قادتها، فالحركة علمانية بطبيعتها.. هذه الحركة كانت قد حسمت الجدل داخلها حول هوية القضية الوطنية في منافحة الاستعمار البريطاني وصولاً إلى الاستقلال..
فكانت الجبهة بهوية يمنية... كما كانت معظم فصائل العمل الوطني قبلها وبعدها، حققت استقلالاً يمنياً للشطر الجنوبي، وأنشأت دولته اليمنية على جزء في التراب اليمني، وآمنت بوحدة يمنية جعلتها طوال تاريخ وجودها كدولة قضية جوهرية تسبق أحياناً ماعداها من قضايا أخرى كانت تشكل الإطار السياسي لتلك الدولة .. وكان رجالها وطنيين وقوميين.. وفجأة قلب البيض ظهر المجن لهذا التاريخ وتلك الحقائق..
منافق من طراز جديد
وأجزم الآن بأن دوافع البيض نحو الوحدة اليمنية لم تكن دوافع وطنية أو وحدوية، وهي خارج نطاق أي انتماء قومي.. ألم تثبت الأيام حقيقة هذه المواقف اللاوطنية، اللاوحدوية اللاقومية..؟! ما الذي بقي للبيض الآن ليحسب في صف المناضلين، ألم يكن سبباً ومسؤولاً مباشراً عن حرب 1994، حينها كان منافقاً من "طراز جديد" فهو لم يقل أنه يريد دولة جنوبية.. بل قال "بدولة يمنية ديمقراطية" وللأسف وجد من يصدقه، ويمضي خلفه، كان قبل ذلك قد أوهم رفاقه الاشتراكيين بأنه اشتراكي حتى النخاع، ثم انقلب عليهم، الواحد، تلو الآخر، كان رجلاً بلا مبدأ، بلا أخلاق، بلا هدف، وإن كان هناك من يرفض هذه الحقيقة، فليعطني هدفاً نبيلاً له، أو خُلقاً عالياً عرف به، أو هدفاً سامياً أمتثله تحقق أم لم يتحقق.
ويبقى السؤال ملحاً إذا كيف نفسر موقف علي البيض من اتفاقية 30 نوفمبر 1989م، ما هي الدوافع الحقيقية للرجل، وبأي عقلية، وفي أي بيئة وقع الاتفاقية ومضى إلى 22 مايو المجيد.. ثم سرعان ما افتعل أزمة 1994، وخلق شروط الحرب وسعى إلى الانفصال، وهي مواقف متناقضة، محيرة.. أظن الأيام الأخيرة قدمت الإجابة النهائية القاطعة عليها. في الواقع كان البيض قد لاحظ بالتجربة وتراكم خبرة التآمر، أن وجوده كأمين عام للحزب لم يعد محل إجماع من المكتب السياسي واللجنة المركزية وبعض القيادات العسكرية.
أولاً- لمزاجية خاصة حكمت سلوكه القيادي كانت تفاجئ الكثير من رفاقه.. ومزاجيته أحياناً ترقى إلى حد الانتقام وخاصة تجاه أعز الناس عليه، وممن يحتلون مواقع هامة في سلم القيادة الحزبية.. وكان أولاد الشيطان يؤججون هذا الاتجاه فيه، ويفتعلون الإشاعات والأكاذيب حوله، فادخلوه في حالة من الشك، تحولت إلى رغبة في تصفية وإقصاء بعض من أعضاء المكتب السياسي، واللجنة المركزية.
وثانياً- كانت رغبته في الجمع بين منصب رئاسة هيئة رئاسة مجلس الشعب، "رئاسة الدولة" وبين منصب الأمين تثير حفيظة آخرين، وهذه الرغبة تصدى لها من كان لهم مصلحة في بقاء الحال على ما هو عليه، وتمسكوا بما تم الاتفاق عليه في يناير المشئوم تمسكوا بصيغة »القيادة الجماعية«، بعدما كانت القيادة الفردية قد أدت فيما أدت إلى يناير.. لذلك لم يجد غير الوحدة مفراً مما هو فيه.. وخيراً فعل.. وكان لهذا العمل الذي وسم بالوطنية أن يكون كافياً ليبقى اسمه مخلداً في قائمة عظماء اليمن
حلف يناير وبدء التآكل
لكن هذا التفسير سيكون أحادي الجانب، إذا ما أهملت عوامل أخرى بدت حينها موضوعية، وعلى قدر كبير من الأهمية، فهناك جانب اقتصادي بدا ضاغطاً على البيض والقيادة السياسية، فقد توقفت عملية التنمية، أو كادت، إلا من مشروعات ضئيلة، وازداد عدد العاطلين عن العمل، وظهرت بوادر رفض للنظام بين شريحة غير قليلة من السكان، وأحياناً تمرد عبَّر عن نفسه في الشارع، وهؤلاء كانت آمالهم في الوحدة كبيرة.. وكل محاولة من جانب البيض أو القيادة السياسية للتلكؤ في التقدم خطوات نحو الوحدة تضيف تعقيداً أكبر للمشهد السياسي.. وكانت آخر الحكومات أشبه بحكومة تصريف أعمال.. وهذا موضوع آخر للحديث.. فالحكومة بعد 13 يناير فقدت الكثير من الدعم الوطني.. وخرجت أبين وشبوه من قاعدة النظام الاجتماعي.. ولم يتصرف الرفاق بالحكمة التي اتصف بها فخامة الأخ الرئيس/ علي عبدالله صالح الذي خلق فضاءً جديداً للتسامح السياسي والوطني واستوعب كل قيادات الحركة الوطنية، حتى الذين وجهوا إليه إساءات مباشرة.
وكان بإمكان البيض، وخاصة وقد أعطاه السوفييت -وما أدراك من السوفييت- ضوءاً أخضر، وأبلغوه رسمياً بأن من مصلحة البلاد أن تعيد ترتيب علاقاتها مع الأشقاء الجيران، ودول الغرب.. وهذه الإمكانية كانت دونها تاريخ طويل من الخلاف، وحاجز من الايديولوجيا، وحتى بافتراض نجاح علاقات ايجابية مع الأشقاء، وافتراض وصول مساعدات اقتصادية، فالبيض كان يدرك أن عوامل الصراع على قمة السلطة لن تتوقف وأن حلف يناير المنتصر قد بدأ في التآكل.. ولابد أنه قد استذكر مصير الرئيسين قحطان الشعبي وسالم ربيع علي.. وأيقن بأن التناقضات بعد جولات من الخلاف لن تتوقف عند حدود، وبدا له أكثر فأكثر أنه الطرف المستهدف والوحدة هي مخرجه. ولا بأس أن يعيد خلط الأوراق، فللحفاظ على ذاته لابد أن يتقدم نحو الوحدة، وبدا حينها وحدوياً من الطراز الأول، وقدَّر له الرئيس علي عبدالله صالح شجاعته في اتخاذ القرار، وأحبه الناس، ومنحوه ما يستحق من احترام ومكانة.
وكان المشهد الدولي يمر بحالة تغير جذرية، وبوادر هذا التحول قد تكونت مع بداية 1985، فقيادة الاتحاد السوفييتي قد قررت التخلي عن دور القطب الثاني في العلاقات الدولية.. أو أن الصراع، وسباق التسلح، وفشل منظومة الاقتصاد الاشتراكي وغيرها قد أرغمت هذه القيادة على التنازل أمام النهوض الرأسمالي العارم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لابد لحلفاء السوفييت أن يدركوا بأن المتغيرات سوف تطال دولهم، وأن عليهم أن يستعدوا بدورهم لهذا التحول.
وقرأ علي البيض تفاصيل المشهد، ورغم أن الوحدة هي آخر ما كان يطرأ على باله إلا أنه لم ير بداً مما لابد منه.. وكان يعرف ما للوحدة من مكانة في أعماق أعماق المواطن اليمني في النفوس والعقول، فقد وجدها الفرصة الوحيدة والمتاحة لنقل الخلاف والصراع إلى مستوى وأرضية أخرى. في الشطر الشمالي من الوطن، ظلت الوحدة هاجس كل الزعامات والقوى الوطنية التي تسنمت مقاليد الحكم، وخلال ربع قرن من التشطير تقريباً، سعت الزعامات في الشمال والجنوب وتحت ضغط متزايد من قبل المواطن اليمني الذي لم يتخل عن حلمه في وحدة يمنية عظيمة تعيد له مقومات الحياة، وتضعه على خط التطور الحضاري، سعت هذه القيادات إلى الاقتراب أكثر فأكثر نحو الوحدة، مرة بسبب الحروب، ومرات كثيرة استجابة لرغبة الشعب.. وثالثة لقانون البقاء للأقوى والأصلح.
نهج متميز اختطه الرئيس لكن أحداً من زعماء اليمن شماله وجنوبه لم يدرك ما للوحدة من أهمية قصوى في حياة الشعب، كما أدركها الرئيس علي عبدالله صالح.. لقد سعى إليها بثبات، وعزيمة وإصرار لا يلين، وكان مدركاً واعياً بمدلولاتها، وانعكاساتها على اليمن حاضراً ومستقبلاً، كانت له رؤاه واتجاهاته التي لم يحد عنها منذ توليه السلطة في 17 يوليو 1978، وكانت هذه باختصار هي إعادة الاستقرار إلى الشطر الشمالي من اليمن الذي عصفت به الأحداث والأنواء، وكان منها القضاء على التمرد في المناطق الوسطى المدعوم جنوبياً، وتالياً تطبيع العلاقات مع قيادة جنوبية بدت منهكة ومضطربة بفعل أحداث ما بعد 1978.. كانت الوحدة في أجندته الوطنية قضية فوق إستراتيجية.. سخَّر لتحقيقها كل الإمكانيات، ومارس أشكال عديدة من الممارسة السياسية الناجحة المتفائلة، ولكن المثمرة.. وتشدد أحياناً، وأظهر اللين والمرونة أحياناً أخرى، وبدا داهية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لأنه كان يدرك أن التاريخ يكاد يقول كلمته الأخيرة في هذه المسألة.
خاض تجربة تنموية حققت نجاحاً، تجاوز ما حققه الجنوب بمراحل، بل ما حققته الثورة اليمنية شمالاً خلال العقود الماضية، تراكمت انجازاته التنموية، حتى غدت عامل جذب آخر للكثير من العاملين في جهاز دولة الجنوب.. حيث الفوارق في الدخول واضحة، كما استهوت أصحاب رؤوس الأموال الذين كبلتهم الإجراءات الاشتراكية، وذوي القناعات الإسلامية أو القومية الذين لم يكونوا على وفاق مع الفكر الاشتراكي، وأخيراً أصحاب الأملاك المصادرة الذين كانوا على يقين أن الوحدة سوف تعيد تصحيح أوضاعهم.. طالما وأن النهج الوطني الاقتصادي للرئيس كان واضحاً في اعتداله، وفي تشجيعه للقطاعات الاقتصادية المختلفة.. وكان التأميم في الشطر الشمالي أمراً منكراً. وكان الحزب الاشتراكي، وكل قادته أو جلهم على الأقل قد آمنوا بالوحدة بطريقتهم، وبخياراتهم الراديكالية، وفي سبيلها خاضوا تجارب من النجاح والفشل على طريق تحقيقها، وظل معظمهم وحتى اليوم متمسكاً بهذا الخيار، لكن أحداً منهم لم يتنبه إلى المقاصد الحقيقية للبيض.
(فك الارتباط) مصطلح مخابراتي لقد نجح الرجل في خداعهم دائماً، ثم خدعهم في صمته فابقوا عليه في سلم القيادة، وعندما لم تعد هناك من حيل وألاعيب يمكن أن تنطلي على أحد، قال لهم البيض بعبارات مختصرة مخادعة مخاتلة ومنافقة "أنا لم أعد يمنياً، فهويتي جنوبية، ولم أعد وحدوياً فأنا مع الانفصال أو أنا مع فك الارتباط" وهو مصطلح فيه نكهة مخابراتيه وخبرات عدائية قديمة طالت الوطن العربي كله. وأخيراً أبلغهم أنه لم يعد ينتمي إلى الحزب الاشتراكي . فانطبق عليه القول المأثور (صمت دهراً ونطق كفراً). انقلاب كلي على الوحدة والحقيقة لم يبدو مختلاً ونزقاً في تفكيره، مهزوماً في داخله كما بدا في خطابه الأخير، ولاشك أن هذا التحول قد أذهل القيادات الاشتراكية، وأنصارهم.. وبعضهم مازال حتى اليوم تائهاً وضائعاً، وبعضهم انكفأ على ذاته فلم يعلق بكلمة وقد كان أولى واظهر بالتعقيب من موقعه القيادي، إلا أن أكثرهم غباءً، وأبعدهم تطرفاً، كان ذلك الذي هلَّل وكبَّر للبيض، وكالببغاء ردد بعض أقاويله، ولهج بحماقاته، حتى وهو يمضي في عاصمة أوروبية إلى أخرى متطفلاً أو متطلباً للدعم وموضوع الهوية الجنوبية التي دعا إليها البيض وقادة الحراك، مسألة لا يجوز المرور عليها مرور الكرام أو الصمت إزاءها، إنها مسألة تتعلق بحاضرنا ومستقبلنا معاً. وعمى الوان..! والذين يحاولون إثارة المشكلات ودعوة الأهل في المحافظات الجنوبية إلى الاعتراف "بالمسألة الجنوبية" لابد أنهم قد أصيبوا بقدر ما من عمى الألوان.. بافتراض حسن النية، فمطالب دعاة "المسألة الجنوبية، تقترب في المضمون وحتى في الشكل من دعاة الهوية الجنوبية، والوقوع في فخ المفردات الرمادية، هو ذاته الذي يقود إلى فخ مؤازرة التمرد في المناطق الشمالية, والقول بأن دعاة التمرد في صعدة لا يحملون مشروعاً رجعياً امامياً كهنوتياً، كالقول تماماً أن المسألة الجنوبية شيء والهوية الجنوبية شيء آخر. الأولى عند البعض وليتهم يدركون قبل فوات الأوان أن "فرض الاعتراف بالمسألة الجنوبية هي الخطوة التي تسبق تماماً الاعتراف بالهوية الجنوبية" إنها انقلاب كلي على الوحدة، وعلى الشعب والتاريخ، وهو مالا يجوز ولا يجب أن يحدث، لا عن طريق المسألة الجنوبية، ولا عن أي طريق اخر. وإقامة فواصل واضحة، لا تقبل الخلط والابتذال بين المطالبة بالحقوق والدعوة إلى انفصال هي قضيتنا جميعاً وواجبنا سلطة ومعارضة.
دعاة من خارج التاريخ ليست هناك هوية جنوبية، هناك هويات صغيرة ذابت في الهوية الأكبر هي الهوية اليمنية، اليمن الموحد أعطانا جميعاً هوية نفتخر بها، وسوف تفتخر بها الأجيال القادمة من بعدنا، أعطتنا دولة، ومجتمعاً وثقافة أعلى من كل الثقافات المحلية تمثل سياجاً يحمي الوحدة ذاتها، فكلما ازداد اهتمامنا بالثقافة الوحدوية، ازددنا تمسكاً بالوحدة ذاتها. دعاة الهوية الجنوبية، قادمون من "خارج التاريخ" وأضيف التاريخ الحديث الذي ما زالت أحداثه وشخوصه ماثلة، وهؤلاء هم حلفاء البيض، ويا لهم من حلفاء.
إن دعاة الهوية هؤلاء يحاولون العبث بالألفاظ، ولكنهم أحياناً يتجاوزون الألفاظ إلى أفعال منكره يحرمها الدستور، ويعاقب عليها القانون.. يبذلون قصارى جهدهم لاستغلال صعوبات التطور والتحول التي تمر بها بلادنا، ذلك أن الوحدة في حد ذاتها هي في الواقع تحول وتطور استراتيجي.. وكل عملية تحول بحجم الوحدة اليمنية لابد وأن تخلق واقعاً جديداً، حالة التخلق هذه لابد وأن تترك شقوقاً في جدار الماضي القديم، وصدوعاً في بنيانه، وقد ترافق هذا التحول آلاماً، أو تنتج عنه مشاعر بالإحباط حيث يتأجل تحقيق بعض الأحلام، لبعض الفئات والأفراد، يتولد عنها شيء من الرفض خصوصاً لدى الذين عاشوا إما على هامش العملية الإنتاجية، أو أن هذه العملية ذاتها قد تجددت في صور وأشكال مختلفة، أو مسها الضعف، فيما بقيت هذه الفئات على حالها. و(عزف انفصالي) على وتر الصعوبات وقد عزفت القيادات الانفصالية على وتر هذه الصعوبات، وبينما تحرك البعض مستفيداً من منظومة الحقوق، ومن المناخ الديمقراطي لاستعادة حقوق سابقة، والتحرك سلمياً، إضراباً كان أو اعتصاماً أو تجمعاً وبما لا يخالف القانون وكان مثل هذا التحرك يحظى بعطف واهتمام الرئيس، وتأييد قوى المجتمع الملتزمة خط الوحدة والديمقراطية ، كان أخرون يرون في ذلك فرصة لاثارة المشكلات وزرع الفتن.
لقد التقطت القيادات الانفصالية هذه الحالة، وخاصة في مديريتين أو ثلاث مثلت معظم تكوينات الجيش في الجنوب سابقاً، ومؤسسات الأمن المختلفة، لقد أوهمت هذه القيادات هؤلاء المحتجين سلمياً أن الاحتجاج لن يعيد حقاً، وأن حقوقكم تتجاوز الأجور والمرتبات أو حقوق التقاعد، وإن استعادة هذه الحقوق لا تتحقق إلا بالانفصال ويا لها من جريرة كبرى، انساق البسطاء خلفها، ورددوا شعارات يندى لذكرها الجبين.
الوحدة وعدالة تقسيم الثروة لقد كانت من فضائل الوحدة أنها قد أعادت بناء أسس جديدة لتقسيم الثروة، ونستطيع أن نقول بأن المحافظات الجنوبية والشرقية قد حصلت على نصيب كبير من عملية التنمية وعلى مختلف المستويات، كما أن الوحدة وقد أرست دعائم النظام الديمقراطي الأمر الذي أتاح للجميع فرصة الوصول إلى السلطة ولكن عبر صندوق الاقتراع.. وتوزيع حصص السلطة والثروة مقسوماً على عشرين مليوناً غيره مقسوماً على مليونين.. بالتأكيد خصماً من البعض، وإضافة إلى البعض، وقد وافق الجميع على اعتبار الدستور عقداً جديداً لدولة الوحدة، ولأن مفهوم العدل قد أصبح أشمل وأوسع مدى، فقد اعتبر البعض ذلك التوزيع أو إعادة التوزيع ظلماً، فالعدل في نظر هؤلاء هو أن تحصل على كل شيء.. أو أن تحتفظ بكل شيء.
وحتى لا نقع في فخ التعميم، فالتعميم غالباً لا يتفق وحقائق الواقع فلابد أن نبادر بالقول إن العقلاء في هذه المناطق، وقد كانت الوحدة هدفاً أسمى في ماضيهم وحاضرهم قد ثبتوا على مواقفهم، وحاولوا دائماً فتح آفاق جديدة تتناسب وهذا التحول والتغير الذي لم يصب بنية المجتمع السياسية، بل وأصاب بعض فئاته الاجتماعية وهؤلاء يقفون على أرض صلبة، ولم يعد بإمكان البيض ومن تبعه من الموتورين خداعهم.
والنهضة التي كانوا يحلمون بها كانوا على ثقة بأنها لا تتحقق إلا في ظل الوحدة أياً كانت الصعوبات التي تمر بها.. كانوا مناضلين وحدويين، وكانت قناعاتهم راسخة يؤكد هذا أن الذين ما زالوا منهم على قيد الحياة لم يغيروا موقفهم من الوحدة، وما بدلوا تبديلا، وظاهرة الشباب، وبعض من كانوا على هامش الوحدة، أو على هامش مؤسساتها الذين يخرجون أحياناً لقطع طريق، أو الاعتداء على المؤسسات الأمنية، إنما هم من أغوتهم الشعارات الانفصالية القادمة من الخارج والمدعومة بالمال المرذول .
البيض وبذخ عطايا المخابرات إن لعلي البيض ومن انخدع بمواقفه ومواقف غيره من القابعين في العواصم الأوروبية، ويعيشون في منتجعاتها، في بذخ مقرف، أن يستخدموا ما نهبوه من أموال الجنوب في العبث السياسي، ويمكنهم أن يضيفوا إلى هذا المال بعضاً من عطايا المخابرات الأجنبية، لكنهم أبداً لن يتمكنوا من إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، فقد تحصن المجتمع جيداً بالخبرة والمراس والإيمان بالله وبالوطن.. وهوية اليمن التي يحاولون التشويش عليها هي كالذهب يحتفظ دائماً بمواصفاته وقيمته في كل الأزمنة، صلابة ومرونة ولمعاناً، أما في وجدان الناس فإنها في مرتبة العقيدة بعد الإيمان بالله. لذلك لا يختلف الوطنيون الحقيقيون حول الهوية اليمنية، لكنهم قد يختلفون حول دستورهاً، والقوانين المنظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي نظامها السياسي، وهم قد يغيرونها ويستبدلونها بما هو أفضل وأنفع، والتغيير هنا ضرورة، وسنة من سنن الحياة، وهذا لعمري ما ذهب إليه اتفاق فبراير هذا العام بين المؤتمر والمشترك، وهو اتفاق في تقديري استراتيجي، وسوف تظهر ايجابياته على الحياة السياسية والديمقراطية، بمجرد وضعه موضع التطبيق.
إن الأعمال المخلة بالنظام والقانون، كتلك التي يختلقها دعاة الانفصال مع كل مناسبة، للأسف استثمروا أحياناً المناسبات، والدعوة لنشر ثقافة الكراهية وممارسة العنف سوف لن تؤدي إلا إلى مزيد من الوحدة، وقد لاحظنا كيف خرج الآلاف من أبناء الضالع قبل أيام يهتفون بحياة الوحدة.. لتؤكد الضالع هويتها اليمنية التي لم تتخل قط عنها وإن حاول المرتدون خلاف ذلك.
ولعل الاحتفال بسبعة يوليو كان قد أصبح من الماضي، هناك رؤية متسامحة جعلت الوحدويين يكفون عن الاحتفال بهذا اليوم، كيوم للنصر، وكان ذلك عنوانا على ثقافة متسامحة للرئيس، لم يتخل عنها قط في كل مراحل قيادته لليمن.. لكن دعاة الانفصال أبوا إلا أن يحتفلوا بهذه المناسبة بطريقتهم، أو بالأصح حاولوا التعبير عما في نفوسهم المريضة، من حقد دفين، وثقافة هابطة ولأن حماية الوحدة، والدفاع عنها هو دفاع عن الوطن، والكرامة والشرف فعلى هؤلاء أن يتوقعوا خروج الملايين في المحافظات الجنوبية والشرقية قبل المحافظات الأخرى ليذكروهم بقيمة الوحدة، وأهمية الدفاع عنها، واعتبارها خطاً لا يجوز لأحد أياً كان تجاوزها، سوف يكون الرد عظيماً لعظمة الوحدة.. والمسؤولية هنا دفاعاً عن الوحدة تتجاوز حدود الحزب الحاكم والمعارضة الوطنية لتصبح مسؤولية فردية لكل فرد من أفراد المجتمع، وقد أثبت شعبنا بأنه أهلٌ لهذه المسؤولية، وأكثر اقتدارا على تحمل تبعاتها، فلن يكون اليمن إلا موحداً، إلا جمهورياً، إلا ديمقراطياً، والأيام بيننا..
*الامين العام المساعد للمؤتمر الشعبي العام لقطاع الفكر والثقافة والاعلام والتوجيه والارشاد
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
RSS |
حول الخبر إلى وورد |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|